د. سمر مطير البستنجي
09-30-2011, 02:30 PM
قصه
بِشارة القدر الرحيم!!
كخصلة شعر تمدّدت باستحياء على جبين غادة حسناء..وقبل عبثية الصباح الأثيريّ بقليل ..كان الشارع العتيق ينام في أحضان السوق الكبير منصفا إياه الى نصفين...مسترخيا على جبين الأرض يرشف من نداها قطرات تبشّر بقرب تولدّ الحياة في أحشاءه ..ريثما يستفيق النهار معلناً حلول وقت الإنفجار البشريّ الأعظم..
بدا السوق ساكنا قبيل توقد الهجير، واشتعال البشر تحت جمرة الشمس الكبيرة بقليل..ثم ؛ما أن فضحت الشمس سرّ النهار الغافي على أطراف الليل..حتى استفاق مجنونا كمن هاجمه كابوس مرعب...
استفاق يضجّ بضوضاء تخنق طعم الهدوء..وتلوّث حاسّة السمع، فلا تَستبين ولا تستكين..كل شيء يعبق برائحة الفوضى..وكأن الكون يستعدّ لزلزلة وشيكه..
ووسط المتاهة العظيمة هذه..كانت سمراء ذات الثلاثين،تعبر ككل الأجساد العابرة إلى حيث السوق.. ترفّ بشبوبيتها وكأنها النسمة الطائرة..تحوم حول مواقد المارّين فتُشعل حطبهم الهاجع..وكأنها جاءت تشارك في هذا الاحتفال الكبير اللامناسَبة له ..تستمع لأصوات البائعين وهم يهتفون لسلعهم..وترقب فرحة المشترين بمختاراتهم...
أقدام تتبعثر على جسد الشارع المهتريء بفعل خطوات هاربة وكأنها تفرّ من خطب ما ،أو كأنها تلحق بموكب الزمن اللامنتظِر..
وعيون تتأرجح في فضاءات المغيب ،تُرسل وتستقبل..ترمي بكرات محاجرها على كل الأشياء من حولها ..تصطدم ثم ترتدّ؛ حيث الدماغ منهمك في تفسير صور الأشياء على حقيقتها.
الكل يراقب الكل دون سبق إصرار وترصد..ولكنها قوانين الأسواق وفوضتها المحتّمة على كل الحضور.
واكتملت دائرة الحضور!!
فها هو" مجد" يراها من بعيد..وكأنما خلا السوق من ساكنيه إلاّ منها...يخالها جنّية خرجت إليه من تحت عباءة القدر. أو كأنّ القمر قد زاره يمشي على الأرض الهُوينا.."واثق الخطوة يمشي ملكاً"..فتسارعت كلمات كوكب الشرق تطرح نفسها بلا استئذان على لسانه الذي جفّ ، فلم تستطع التزحلق عليه والعبور، فابتلعها مُتشردقاً بمعانيها التي لم يُدركها قبل الآن..
مشت أمامه وكأنها تدوس على صمامات شرايينه فاختنق بدمائه الحارّة..وغير آبهٍ بمئات العيون التي تصول وتجول كحرّاسٍ حول جسده دونما إذن حراسهٍ منه ..توجه نحوها ليتأكّد إن كانت هي حقيقة أم مسّ من الخيال .
تفاجأت به يحوم حولها..يُغرقها بنظراته..فصوّبت نحوه لِحاظها تستكشف..تحاول سَبر غَور ذلك العابر إليها عبر بوابة المجهول..فما أن التقت النظرات بالنظرات.. حتى تولّد تيار كهربائي ، سرى كرعشة خلخلت جذور أجسادهم..
صوّب نحوها سهام عينيه دون رحمه.... كعنكبوت رمى شِباكه بعناية..وأفرز سمومه بغزاره..فإذا بالضحية كتلة مشلولة الأطراف ..معقودة اللسّان..مشرّدة الفكر .. إذ استشرى السُّم الزُعاف يحرق أوصالها..
تسمّرت "سمراء"في مكانها..لا تستطيع الحِراك..تحمل جسداً ثقيلا مُترنحا من سُكره..تحاول استنهاض قواها.. تفرُك اليد بالأخرى؛ ربما لتولِد في جسدها طاقة البقاء والثبات..ثم تلسع جلدها تنشر الدماء فيه.. تُعالج مسامه الإسفنجية التي استقبلت حالة خدرٍ لذيذه... وكأنما جيوش نملٍ اجتاحته..تَخُزّهُ...تستلذّ طراوته... تنتظر حظّها من سُكّره اللذيذ..فأضحت كتفاحة شهيّه ..أنضجت جمرات الدهشة وجنتيها ..وغدت حمراء ممتقعة بدمها الثائر المتحدّر من اعتمالات وخلجات روحها الحرّى..أو كرعشة سراب ارتسمت خيالاً سوّاحاً تراقص في ارتماءة شمسٍ خياليةٍ كاذبة على صحراء نفسها الظمأى...هكذا بدت!!.
أما هي!!
فلم تكن أقلّ سُمّية منه..فها هي تحاصره..تتصدى بأعتى أسلحتها لهجومه الشرس المباغت.. فعينيها غدت لساناً ناطقاً لحظة سكون الكلمات وانتحار الأحرف..تحدّثه بها...تضخّ في كل نظره ألف معنى في معنى واحد...وترسم بأهدابها صوراً عدّة في صورة واحده...حيث اختفت كل الأشكال والأشياء من حولهم...ولم يبقَى إلاّ صورتهم...صورتهم هم وحدهم فقط ..
ودونما سابق إنذار..انسلّت برقة نسمة ساحرة ماكرة تفصل روحه عن جسده..وتفرز كميات هائلة من هرمون أنثويّ شديد التأثير لا يُقاوَم..يقتل دونما إذن أو حتى عُذر..
تغلغلت بلطف خبيث في ثناياه..تحيط بجسده الأثيريّ ..تنام في إغفاءةٍ لذيذهٍ داخل بطانة هالته النّورانية..ثم تتسلل بخفة لصّ ماهر إلى حيث الروح ، فتنتزعها وتحتفظ بها في جيوب جيوب أعماقها...فلقد تحولت دون أن تدري إلى !!
"" أنثى قاتله بامتياز"".
فلقد عبرت الآن.. الآن فقط حدود طفولتها التي غَفَتْ على أعتاب ماضيها....
بدت لهم الحياة وهم يَرون بعضهم لأول مرّه..كقطعة حلوى..فتقاسماها بكل ما احتوته من أشياء ..كل شيء حتى هو،،وهي ..أما القمر فكأنما انشقّ إلى نصفين..نصف في السماء بقي يبارك حبهم ، يضيء ليلهم القادم....والنصف الآخر "هو" بالنسبة لها..."وهي "بالنسبة له..
تنبهت لجريمتها ، وهي تَغرز سكاكينها في جسده الشامخ أمامها..وخشيَت عليه من خدوش سهامها..فاستلّتها وأشاحت الوجه بعناء شديد....تحاول جيوش رموشها التي احتشدت حول شواطئ عينيها في مهمّةٍ حراسيّهٍ، وطلعةٍ استكشافيةٍ أن تصوّب المسار، وترسم طريق العودة الآمن ..تحاول مُجهدة الإنقضاض واحتواء النظرة الهاربة، لتواري معانيها ألفاضحه...
واستفاقت من شبه غيبوبتها تحتوي جسدها المتناثر.. وتلملم بقايا كبرياء أنثى مغرورة قاتله... فها هي تهرب كغزالة برّية يتربص بها أسدها..ذاك الذي يروق لها رغم خطورته.
انطلقت هاربة ترجو النجاة...مسرعة تسابق الريح.. تقاوم جاذبية الأرض من تحت قدميها ،الأرض التي أفرزت لتوّها صمغاً شديد الفاعلية أبقى جسدها متسمّرا في مكانه..فاستعادته بعناء شديد وغادرت...ولكن إلى أين المفرّ!!..فها هي تحمل روحه بين ثناياها..فهي لم تغادر إلاّ المكان ..المكان فقط.
افترقا..! بعد أن تعاهدا ؛ وبلا شهود على رعاية هذا الوليد الجديد (الحب) ..ذلك الصغير بحروفه الكبير كِبر الكون المترامي...الممتد حولهما بلا بداية ولا نهايه..افترقا يحمل كل منهما بين أضلعه مِزقة من جسد الآخر،ونبضة من قلبه،ولحظة من لِحاظ عينيه..موثّقين عهد الحبّ بخلجات صادقة من أرواحهم العطشى ..لا بشفاه ناطقه،أو أذن سامعه ، أو كائنات شاهده.
كم هو غريب ما حدث!!
أتستطيع نظرة هاربة من خلف أسوار الجفون أن تُوثّق العهود..وتؤلف بين الغرباء؛ فإذا بالإثنان واحد.. رغم غربة الجنس والمكان؟؟؟
ذهب هو إلى حيث لا تدري سوى أنه قد أخذ روحها معه..وواصلت هي طريقها إلى حيث المنزل بتوجس،وثرثرات نفسها يتعالى في الذات صوتها..
ثم استفاقت من ذهولها على صوت أمها تناديها:
سمراء أين كنت ،لما هذا التأخير؟؟ لدينا ضيوف ..أسرعي، إنهم بانتظارك..كلهم يريدون رؤيتك!!
تنبهت سمراء لنفسها ، وأقفلت أبواب خيالاتها..وسدّت طرائق ثرثراتها..وأخرجت زجاجة عطرها ؛ ربما لتواري رائحة الحب الذي عبّأت به كؤوس نفسها فطفق وتعالى شذاه...ومشّطت سواحل عينيها بكحلها الشديد السواد ، لتخفي ما يمكن أن يكون قد علق بمحاجر عيونها من نظرات شاردة، فيتكشّف سرّها للحاضرين.
دخلت باستحياء شديد..تحسب أنّ جسدها كله يَنضَح بالحب..وهم يرقبون فعلتها..تمالكت نفسها وأفشت السلام ،ربما لتسلم مما قد وارت... ومما قد يكتشفون.
قطع صمتها صوت إحداهنّ- محور الجلسة المفتوحة- وهي تقول:
ما شاء الله!! أهذه سمراء التي كانت منذ وقت ليس ببعيد تعانق دميتها...أهذه سمراء ذات الشعر الأسود المترامي بكل استرخاء على أعناق أكتافها..كبرت بهذه السرعة..كم أصبحت جميله!!
ردّت امّ سمراء بابتسامة لطيفه: نعم هذه هي..أرأيتِ كيف أن البنات يكبرن بسرعة كالزرع على ضفاف البحيرة.
دارت بين الزائرات عبارات الإستهجان التي أثقلت كاهل الأم المسكينة!!!
هذه تقول:غريب كيف أنها لم تتزوج حتى الآن..وثانيه:انتبهي لابنتك فلقد تعدّت العشرينات....وثالثه:فعلاً الشباب ليس لديهم نظر.وأخرى تقول:أظنّ أنه العين أو السحر إرقي لها....وأقرب صديقاتها تقول: اطمئني فأنا من سيبحث لها عن عريس.. ،وأطلقت ضحكة لا يُدرك لها معنى .
ارتعشت سمراء كأنها تنفض عنها غبار داء لا يُرجى شفائه يراه غيرها من حيث لا تراه، وتبسمت عنوة..وتباعدت شفاهها الصغيرة؛ وكأنها تود أن تقول لهم:
" آه !! ليتكم تدرون سمرائكم الصغيرة هذه كم كبرت هذا اليوم..كيف اختزلت نظرات عابره من وسيمها كل الأعوام الفارّة من عمرها في لحظة نضج واحده ، فإذا بها عروس كل ما فيها مهيأ وبشده للحب وللزواج". لكنها تمسك زمام أمورها،وتربط على شفتيها وتتظاهر بالحضور الكامل بينهم...ترمقهم بنظراتها ..يخيّل إليها أنهم يخنقون بثقلهم أنفاسها..يكبتون حريتها..يكبحون جماح انطلاقاتها..
غادر الضيوف المكان فتنفّست الصُعداء.. وكأن سحابة دخان قد انقشعت بعد أن ضللت المكان كقبّعة سوداء لا منافذ لها ، سدّت طرائق الضوء ومنافس الأوكسيجين..والتهمت ألق الشمس.
نامت..نامت سمراء ملء جفونها وهي ترقب خطواته آتٍ إليها عبر شبابيك أحلامها...واستفاقت تقبّل وجه الصباح ..وتعانق النسيم الذي أرخى على الأرض جدائله ..تخال انه ما جاء إلاّ ليحملها إليه...فلبست وتجمّلت وتعطّرت كأنما هي حورية بحرٍ ستحمل أمتعتها وتهجر بحرها لتستقر في السماء..هناك حيث قمرها.
توجّهت إلى أمها التي كانت تحتسي قهوتها الصباحية كالمعتاد...وألقتْ عليها تحية الصباح بنكهة لذيذه..كنكهة حبّها...وطبعت قبلاتها على يديها الحانيتين ؛وكأنها ترجوها أن تدعو كي يَمنّ الله عليها فتلقاه..ورشفت من فنجان قهوتها رشفة جديدة المذاق، مثيرة الرائحة ،مميّزة اللون ..وكأنها لأول مرّة تعرف ما تكون القهوة!.
وانطلقت..انطلقت إلى حيث قلبها..تبحث عنه..تقلّب نظراتها ما بين السماء والأرض..تَهُمُّ أن تسأل عنه الزهور والسيارات والناس ..وحتى بوابات البيوت التي تمرّ من أمامها كالحلم السريع المرور...
ها هو..ها هي تلقاه..وها هو يراها...تلعثمت الحياة كلها أمام ناظريهم..ككلمة في فم أخرس...يتمنى أن تخرج حاملة اختلاجات نفسه،وهي تأبى الخروج ..فيهُمُّ بالبكاء فلا يستطيع...كل شيء من حولهما تجمدّ ،حتى الدماء في عروقهما ...
خيط نورٍ سرى بينهما...تولّد لتوه كناقلٍ لأثيرهِما..تعبر من خلاله روحها كي تعانق روحه..ويعبر هو بروحه إليها...اختُزلت كل الكلمات والهمسات واللمسات ..وكل ما يتمنى المحب في نظرة صامته كثيرة المعاني.
واستمرّ الوضع هكذا "نظرة حب فابتسامة فاشتهاء"حتى لُدغ الوقت بعقارب الغروب...وأيضاً لا كلمه!!!.
وتعددت صباحات اللقاء ...ولا زالت لغة العيون تسيطر على الأجواء...مختلطة بخلجات النفس ورقصات القلوب...وتنازلت فيها الشفاه عن النطق..واكتفى كل منهما بهمس الروح للروح عبر أثير اللغة اللامسموعه .وفي كل صباح كانت شجرة الحب تزهر تحت لهيب شمسهما وتكبر...
افترقا من جديد..كلاهما يلوم نفسه لماذا لم أبقَ... لماذا لم أعرف اسمها..لماذا لم اعرف اسمه؟؟ وآحيرتااااه!!!
وبعد ذات صباح انقضى بالنشوة ككل الصباحات الفائتة...وعلى أبواب الغروب،وصلت إلى بيتها وأطياف الحيرة تتقاذفها ..كما المدّ والجزر على شطآن روحها.دخلت ؛ فاستقبلها الهاتف بصرخةٍ تبشّر بثرثرة مزعجه..تناولت والدتها السماعة..فإذا به زوجها- والد سمراء- يتحدث إليها وهي تبتسم ...وكأنه يبثها حديثاً ذو شجون.إلى أن انتهت المكالمة المبهمة ..
سألتها سمراء:خيراً يا أمي أركِ مبتسمة!فأجابتها بلهجة تحمل الكثير من المعاني:عندما يأتي والدكِ ستعرفين...فلربما حمل لكِ أخبارا تسرّكِ!!
داخَلَ سمراء شيء من الريبة.. ولكنها لا زالت تحت تأثير المخدر الذي تدفق من ينابيع عيون وسيمها ففاضت به أوصالها.. وتشبعت جذورها..مما أفقدها القدرة على التركيز فلم تُدقّق في الأمر...وذهبت إلى حيث غرفتها.
غيوم سوداء حامت حول نافذتها..تعلن تغلغل المساء في كبد الساعات المقبلة..أو لربما حملت معنىً آخرَ أكثر من مجرد ظاهرة طبيعيه..وهتفت الساعة تخبرها أنّ موعد وصول والدها قد حان..وفعلاً ها هو جرس الباب يشهد على وصوله.
لغة من اللافَهمِ أحاطت بالمنزل ...وعلامة استفهامٍ كبيره جلست على الأريكةِ المقابلة..ووالداها لا زالا في غرفتهم يتبادلان حديثاً لا مسموع..وسمراء تستجدي الصمت أن يغادر.وأخيرا..فتحت والدتها الباب.. وأسرعت باتجاهها مستبشرة تقول: مباركٌ يا ابنتي!!
دُهشت سمراء وهي تسأل نفسها !أتبارك لي أمي حبّي الجديد؟كيف عرفت ذلك؟أهي موافقة؟!...ولكنها تخفي ثرثرات نفسها.
واستفاقت تتابع كلمات والدتها المتلاحقة: قريبا سيأتي مع والديه لرؤيتك...أتمنى أن تتالي إعجابه..فوالدكِ يقول انه شاب وسيم متعلم،غني،و,,,,,وانهالت عبارات المديح،غير أنّ طرائق السمع والوعي لدى سمراء قد تهشّمت فلم تعُد تُدرك..وكادت أن تقول :
"اتقوا الله فيّ..فحبّي لم يَرَ النور بعد.."
أجهشت سمراء بالبكاء..فدُهشت والدتها وقالت:
أتراكِ لا تريدين الزواج؟! أنتِ لم تعودي صغيره..ويجب أن نفكر جيداً بمستقبلكِ قبل أن يفوتكِ قطار الزواج..احمدي الله وتوضأي ولتصلي ركعتي شكر له.
صعدت سمراء إلى غرفتها مكسورة الخاطر والوجدان.. تنعى حبها الذي توفيّ بعد ولادته بأيام قلائل..وأرادت أن تذهب إليه..تكلمه..تشتكي له..ولكن لمن؟ بل أين هو؟ما عنوانه؟حتى ما اسمه!!.
نامت من شدة إعيائها..واستيقظت على صباحٍ نائحٍ؛ لا كصباح الأمس ..وذهبت تجرّ دمعتها إلى حيث يمكن أن تراه.
وذات صباحٍ أخيرتلاقيا..إلاّ أن لون اللقاء قد كَلَح..وبهجة الحضور قد توارت...أحسّ وكأن فاجعة تقف وراء بوابات شفتيها ..أو أن بركانا يرقد خلف أنفاسها على وشك أن يتفجّر...وكاد الصبر أن يُقتل بسكين الصمت..لولا أنها أنقذته بقولها:
يا من تعلّمت فنّ الحب على مسرح عينيه!!سأعود من حيث أتيت..سأغادر دنياك إلى حيث نهايتي...وتأكد بأن الحب قد توقف أمام قدميك..كطفل مشلول الحركة لا يُرجى شفائه..ولن يمشي مجددا..اذهب إلى حيث شئت ...ستبقى صورة الحلم الذي لن تغيب له شمس...وليضيء قمرك وجها آخر غير وجهي..ليس بارادتي ؛ ولكني الآن أُنحر من الوريد إلى الوريد بسكين أحب الناس اليّ ، وهم لا يدركون..
أدرك مجد ما تعنيه...وتلقى كلماتها الثائرة بصدره العاري..فتسللت تصهر أحشاءه..تجمّد كل شيء إلاّ دموع عينيه التي أوشكت على النهوض.. لتتكلم..لتحتجّ.. لكنه أبى ..فحبسها ليحتفظ بكبرياء رجل مقتول...
بكى، وبكت... بحرقة أذابت الحرف ووأدت اللغة ..وأخرست اللسان، فلم تنطقا ببنت كلمه...وافترقا من جديد....يعاركان الحياة بلا سلاح .. ينعيان حبهما الصغير.. يعدّان له الأكفان.. يحفران الأرض كي يوارياه مقدساً طاهراً عفيفاً..ولكن خوفا من أن تطاله عفونة الأرض.. قررا أن يخبآنه هناك ..هناك(على متن القمر).
بدأت الاستعدادات على قدم وساق..فغدا سيأتي العريس كي يراها.. وبعدها إما أن تصبح رهن اعتقاله..أو أنه سيرمي بها بعيدا ويدق باب غيرها..فهن كثيرات كثيرات...وهو السيد الذي يحكم النساء.
وصل العريس الكامل الأوصاف - كما قيل لهم – فاستُقبل بحفاوة..إلاّ منها ؛فحزنها عميق عميق..وجرحها ينزف يئنّ يستجير..ولكن لا يُدمي الجرح غير صاحبه..
أحضرت سمراء قهوة الإستقبال كما جَرَت العادة..ألاّ أن القهوّة كانت مرّه ..فلربما طالها شيء من مرارة حالها..فرمقها العريس بنظرة خالت أنها هوت بها إلى الأرض فاستقرّت هناك..وسمعته يهمس لأمّه قائلاً:أراها لا تُحسن صنع القهوة فهي شديدة المرارة..أرى أن ذلك فال سيء..فوخزته أمه قائله:اصمت قد يسمعونك.وبدأ الحديث الرسمي بافتتاحيه من والده:
نحن أناس ملتزمون...لا دراسه..لا عمل..لا زيارات...لا مصاريف..لا ..لا..لا ..وعدد لا متناهٍ من اللاءات..أفرزت صرخة من والدها هدمت أساسات التعارف..وسدّت طرائق الأخذ والعطاء..فابنته ليست للبيع..وغادروا دونما قَبول.
الفرحة كادت أن توقف قلب سمراء عن العمل...فتارة تتراكض دقاته يدفع بعضها بعضا..وتارة تبحث عنها في فجواته وأركانه فلا تجدها..ولم تكترث لما آل إليه حال قلبها..المهمّ أنها لم تُستملك..وهي الآن حُرّة..فنامت ليلتها تعانق النجوم وتساهر القمر؛القمر الذي يذكرها بالحبيب الغائب الحاضر..وارتقبت الصباح لتذهب إليه وتخبره...
انشق ثغر الصباح باسما وثغرها أشبه به...فذهبت تحث إليه خطاها..وتطوي آفاقها..لتخبره بهزيمة اللاحب وانتصار الحب..ولكنها!!
أخذت تقلب الوجوه..تناديه بلا اسم...تفتش عنه ذرات الهواء..وتسأل حبّات الرمال...ولكن!!
عادت إلى بيتها تعانق مواجعها..تبكيه..تناديه..ومع حلول كل صباح تعاود البحث هناك..حيث افترقا...ولكن!!
ومضت الأيام..كلاهما يكبر..ويكبر في نفسه حبها"هي"...ويكبر في نفسها حبه"هو".ولكن !!.
وجاء من يطرق بابها من جديد..وفؤادها لا زال ثائرا عنيد،وكالمرّة الأولى بكت وتوسّلت وتمرّدت..لكنها لم تُفلح.....
أما هو(الناقد الجديد)...ليس بأفضل حال منها..فهناك ..وتحت ظل الكآبة اللعين كان يجلس وحيدايطرق بابها المرصود في حنايا ذاته...يناديها أنتِ يا"..."!! ..فيتلعثم بحجارة الحروف...فهو لا يعرف اسمها......
ولمّا لم تجبه..ولمّا كان لا بد له من الخضوع لرغبة والديه وضرورة إكمال نصف دينه!! مّد يديه الى ما خلف الضلوع ..وانتزع قلبه الذي غدا كقطعة زجاج مهشّمه...فلملم بقاياه ونثرها صوب القمر... ليتناثر شظاياً من نور يضيء دربها.. تلك المجهولة التي سكنت حشاشة قلبه..ثم اختفت...فها هو ينقُض دونما أراده منه عهدا أبرماه ذات صباح مجيد..هو،وهي..يوم أن تلاقيا في حديقة الغيب......
واقترب موعد النظرة الأولى!!
المساء مزين برموش النجوم وأهداب القمر..والمصابيح الكهربائية تساعد في المزيد من الإيضاح والرؤية لقتل ظلمة الليل.. لا ظلمة قلبيهما..
ها هي سمراء في أبهى زينتها..أحمر شفاهها بعضا من نزف شرايينها..وسواد كحلها يصف حالها..وأما أبيض خدودها فلون الكفن الذي سيطويها...
نظرت إلى حيث والديها يهيئون المكان للحشد الكبير الذي سيشهد مقتلها على يديهم.. تنتحب بلا دموع.. وتعاتب دونما كلمات وقرارة نفسها تقول:
"آه يا أعزّ الناس لديّ..تهيئون لي كفني..وتزينون موكب جنازتي دون إن تدرون!!وها إنا طوع أمركم..أنثى لا حيلة لها تختارون حتى موعد دفنها وتأمرونها أن تسير حيّة إلى حيث قبرها..فهل من ميت يسير على قدميه إلى القبر؟
نعم ! انه " إنا ".
ها هما يقتربان،كلاهما يسير بقدمان مهترئتان..كلاهما يتأرجح على حبال المجهول...يُمسك بدمعة تكاد تفرّ من عينيه، يتمزق بسكين أحب أحبائه ،يرقب بحذر شديد من أتى يستملكه ،من أتاه راقصاً يدق طبول الموت من حوله..
وجاءت اللحظة اللامتمناه...!!
ودقت أجراس اللقاء معلنة لحظة وصول "ملك الموت" في مقدمة الحضور...!!
ها هما القتيلان وجها لوجه... وكلاهما لا يكاد يرى شيئاً فكل شيء قد تحجّب...وفي لحظة وعي صغيرة جدا...تلاقت الأعين تسترق نظرة في غفوة العهد الذي أبرمه كل منهما ذات يوم فائت...وما كانت اشدّ دهشتهما!!!
صرخ كلاهما صرخة كادت تشق عباب السماء..وتفلق وجه الأرض
أهذا هو أنت!!..
أهذه هي أنتِ!!...
خرّت أجسادهم التي أضناها الشوق تكاد تفترش الأرض...لولا أن مدّ إليها يداه ، ومدّت إليه يداها ...فتعانقا،وتعلقا بحبال النشوة تحملهم إلى ما فوق حدود البشر والكون والمألوف..هناك إلى حيث السماء والقمر..إلى حيث أخفيا حبّا طاهرا نقيّا مقدسا..وتكلمت الشفاه الأربع بالموافقة..وتحدثت بالشوق العيون.. تنقل عبر الأثير رغبة الارتباط...
وبفرحة ألجمت ثغر الإستفسار! أذّنت الزغاريد تُعلن فرحتهم...وتفتك بأشباح الوجوم التي طافت حول المكان ...واحتفل الجميع بأغرب حالة ولادة بعد الموت ..حيث التقاء الصدفة بالقدر الرحيم..معلنين انتصار الحب ...واندماج الروح بالروح..موثقين العهد ؛ ولكن هذه المرّة بشفاه ناطقه وأذن سامعه وعيون شاهده وأحرف مكتوبة...
ومضى هو إلى حيث هي يحمل دنياه إليها..ومضت هي إلى حيث هو تحمل دنياها إليه...واتفقا!أن لا فراق يقضّ مضجعهم...ولا أحزان تفجعهم...ولا إلى غربة الروح مرجعهم..
ها هو الحب الصادق ينتصر..وها هما الآن معا،يحلقان بلا أجنحة في فضاءات الفرح، يرقصان تحت الشمس التي أوشكت على المغيب عن ألق وجودهم.. يحتفلان بوليدهما الذي أفاق بعد صراع طويل مع الموت.....يسطّران وعد البداية والنهاية على ورق الشجر... يمضيان في طريق الرفقة الممتد أمامهما إلى ما لا نهاية...حيث لا خلاص..لا خلاص.
وكبر وليدهما الصغير- الحب- تحت رعاية الإخلاص والوفاء والطهر والقدسية...وشاخ بأمر سلطان الأيام المتتالية عليه..إلاّ أنه غدا أقوى ..ألف أقوى مما كان عليه في عهد صِباه..
ومضى بهما العمر!
وبالرغم من تآكل الزمان وهرم السنين...لا زالت شمس تلك الصباحات الفائتة تشرق من أجل الحب...تغذّيه...ترويه من ماء ذهبها ليبقى شابّا ، متألقاً ،ينمو..ويزهر ..ويطرح ثمارا بهيجة الطلعة...حلوة المذاق..تثير شهيّة الجيل القادم فيقترب؛كي ينال حظه منها..
وعلى متن الوراثة.. وعلى أكفّ الأبّوة...انتقل حبهم إلى حيث صغارهم- أبناء الحب- الذين ورثوا عنهم كل شيء ..كل شيء..حتى طهارة الحب وعفافه وقدسيته..وتمر الأيام هاربات .. ويكبر أبناء الحب..وتكبر جينات العشق المقدّس فيهم..
وتحت حنو الصُدف..وبشارة القدر الرحيم... تبدأ دورة الحب من جديد...فها هو قيس- ابن مجد- يلتقي ذات صباح بعيون ليلاه...فإذا بالحب الغافي في أحضان القمر - حيث مخبأ الآباء - يستفيق...وإذا بالأحداث القديمة تنهض...تستعد للعودة من أقصى أركان الماضي الجميل...تفرد أشرعتها على مركب الزمان...وينطلق الحب ..يعيث رغبة في الصدور ..يقضّ مضجع العاشقَين الصغيرين... فانطلقا يبحثان عن مكان يواريان فيه حبهما الطاهر المقدس العفيف...
فهل سيكون القمر هو من سيطويه في سجلات العاشقين لديه..مخلّدا إياه إرثاً يعبر إلى أجيالهم القادمة.. كأولئك العابرين إليه عبر شراعات الزمن القديم؟؟!...
وذات طيف ليلة قمريه..توهّج القمر..معلناً انطلاقة ومضة حب جديدة ..ولكنها هذه المرة مجهولة المصدر،حيث تزايدت أعدادهم أولئك الذين خبّأوا حبهم هناك بعيدا عن عبث العابثين..هناك في حضن القمر.
فآآآه يا قمر!!!
كم أنت محظوظ...فلكم شهدت حبّا ولكم كتمت سرّا!!...فلتبقَ مخبأ العشاق ومكمن حبهم الآمن...
يا قمر!!!
لتتضخم أحشاؤك بأجنّة الحب...ليشهد الكون في كل رعشة من رعشات هدبك الناعسة ..حالة ولادة حب جديدة ..حب يحمل كل معاني الطهر والنقاء والقدسية..حب لكل من وجد على ظهر البسيطة..فإذا الدنيا طفلة لا عهد لها بالخداع ..تنام وادعة بلا عداوة أو خصام بين حرفي اللغة:
"ح....الدنيا....ب" .
بِشارة القدر الرحيم!!
كخصلة شعر تمدّدت باستحياء على جبين غادة حسناء..وقبل عبثية الصباح الأثيريّ بقليل ..كان الشارع العتيق ينام في أحضان السوق الكبير منصفا إياه الى نصفين...مسترخيا على جبين الأرض يرشف من نداها قطرات تبشّر بقرب تولدّ الحياة في أحشاءه ..ريثما يستفيق النهار معلناً حلول وقت الإنفجار البشريّ الأعظم..
بدا السوق ساكنا قبيل توقد الهجير، واشتعال البشر تحت جمرة الشمس الكبيرة بقليل..ثم ؛ما أن فضحت الشمس سرّ النهار الغافي على أطراف الليل..حتى استفاق مجنونا كمن هاجمه كابوس مرعب...
استفاق يضجّ بضوضاء تخنق طعم الهدوء..وتلوّث حاسّة السمع، فلا تَستبين ولا تستكين..كل شيء يعبق برائحة الفوضى..وكأن الكون يستعدّ لزلزلة وشيكه..
ووسط المتاهة العظيمة هذه..كانت سمراء ذات الثلاثين،تعبر ككل الأجساد العابرة إلى حيث السوق.. ترفّ بشبوبيتها وكأنها النسمة الطائرة..تحوم حول مواقد المارّين فتُشعل حطبهم الهاجع..وكأنها جاءت تشارك في هذا الاحتفال الكبير اللامناسَبة له ..تستمع لأصوات البائعين وهم يهتفون لسلعهم..وترقب فرحة المشترين بمختاراتهم...
أقدام تتبعثر على جسد الشارع المهتريء بفعل خطوات هاربة وكأنها تفرّ من خطب ما ،أو كأنها تلحق بموكب الزمن اللامنتظِر..
وعيون تتأرجح في فضاءات المغيب ،تُرسل وتستقبل..ترمي بكرات محاجرها على كل الأشياء من حولها ..تصطدم ثم ترتدّ؛ حيث الدماغ منهمك في تفسير صور الأشياء على حقيقتها.
الكل يراقب الكل دون سبق إصرار وترصد..ولكنها قوانين الأسواق وفوضتها المحتّمة على كل الحضور.
واكتملت دائرة الحضور!!
فها هو" مجد" يراها من بعيد..وكأنما خلا السوق من ساكنيه إلاّ منها...يخالها جنّية خرجت إليه من تحت عباءة القدر. أو كأنّ القمر قد زاره يمشي على الأرض الهُوينا.."واثق الخطوة يمشي ملكاً"..فتسارعت كلمات كوكب الشرق تطرح نفسها بلا استئذان على لسانه الذي جفّ ، فلم تستطع التزحلق عليه والعبور، فابتلعها مُتشردقاً بمعانيها التي لم يُدركها قبل الآن..
مشت أمامه وكأنها تدوس على صمامات شرايينه فاختنق بدمائه الحارّة..وغير آبهٍ بمئات العيون التي تصول وتجول كحرّاسٍ حول جسده دونما إذن حراسهٍ منه ..توجه نحوها ليتأكّد إن كانت هي حقيقة أم مسّ من الخيال .
تفاجأت به يحوم حولها..يُغرقها بنظراته..فصوّبت نحوه لِحاظها تستكشف..تحاول سَبر غَور ذلك العابر إليها عبر بوابة المجهول..فما أن التقت النظرات بالنظرات.. حتى تولّد تيار كهربائي ، سرى كرعشة خلخلت جذور أجسادهم..
صوّب نحوها سهام عينيه دون رحمه.... كعنكبوت رمى شِباكه بعناية..وأفرز سمومه بغزاره..فإذا بالضحية كتلة مشلولة الأطراف ..معقودة اللسّان..مشرّدة الفكر .. إذ استشرى السُّم الزُعاف يحرق أوصالها..
تسمّرت "سمراء"في مكانها..لا تستطيع الحِراك..تحمل جسداً ثقيلا مُترنحا من سُكره..تحاول استنهاض قواها.. تفرُك اليد بالأخرى؛ ربما لتولِد في جسدها طاقة البقاء والثبات..ثم تلسع جلدها تنشر الدماء فيه.. تُعالج مسامه الإسفنجية التي استقبلت حالة خدرٍ لذيذه... وكأنما جيوش نملٍ اجتاحته..تَخُزّهُ...تستلذّ طراوته... تنتظر حظّها من سُكّره اللذيذ..فأضحت كتفاحة شهيّه ..أنضجت جمرات الدهشة وجنتيها ..وغدت حمراء ممتقعة بدمها الثائر المتحدّر من اعتمالات وخلجات روحها الحرّى..أو كرعشة سراب ارتسمت خيالاً سوّاحاً تراقص في ارتماءة شمسٍ خياليةٍ كاذبة على صحراء نفسها الظمأى...هكذا بدت!!.
أما هي!!
فلم تكن أقلّ سُمّية منه..فها هي تحاصره..تتصدى بأعتى أسلحتها لهجومه الشرس المباغت.. فعينيها غدت لساناً ناطقاً لحظة سكون الكلمات وانتحار الأحرف..تحدّثه بها...تضخّ في كل نظره ألف معنى في معنى واحد...وترسم بأهدابها صوراً عدّة في صورة واحده...حيث اختفت كل الأشكال والأشياء من حولهم...ولم يبقَى إلاّ صورتهم...صورتهم هم وحدهم فقط ..
ودونما سابق إنذار..انسلّت برقة نسمة ساحرة ماكرة تفصل روحه عن جسده..وتفرز كميات هائلة من هرمون أنثويّ شديد التأثير لا يُقاوَم..يقتل دونما إذن أو حتى عُذر..
تغلغلت بلطف خبيث في ثناياه..تحيط بجسده الأثيريّ ..تنام في إغفاءةٍ لذيذهٍ داخل بطانة هالته النّورانية..ثم تتسلل بخفة لصّ ماهر إلى حيث الروح ، فتنتزعها وتحتفظ بها في جيوب جيوب أعماقها...فلقد تحولت دون أن تدري إلى !!
"" أنثى قاتله بامتياز"".
فلقد عبرت الآن.. الآن فقط حدود طفولتها التي غَفَتْ على أعتاب ماضيها....
بدت لهم الحياة وهم يَرون بعضهم لأول مرّه..كقطعة حلوى..فتقاسماها بكل ما احتوته من أشياء ..كل شيء حتى هو،،وهي ..أما القمر فكأنما انشقّ إلى نصفين..نصف في السماء بقي يبارك حبهم ، يضيء ليلهم القادم....والنصف الآخر "هو" بالنسبة لها..."وهي "بالنسبة له..
تنبهت لجريمتها ، وهي تَغرز سكاكينها في جسده الشامخ أمامها..وخشيَت عليه من خدوش سهامها..فاستلّتها وأشاحت الوجه بعناء شديد....تحاول جيوش رموشها التي احتشدت حول شواطئ عينيها في مهمّةٍ حراسيّهٍ، وطلعةٍ استكشافيةٍ أن تصوّب المسار، وترسم طريق العودة الآمن ..تحاول مُجهدة الإنقضاض واحتواء النظرة الهاربة، لتواري معانيها ألفاضحه...
واستفاقت من شبه غيبوبتها تحتوي جسدها المتناثر.. وتلملم بقايا كبرياء أنثى مغرورة قاتله... فها هي تهرب كغزالة برّية يتربص بها أسدها..ذاك الذي يروق لها رغم خطورته.
انطلقت هاربة ترجو النجاة...مسرعة تسابق الريح.. تقاوم جاذبية الأرض من تحت قدميها ،الأرض التي أفرزت لتوّها صمغاً شديد الفاعلية أبقى جسدها متسمّرا في مكانه..فاستعادته بعناء شديد وغادرت...ولكن إلى أين المفرّ!!..فها هي تحمل روحه بين ثناياها..فهي لم تغادر إلاّ المكان ..المكان فقط.
افترقا..! بعد أن تعاهدا ؛ وبلا شهود على رعاية هذا الوليد الجديد (الحب) ..ذلك الصغير بحروفه الكبير كِبر الكون المترامي...الممتد حولهما بلا بداية ولا نهايه..افترقا يحمل كل منهما بين أضلعه مِزقة من جسد الآخر،ونبضة من قلبه،ولحظة من لِحاظ عينيه..موثّقين عهد الحبّ بخلجات صادقة من أرواحهم العطشى ..لا بشفاه ناطقه،أو أذن سامعه ، أو كائنات شاهده.
كم هو غريب ما حدث!!
أتستطيع نظرة هاربة من خلف أسوار الجفون أن تُوثّق العهود..وتؤلف بين الغرباء؛ فإذا بالإثنان واحد.. رغم غربة الجنس والمكان؟؟؟
ذهب هو إلى حيث لا تدري سوى أنه قد أخذ روحها معه..وواصلت هي طريقها إلى حيث المنزل بتوجس،وثرثرات نفسها يتعالى في الذات صوتها..
ثم استفاقت من ذهولها على صوت أمها تناديها:
سمراء أين كنت ،لما هذا التأخير؟؟ لدينا ضيوف ..أسرعي، إنهم بانتظارك..كلهم يريدون رؤيتك!!
تنبهت سمراء لنفسها ، وأقفلت أبواب خيالاتها..وسدّت طرائق ثرثراتها..وأخرجت زجاجة عطرها ؛ ربما لتواري رائحة الحب الذي عبّأت به كؤوس نفسها فطفق وتعالى شذاه...ومشّطت سواحل عينيها بكحلها الشديد السواد ، لتخفي ما يمكن أن يكون قد علق بمحاجر عيونها من نظرات شاردة، فيتكشّف سرّها للحاضرين.
دخلت باستحياء شديد..تحسب أنّ جسدها كله يَنضَح بالحب..وهم يرقبون فعلتها..تمالكت نفسها وأفشت السلام ،ربما لتسلم مما قد وارت... ومما قد يكتشفون.
قطع صمتها صوت إحداهنّ- محور الجلسة المفتوحة- وهي تقول:
ما شاء الله!! أهذه سمراء التي كانت منذ وقت ليس ببعيد تعانق دميتها...أهذه سمراء ذات الشعر الأسود المترامي بكل استرخاء على أعناق أكتافها..كبرت بهذه السرعة..كم أصبحت جميله!!
ردّت امّ سمراء بابتسامة لطيفه: نعم هذه هي..أرأيتِ كيف أن البنات يكبرن بسرعة كالزرع على ضفاف البحيرة.
دارت بين الزائرات عبارات الإستهجان التي أثقلت كاهل الأم المسكينة!!!
هذه تقول:غريب كيف أنها لم تتزوج حتى الآن..وثانيه:انتبهي لابنتك فلقد تعدّت العشرينات....وثالثه:فعلاً الشباب ليس لديهم نظر.وأخرى تقول:أظنّ أنه العين أو السحر إرقي لها....وأقرب صديقاتها تقول: اطمئني فأنا من سيبحث لها عن عريس.. ،وأطلقت ضحكة لا يُدرك لها معنى .
ارتعشت سمراء كأنها تنفض عنها غبار داء لا يُرجى شفائه يراه غيرها من حيث لا تراه، وتبسمت عنوة..وتباعدت شفاهها الصغيرة؛ وكأنها تود أن تقول لهم:
" آه !! ليتكم تدرون سمرائكم الصغيرة هذه كم كبرت هذا اليوم..كيف اختزلت نظرات عابره من وسيمها كل الأعوام الفارّة من عمرها في لحظة نضج واحده ، فإذا بها عروس كل ما فيها مهيأ وبشده للحب وللزواج". لكنها تمسك زمام أمورها،وتربط على شفتيها وتتظاهر بالحضور الكامل بينهم...ترمقهم بنظراتها ..يخيّل إليها أنهم يخنقون بثقلهم أنفاسها..يكبتون حريتها..يكبحون جماح انطلاقاتها..
غادر الضيوف المكان فتنفّست الصُعداء.. وكأن سحابة دخان قد انقشعت بعد أن ضللت المكان كقبّعة سوداء لا منافذ لها ، سدّت طرائق الضوء ومنافس الأوكسيجين..والتهمت ألق الشمس.
نامت..نامت سمراء ملء جفونها وهي ترقب خطواته آتٍ إليها عبر شبابيك أحلامها...واستفاقت تقبّل وجه الصباح ..وتعانق النسيم الذي أرخى على الأرض جدائله ..تخال انه ما جاء إلاّ ليحملها إليه...فلبست وتجمّلت وتعطّرت كأنما هي حورية بحرٍ ستحمل أمتعتها وتهجر بحرها لتستقر في السماء..هناك حيث قمرها.
توجّهت إلى أمها التي كانت تحتسي قهوتها الصباحية كالمعتاد...وألقتْ عليها تحية الصباح بنكهة لذيذه..كنكهة حبّها...وطبعت قبلاتها على يديها الحانيتين ؛وكأنها ترجوها أن تدعو كي يَمنّ الله عليها فتلقاه..ورشفت من فنجان قهوتها رشفة جديدة المذاق، مثيرة الرائحة ،مميّزة اللون ..وكأنها لأول مرّة تعرف ما تكون القهوة!.
وانطلقت..انطلقت إلى حيث قلبها..تبحث عنه..تقلّب نظراتها ما بين السماء والأرض..تَهُمُّ أن تسأل عنه الزهور والسيارات والناس ..وحتى بوابات البيوت التي تمرّ من أمامها كالحلم السريع المرور...
ها هو..ها هي تلقاه..وها هو يراها...تلعثمت الحياة كلها أمام ناظريهم..ككلمة في فم أخرس...يتمنى أن تخرج حاملة اختلاجات نفسه،وهي تأبى الخروج ..فيهُمُّ بالبكاء فلا يستطيع...كل شيء من حولهما تجمدّ ،حتى الدماء في عروقهما ...
خيط نورٍ سرى بينهما...تولّد لتوه كناقلٍ لأثيرهِما..تعبر من خلاله روحها كي تعانق روحه..ويعبر هو بروحه إليها...اختُزلت كل الكلمات والهمسات واللمسات ..وكل ما يتمنى المحب في نظرة صامته كثيرة المعاني.
واستمرّ الوضع هكذا "نظرة حب فابتسامة فاشتهاء"حتى لُدغ الوقت بعقارب الغروب...وأيضاً لا كلمه!!!.
وتعددت صباحات اللقاء ...ولا زالت لغة العيون تسيطر على الأجواء...مختلطة بخلجات النفس ورقصات القلوب...وتنازلت فيها الشفاه عن النطق..واكتفى كل منهما بهمس الروح للروح عبر أثير اللغة اللامسموعه .وفي كل صباح كانت شجرة الحب تزهر تحت لهيب شمسهما وتكبر...
افترقا من جديد..كلاهما يلوم نفسه لماذا لم أبقَ... لماذا لم أعرف اسمها..لماذا لم اعرف اسمه؟؟ وآحيرتااااه!!!
وبعد ذات صباح انقضى بالنشوة ككل الصباحات الفائتة...وعلى أبواب الغروب،وصلت إلى بيتها وأطياف الحيرة تتقاذفها ..كما المدّ والجزر على شطآن روحها.دخلت ؛ فاستقبلها الهاتف بصرخةٍ تبشّر بثرثرة مزعجه..تناولت والدتها السماعة..فإذا به زوجها- والد سمراء- يتحدث إليها وهي تبتسم ...وكأنه يبثها حديثاً ذو شجون.إلى أن انتهت المكالمة المبهمة ..
سألتها سمراء:خيراً يا أمي أركِ مبتسمة!فأجابتها بلهجة تحمل الكثير من المعاني:عندما يأتي والدكِ ستعرفين...فلربما حمل لكِ أخبارا تسرّكِ!!
داخَلَ سمراء شيء من الريبة.. ولكنها لا زالت تحت تأثير المخدر الذي تدفق من ينابيع عيون وسيمها ففاضت به أوصالها.. وتشبعت جذورها..مما أفقدها القدرة على التركيز فلم تُدقّق في الأمر...وذهبت إلى حيث غرفتها.
غيوم سوداء حامت حول نافذتها..تعلن تغلغل المساء في كبد الساعات المقبلة..أو لربما حملت معنىً آخرَ أكثر من مجرد ظاهرة طبيعيه..وهتفت الساعة تخبرها أنّ موعد وصول والدها قد حان..وفعلاً ها هو جرس الباب يشهد على وصوله.
لغة من اللافَهمِ أحاطت بالمنزل ...وعلامة استفهامٍ كبيره جلست على الأريكةِ المقابلة..ووالداها لا زالا في غرفتهم يتبادلان حديثاً لا مسموع..وسمراء تستجدي الصمت أن يغادر.وأخيرا..فتحت والدتها الباب.. وأسرعت باتجاهها مستبشرة تقول: مباركٌ يا ابنتي!!
دُهشت سمراء وهي تسأل نفسها !أتبارك لي أمي حبّي الجديد؟كيف عرفت ذلك؟أهي موافقة؟!...ولكنها تخفي ثرثرات نفسها.
واستفاقت تتابع كلمات والدتها المتلاحقة: قريبا سيأتي مع والديه لرؤيتك...أتمنى أن تتالي إعجابه..فوالدكِ يقول انه شاب وسيم متعلم،غني،و,,,,,وانهالت عبارات المديح،غير أنّ طرائق السمع والوعي لدى سمراء قد تهشّمت فلم تعُد تُدرك..وكادت أن تقول :
"اتقوا الله فيّ..فحبّي لم يَرَ النور بعد.."
أجهشت سمراء بالبكاء..فدُهشت والدتها وقالت:
أتراكِ لا تريدين الزواج؟! أنتِ لم تعودي صغيره..ويجب أن نفكر جيداً بمستقبلكِ قبل أن يفوتكِ قطار الزواج..احمدي الله وتوضأي ولتصلي ركعتي شكر له.
صعدت سمراء إلى غرفتها مكسورة الخاطر والوجدان.. تنعى حبها الذي توفيّ بعد ولادته بأيام قلائل..وأرادت أن تذهب إليه..تكلمه..تشتكي له..ولكن لمن؟ بل أين هو؟ما عنوانه؟حتى ما اسمه!!.
نامت من شدة إعيائها..واستيقظت على صباحٍ نائحٍ؛ لا كصباح الأمس ..وذهبت تجرّ دمعتها إلى حيث يمكن أن تراه.
وذات صباحٍ أخيرتلاقيا..إلاّ أن لون اللقاء قد كَلَح..وبهجة الحضور قد توارت...أحسّ وكأن فاجعة تقف وراء بوابات شفتيها ..أو أن بركانا يرقد خلف أنفاسها على وشك أن يتفجّر...وكاد الصبر أن يُقتل بسكين الصمت..لولا أنها أنقذته بقولها:
يا من تعلّمت فنّ الحب على مسرح عينيه!!سأعود من حيث أتيت..سأغادر دنياك إلى حيث نهايتي...وتأكد بأن الحب قد توقف أمام قدميك..كطفل مشلول الحركة لا يُرجى شفائه..ولن يمشي مجددا..اذهب إلى حيث شئت ...ستبقى صورة الحلم الذي لن تغيب له شمس...وليضيء قمرك وجها آخر غير وجهي..ليس بارادتي ؛ ولكني الآن أُنحر من الوريد إلى الوريد بسكين أحب الناس اليّ ، وهم لا يدركون..
أدرك مجد ما تعنيه...وتلقى كلماتها الثائرة بصدره العاري..فتسللت تصهر أحشاءه..تجمّد كل شيء إلاّ دموع عينيه التي أوشكت على النهوض.. لتتكلم..لتحتجّ.. لكنه أبى ..فحبسها ليحتفظ بكبرياء رجل مقتول...
بكى، وبكت... بحرقة أذابت الحرف ووأدت اللغة ..وأخرست اللسان، فلم تنطقا ببنت كلمه...وافترقا من جديد....يعاركان الحياة بلا سلاح .. ينعيان حبهما الصغير.. يعدّان له الأكفان.. يحفران الأرض كي يوارياه مقدساً طاهراً عفيفاً..ولكن خوفا من أن تطاله عفونة الأرض.. قررا أن يخبآنه هناك ..هناك(على متن القمر).
بدأت الاستعدادات على قدم وساق..فغدا سيأتي العريس كي يراها.. وبعدها إما أن تصبح رهن اعتقاله..أو أنه سيرمي بها بعيدا ويدق باب غيرها..فهن كثيرات كثيرات...وهو السيد الذي يحكم النساء.
وصل العريس الكامل الأوصاف - كما قيل لهم – فاستُقبل بحفاوة..إلاّ منها ؛فحزنها عميق عميق..وجرحها ينزف يئنّ يستجير..ولكن لا يُدمي الجرح غير صاحبه..
أحضرت سمراء قهوة الإستقبال كما جَرَت العادة..ألاّ أن القهوّة كانت مرّه ..فلربما طالها شيء من مرارة حالها..فرمقها العريس بنظرة خالت أنها هوت بها إلى الأرض فاستقرّت هناك..وسمعته يهمس لأمّه قائلاً:أراها لا تُحسن صنع القهوة فهي شديدة المرارة..أرى أن ذلك فال سيء..فوخزته أمه قائله:اصمت قد يسمعونك.وبدأ الحديث الرسمي بافتتاحيه من والده:
نحن أناس ملتزمون...لا دراسه..لا عمل..لا زيارات...لا مصاريف..لا ..لا..لا ..وعدد لا متناهٍ من اللاءات..أفرزت صرخة من والدها هدمت أساسات التعارف..وسدّت طرائق الأخذ والعطاء..فابنته ليست للبيع..وغادروا دونما قَبول.
الفرحة كادت أن توقف قلب سمراء عن العمل...فتارة تتراكض دقاته يدفع بعضها بعضا..وتارة تبحث عنها في فجواته وأركانه فلا تجدها..ولم تكترث لما آل إليه حال قلبها..المهمّ أنها لم تُستملك..وهي الآن حُرّة..فنامت ليلتها تعانق النجوم وتساهر القمر؛القمر الذي يذكرها بالحبيب الغائب الحاضر..وارتقبت الصباح لتذهب إليه وتخبره...
انشق ثغر الصباح باسما وثغرها أشبه به...فذهبت تحث إليه خطاها..وتطوي آفاقها..لتخبره بهزيمة اللاحب وانتصار الحب..ولكنها!!
أخذت تقلب الوجوه..تناديه بلا اسم...تفتش عنه ذرات الهواء..وتسأل حبّات الرمال...ولكن!!
عادت إلى بيتها تعانق مواجعها..تبكيه..تناديه..ومع حلول كل صباح تعاود البحث هناك..حيث افترقا...ولكن!!
ومضت الأيام..كلاهما يكبر..ويكبر في نفسه حبها"هي"...ويكبر في نفسها حبه"هو".ولكن !!.
وجاء من يطرق بابها من جديد..وفؤادها لا زال ثائرا عنيد،وكالمرّة الأولى بكت وتوسّلت وتمرّدت..لكنها لم تُفلح.....
أما هو(الناقد الجديد)...ليس بأفضل حال منها..فهناك ..وتحت ظل الكآبة اللعين كان يجلس وحيدايطرق بابها المرصود في حنايا ذاته...يناديها أنتِ يا"..."!! ..فيتلعثم بحجارة الحروف...فهو لا يعرف اسمها......
ولمّا لم تجبه..ولمّا كان لا بد له من الخضوع لرغبة والديه وضرورة إكمال نصف دينه!! مّد يديه الى ما خلف الضلوع ..وانتزع قلبه الذي غدا كقطعة زجاج مهشّمه...فلملم بقاياه ونثرها صوب القمر... ليتناثر شظاياً من نور يضيء دربها.. تلك المجهولة التي سكنت حشاشة قلبه..ثم اختفت...فها هو ينقُض دونما أراده منه عهدا أبرماه ذات صباح مجيد..هو،وهي..يوم أن تلاقيا في حديقة الغيب......
واقترب موعد النظرة الأولى!!
المساء مزين برموش النجوم وأهداب القمر..والمصابيح الكهربائية تساعد في المزيد من الإيضاح والرؤية لقتل ظلمة الليل.. لا ظلمة قلبيهما..
ها هي سمراء في أبهى زينتها..أحمر شفاهها بعضا من نزف شرايينها..وسواد كحلها يصف حالها..وأما أبيض خدودها فلون الكفن الذي سيطويها...
نظرت إلى حيث والديها يهيئون المكان للحشد الكبير الذي سيشهد مقتلها على يديهم.. تنتحب بلا دموع.. وتعاتب دونما كلمات وقرارة نفسها تقول:
"آه يا أعزّ الناس لديّ..تهيئون لي كفني..وتزينون موكب جنازتي دون إن تدرون!!وها إنا طوع أمركم..أنثى لا حيلة لها تختارون حتى موعد دفنها وتأمرونها أن تسير حيّة إلى حيث قبرها..فهل من ميت يسير على قدميه إلى القبر؟
نعم ! انه " إنا ".
ها هما يقتربان،كلاهما يسير بقدمان مهترئتان..كلاهما يتأرجح على حبال المجهول...يُمسك بدمعة تكاد تفرّ من عينيه، يتمزق بسكين أحب أحبائه ،يرقب بحذر شديد من أتى يستملكه ،من أتاه راقصاً يدق طبول الموت من حوله..
وجاءت اللحظة اللامتمناه...!!
ودقت أجراس اللقاء معلنة لحظة وصول "ملك الموت" في مقدمة الحضور...!!
ها هما القتيلان وجها لوجه... وكلاهما لا يكاد يرى شيئاً فكل شيء قد تحجّب...وفي لحظة وعي صغيرة جدا...تلاقت الأعين تسترق نظرة في غفوة العهد الذي أبرمه كل منهما ذات يوم فائت...وما كانت اشدّ دهشتهما!!!
صرخ كلاهما صرخة كادت تشق عباب السماء..وتفلق وجه الأرض
أهذا هو أنت!!..
أهذه هي أنتِ!!...
خرّت أجسادهم التي أضناها الشوق تكاد تفترش الأرض...لولا أن مدّ إليها يداه ، ومدّت إليه يداها ...فتعانقا،وتعلقا بحبال النشوة تحملهم إلى ما فوق حدود البشر والكون والمألوف..هناك إلى حيث السماء والقمر..إلى حيث أخفيا حبّا طاهرا نقيّا مقدسا..وتكلمت الشفاه الأربع بالموافقة..وتحدثت بالشوق العيون.. تنقل عبر الأثير رغبة الارتباط...
وبفرحة ألجمت ثغر الإستفسار! أذّنت الزغاريد تُعلن فرحتهم...وتفتك بأشباح الوجوم التي طافت حول المكان ...واحتفل الجميع بأغرب حالة ولادة بعد الموت ..حيث التقاء الصدفة بالقدر الرحيم..معلنين انتصار الحب ...واندماج الروح بالروح..موثقين العهد ؛ ولكن هذه المرّة بشفاه ناطقه وأذن سامعه وعيون شاهده وأحرف مكتوبة...
ومضى هو إلى حيث هي يحمل دنياه إليها..ومضت هي إلى حيث هو تحمل دنياها إليه...واتفقا!أن لا فراق يقضّ مضجعهم...ولا أحزان تفجعهم...ولا إلى غربة الروح مرجعهم..
ها هو الحب الصادق ينتصر..وها هما الآن معا،يحلقان بلا أجنحة في فضاءات الفرح، يرقصان تحت الشمس التي أوشكت على المغيب عن ألق وجودهم.. يحتفلان بوليدهما الذي أفاق بعد صراع طويل مع الموت.....يسطّران وعد البداية والنهاية على ورق الشجر... يمضيان في طريق الرفقة الممتد أمامهما إلى ما لا نهاية...حيث لا خلاص..لا خلاص.
وكبر وليدهما الصغير- الحب- تحت رعاية الإخلاص والوفاء والطهر والقدسية...وشاخ بأمر سلطان الأيام المتتالية عليه..إلاّ أنه غدا أقوى ..ألف أقوى مما كان عليه في عهد صِباه..
ومضى بهما العمر!
وبالرغم من تآكل الزمان وهرم السنين...لا زالت شمس تلك الصباحات الفائتة تشرق من أجل الحب...تغذّيه...ترويه من ماء ذهبها ليبقى شابّا ، متألقاً ،ينمو..ويزهر ..ويطرح ثمارا بهيجة الطلعة...حلوة المذاق..تثير شهيّة الجيل القادم فيقترب؛كي ينال حظه منها..
وعلى متن الوراثة.. وعلى أكفّ الأبّوة...انتقل حبهم إلى حيث صغارهم- أبناء الحب- الذين ورثوا عنهم كل شيء ..كل شيء..حتى طهارة الحب وعفافه وقدسيته..وتمر الأيام هاربات .. ويكبر أبناء الحب..وتكبر جينات العشق المقدّس فيهم..
وتحت حنو الصُدف..وبشارة القدر الرحيم... تبدأ دورة الحب من جديد...فها هو قيس- ابن مجد- يلتقي ذات صباح بعيون ليلاه...فإذا بالحب الغافي في أحضان القمر - حيث مخبأ الآباء - يستفيق...وإذا بالأحداث القديمة تنهض...تستعد للعودة من أقصى أركان الماضي الجميل...تفرد أشرعتها على مركب الزمان...وينطلق الحب ..يعيث رغبة في الصدور ..يقضّ مضجع العاشقَين الصغيرين... فانطلقا يبحثان عن مكان يواريان فيه حبهما الطاهر المقدس العفيف...
فهل سيكون القمر هو من سيطويه في سجلات العاشقين لديه..مخلّدا إياه إرثاً يعبر إلى أجيالهم القادمة.. كأولئك العابرين إليه عبر شراعات الزمن القديم؟؟!...
وذات طيف ليلة قمريه..توهّج القمر..معلناً انطلاقة ومضة حب جديدة ..ولكنها هذه المرة مجهولة المصدر،حيث تزايدت أعدادهم أولئك الذين خبّأوا حبهم هناك بعيدا عن عبث العابثين..هناك في حضن القمر.
فآآآه يا قمر!!!
كم أنت محظوظ...فلكم شهدت حبّا ولكم كتمت سرّا!!...فلتبقَ مخبأ العشاق ومكمن حبهم الآمن...
يا قمر!!!
لتتضخم أحشاؤك بأجنّة الحب...ليشهد الكون في كل رعشة من رعشات هدبك الناعسة ..حالة ولادة حب جديدة ..حب يحمل كل معاني الطهر والنقاء والقدسية..حب لكل من وجد على ظهر البسيطة..فإذا الدنيا طفلة لا عهد لها بالخداع ..تنام وادعة بلا عداوة أو خصام بين حرفي اللغة:
"ح....الدنيا....ب" .