محمد حسن بوكر
08-19-2012, 12:38 AM
عيـد ولكــن . . .
اليوم عيد الفطر المبارك ، الناس سعداء ، والنفوس مبتهجة ، والأطفال فرحون بملابسهم الجديدة .
انتظم الناس في مصلى العيد بانتظار الصلاة ، وخطبة الشيخ ( صالح ) بهذه المناسبة العظيمة ، وبعد انتهاء هذا المشهد الإيماني أستقل الجّدُّ سيارة ابنه الفارهة وهو يحمد الله في نفسه على أن مدَّ في عمره حتى رأى أحفاده حوله ، وهذه النعمة التي يرفل فيها ابنه ( عثمان ) .
قال أحمد الصغير لجده بعد عودتهم إلى المنزل وهو يقبل رأسه ويستعيد في خاطره الجدل الذي دار بين أبيه وجده حول مخالفة الطريق وهم عائدون من الصلاة :
ـ من العايدين يا جدي .. وكل عام وأنتم بخير .
رد عليه جده مبتسما ومربتا على رأسه
ـ بارك الله فيك يا حبيبي
وضع الصغير أحمد غترته وعقاله على علاقة الملابس ، بينما جلس الجد على قعادته الموضوعة في غرفته الداخلية من بيت العائلة والمشرفة على الصالة .
توافد بقية أفراد العائلة ، وقبلوا رأس جدهم باحترام ومحبة قائلين له :
ـ من العايدين يا جدنا الغالي .. الله يعيده علينا وعليك بالخير والعافية .
رد عليهم الجد بحنان ودعاء كريم :
ـ عيدكم سعيد .. والله يوفقكم دنيا وآخره .
فتيات العائلة يتحركن بهمة ونشاط ويقمن بإعداد طعام الإفطار ... بعد دقائق جاء بندر داعيا جده إلى سفرة الطعام المعدة :
ـ هيا يا جدي .. الفطور جاهز .. تعال هنا .. اجلس جواري .
نظر الجد إلى أصناف الطعام وهو يرى أمامه أشياء غريبة على السفرة .. جبنة .. مربى .. زيتون .. حلاوة طحينية ....إلخ ، أصنافا لم يتعود أن يراها في مثل هذه المناسبة .
قال حفيده أيمن : هيا يا جدي باسم الله .
مد الجد يده إلى رقائق موضوعة في صحن بلاستيكي وسأل :
ـ ما هذا ؟
ـ شبس .
ـ هـه ...والله عشت وشفت الناس يأكلون ( امجبس ) .
ثم مد يده إلى صحن آخر فيه دوائر غريبة
ـ وهذا ؟
ـ مورتديلا .
ـ تريلا !
ـ يا جددددددددي . . هذي أطعمة ومأكولات حديثة
تنهد الجد بحسرة وهو يقول :
ـ إيه .. الله يرحمك يا ذاك الزمان .. أقول لكم : هَبَوا لي كسرة عيش وشوية إيدام . . قال كلمته تلك وهو ينهض متجها إلى غرفته ليستقر متكئا على قعادته ، ويرحل إلى الزمن الجميل .
نظر الجد إلى سقف غرفته مسافرا بفكره إلى الماضي ، وكأن شريطا من الذكريات الجميلة يمر أمامه ، لا يقطعها عليه إلا مرور أحد أفراد العائلة متجها إلى غرفته ليلقي بجسده الذي أنهكه السهر على السرير .
ـ يا أللاااااااااااااـه .... هذا بيتنا القديم ، وهذه أزقة حارتنا القديمة ..
في ليلة العيد تتحول البيوت إلى حركة نشطة ، النساء يجملن الدور استعدادا لزيارات المعيدين ، ويفرشن البطانيات على القعايد المطلية بألوان زاهية من البوية ، ويكسون المخدات بأكياس قماشية ملونة ومزينة بشرائط من الدانتيلا المشغولة ، يرتبن الفناجين ودلال القهوة وأطباق الحلويات المحلية الصنع على الطاولات الخشبية ، ويصففن آنية العطور والعود والمباخر على طاولات أخرى ، ولا يغمض لهن جفن حتى يتأكدن من اكتمال لوازم البهجة في دورهن الشعبية العتيقة .
من الأزقة الضيقة يخرج الرجال إلى المصلى لأداء صلاة العيد ، بعضهم يمسك بطفل صغير يرفل في ثوبه الجديد ويتزين بغترة وعقال جعلته مرتبكا كثير الحركات ، يحافظ عليها من السقوط كلما هبت نسمة صباحية .. بعضهم ترك طفلتين تبكيان ورفض اصطحابهما معه .
هذا بيت عيسى ، وهذه عُشَّة حَسْنة ، وهذا العم سالم الميسور الحال ـ لأنه يملك دكانا لبيع المراكب وأدوات البحر ـ يرتدي ثوبه الجديد وعمامته المزركشة ، وحذاءه المستورد من عدن .. والذي كلما داس عليه أصدر بعض الأصوات التي تلفت أنظار الناس إليه فيبادرونه بتهنئة غامرة
ـ عيدك مبارك يا عم سالم .. وملبوس العافية إن شاء الله
بعد انقضاء صلاة العيد يتبادل الرجال عبارات التهنئة ويتعانقون تعبيرا عن المحبة ، ثم يعودون إلى بيوتهم مشيا على الأقدام ، ويقطعون المسافة بين المصلى وبيوت الحارة بأحاديث المودة وضرب المواعيد لزيارات متبادلة .
في الصباح الباكر لأول أيام عيد الفطر المبارك تنهمك النساء في إعداد وجبة الإفطار ، فترى الأدخنة تتصاعد من أحواش الدور الشعبية والعِشَش .. وروائح الخبز والشواء تداعب أنوف المارة .
تقف النساء خلف المواقد ( الموافيه ) يشعلن النار في حطب السَّلَم ويتركنه يتقد حتى يصبح جمرا ، ثم يقرِّصن عجين الحَب ( الذرة الرفيعة ) المخمَّر أقراصا من العيش الحامض ، أو أقراصا من عجين الدقيق الأبيض ، ثم يضعن تلك الأقراص على أكفهن المحناة ، ثم يولجنها في فوهة التنور ويخبزنها بسرعة في جانبه ، ثم يضعن أسماك العربي المُمَلَّحة في قاعه .
بعد الإفطار يبدأ الرجال رحلة التزاور والمعايدة فيما بينهم .. تتعالى أصواتهم وصيحات نداءاتهم على أبواب بعضهم :
ـ يا بو .......
ـ أقْدُمْ .. أقْدُمْ .. تفَضَّلْ
ويبدأ العناق بين المهنئين ، فيتواصل المتباعدون ، ويتصالح المتخاصمون ، ويجتمع المتفرقون ، وتصفو القلوب ، وتزهر الابتسامات البيضاء على الشفاه .
يسكب الزائرون كؤوس التهنئة الحارة ، ويصب صاحب الدار القهوة في فناجين فخارية جميلة ، أو يسكب الشاي الأحمر في كاسات زجاجية صغيرة منقوشة بماء الذهب ولها مقابض زجاجية صغيرة ويقدمها لزائريه ناثرا فُلَّ الكلام
ـ أهلا وسهلا .. زارتنا البركة .. عيدكم سعيد ومبارك إن شاء الله .
يتنقل المعيدون بين البيوت حتى يقترب الظُّهر فيعودون إلى منازلهم ببطون متخمة .. وحموضة فاضت إلى الصدور مما شربوا من أشربة وأكلوا من أطعمة وحلويات ترضية ومجاملة لمضيفهم .
أطفال وطفلات الحي ينتشرون في الأزقة .. يطرقون أبواب الجيران .. يقدمون التهنئة لأهل الدار .. ويحصلون على هدايا العيد من حلويات أو نقود ، ثم يخرجون إلى الأزقة ليعبروا عن سعادتهم بالعيد باشعال ( الطراطيع ) ، أو إنفاق عيدياتهم في المراجيح الشعبية المنصوبة في ساحة الحي الواسعة .
عصرا يخرج النساء في ملابسهن الزاهية ، وزينتهن الجميلة من كحل وحناء وحُسْن ، وأطيابهن وزهورهن الفوَّاحة من فُلٍّ وكاذٍ وبعيثران ليزرن بعضهن بعضا ، أما الرجال فيجتمعون في أماكن فسيحة خارج الحارة لممارسة بعض الألعاب أو الرقصات الشعبية ابتهاجا بالعيد السعيد .
ـ آااااااااااااه يا ذاك الزمان
خرج الجد من بحر ذكرياته بآهة وحسرة على زمن طويت سجلاته ، وعادات يبست أوراقها ، وبهجة أفلت في غيابت الماضي رافعا صوته مناديا حفيدته :
ـ يا داليا ... هَبي لي وأنا جدك فنجان قهوة بحرة ( مُرَّة ) .. الله يرضى عليك
لم يرد عليه أحد .. لأن الكل قد غط في نوم عميق .. ليستيقظ ليلا .. ويعاود السهر من جديد .
عاد إلى قعادته وفي قلبه غصة طازجة .. وعلى شفتيه الجافتين أربع كلمات مرتعشة :
( الله يرْحَمِكْ يا فاطَمْ محمِّدية )
* * *
بقلمي / محمد حسن بوكر
1 / 10 / 1433 هـ
اليوم عيد الفطر المبارك ، الناس سعداء ، والنفوس مبتهجة ، والأطفال فرحون بملابسهم الجديدة .
انتظم الناس في مصلى العيد بانتظار الصلاة ، وخطبة الشيخ ( صالح ) بهذه المناسبة العظيمة ، وبعد انتهاء هذا المشهد الإيماني أستقل الجّدُّ سيارة ابنه الفارهة وهو يحمد الله في نفسه على أن مدَّ في عمره حتى رأى أحفاده حوله ، وهذه النعمة التي يرفل فيها ابنه ( عثمان ) .
قال أحمد الصغير لجده بعد عودتهم إلى المنزل وهو يقبل رأسه ويستعيد في خاطره الجدل الذي دار بين أبيه وجده حول مخالفة الطريق وهم عائدون من الصلاة :
ـ من العايدين يا جدي .. وكل عام وأنتم بخير .
رد عليه جده مبتسما ومربتا على رأسه
ـ بارك الله فيك يا حبيبي
وضع الصغير أحمد غترته وعقاله على علاقة الملابس ، بينما جلس الجد على قعادته الموضوعة في غرفته الداخلية من بيت العائلة والمشرفة على الصالة .
توافد بقية أفراد العائلة ، وقبلوا رأس جدهم باحترام ومحبة قائلين له :
ـ من العايدين يا جدنا الغالي .. الله يعيده علينا وعليك بالخير والعافية .
رد عليهم الجد بحنان ودعاء كريم :
ـ عيدكم سعيد .. والله يوفقكم دنيا وآخره .
فتيات العائلة يتحركن بهمة ونشاط ويقمن بإعداد طعام الإفطار ... بعد دقائق جاء بندر داعيا جده إلى سفرة الطعام المعدة :
ـ هيا يا جدي .. الفطور جاهز .. تعال هنا .. اجلس جواري .
نظر الجد إلى أصناف الطعام وهو يرى أمامه أشياء غريبة على السفرة .. جبنة .. مربى .. زيتون .. حلاوة طحينية ....إلخ ، أصنافا لم يتعود أن يراها في مثل هذه المناسبة .
قال حفيده أيمن : هيا يا جدي باسم الله .
مد الجد يده إلى رقائق موضوعة في صحن بلاستيكي وسأل :
ـ ما هذا ؟
ـ شبس .
ـ هـه ...والله عشت وشفت الناس يأكلون ( امجبس ) .
ثم مد يده إلى صحن آخر فيه دوائر غريبة
ـ وهذا ؟
ـ مورتديلا .
ـ تريلا !
ـ يا جددددددددي . . هذي أطعمة ومأكولات حديثة
تنهد الجد بحسرة وهو يقول :
ـ إيه .. الله يرحمك يا ذاك الزمان .. أقول لكم : هَبَوا لي كسرة عيش وشوية إيدام . . قال كلمته تلك وهو ينهض متجها إلى غرفته ليستقر متكئا على قعادته ، ويرحل إلى الزمن الجميل .
نظر الجد إلى سقف غرفته مسافرا بفكره إلى الماضي ، وكأن شريطا من الذكريات الجميلة يمر أمامه ، لا يقطعها عليه إلا مرور أحد أفراد العائلة متجها إلى غرفته ليلقي بجسده الذي أنهكه السهر على السرير .
ـ يا أللاااااااااااااـه .... هذا بيتنا القديم ، وهذه أزقة حارتنا القديمة ..
في ليلة العيد تتحول البيوت إلى حركة نشطة ، النساء يجملن الدور استعدادا لزيارات المعيدين ، ويفرشن البطانيات على القعايد المطلية بألوان زاهية من البوية ، ويكسون المخدات بأكياس قماشية ملونة ومزينة بشرائط من الدانتيلا المشغولة ، يرتبن الفناجين ودلال القهوة وأطباق الحلويات المحلية الصنع على الطاولات الخشبية ، ويصففن آنية العطور والعود والمباخر على طاولات أخرى ، ولا يغمض لهن جفن حتى يتأكدن من اكتمال لوازم البهجة في دورهن الشعبية العتيقة .
من الأزقة الضيقة يخرج الرجال إلى المصلى لأداء صلاة العيد ، بعضهم يمسك بطفل صغير يرفل في ثوبه الجديد ويتزين بغترة وعقال جعلته مرتبكا كثير الحركات ، يحافظ عليها من السقوط كلما هبت نسمة صباحية .. بعضهم ترك طفلتين تبكيان ورفض اصطحابهما معه .
هذا بيت عيسى ، وهذه عُشَّة حَسْنة ، وهذا العم سالم الميسور الحال ـ لأنه يملك دكانا لبيع المراكب وأدوات البحر ـ يرتدي ثوبه الجديد وعمامته المزركشة ، وحذاءه المستورد من عدن .. والذي كلما داس عليه أصدر بعض الأصوات التي تلفت أنظار الناس إليه فيبادرونه بتهنئة غامرة
ـ عيدك مبارك يا عم سالم .. وملبوس العافية إن شاء الله
بعد انقضاء صلاة العيد يتبادل الرجال عبارات التهنئة ويتعانقون تعبيرا عن المحبة ، ثم يعودون إلى بيوتهم مشيا على الأقدام ، ويقطعون المسافة بين المصلى وبيوت الحارة بأحاديث المودة وضرب المواعيد لزيارات متبادلة .
في الصباح الباكر لأول أيام عيد الفطر المبارك تنهمك النساء في إعداد وجبة الإفطار ، فترى الأدخنة تتصاعد من أحواش الدور الشعبية والعِشَش .. وروائح الخبز والشواء تداعب أنوف المارة .
تقف النساء خلف المواقد ( الموافيه ) يشعلن النار في حطب السَّلَم ويتركنه يتقد حتى يصبح جمرا ، ثم يقرِّصن عجين الحَب ( الذرة الرفيعة ) المخمَّر أقراصا من العيش الحامض ، أو أقراصا من عجين الدقيق الأبيض ، ثم يضعن تلك الأقراص على أكفهن المحناة ، ثم يولجنها في فوهة التنور ويخبزنها بسرعة في جانبه ، ثم يضعن أسماك العربي المُمَلَّحة في قاعه .
بعد الإفطار يبدأ الرجال رحلة التزاور والمعايدة فيما بينهم .. تتعالى أصواتهم وصيحات نداءاتهم على أبواب بعضهم :
ـ يا بو .......
ـ أقْدُمْ .. أقْدُمْ .. تفَضَّلْ
ويبدأ العناق بين المهنئين ، فيتواصل المتباعدون ، ويتصالح المتخاصمون ، ويجتمع المتفرقون ، وتصفو القلوب ، وتزهر الابتسامات البيضاء على الشفاه .
يسكب الزائرون كؤوس التهنئة الحارة ، ويصب صاحب الدار القهوة في فناجين فخارية جميلة ، أو يسكب الشاي الأحمر في كاسات زجاجية صغيرة منقوشة بماء الذهب ولها مقابض زجاجية صغيرة ويقدمها لزائريه ناثرا فُلَّ الكلام
ـ أهلا وسهلا .. زارتنا البركة .. عيدكم سعيد ومبارك إن شاء الله .
يتنقل المعيدون بين البيوت حتى يقترب الظُّهر فيعودون إلى منازلهم ببطون متخمة .. وحموضة فاضت إلى الصدور مما شربوا من أشربة وأكلوا من أطعمة وحلويات ترضية ومجاملة لمضيفهم .
أطفال وطفلات الحي ينتشرون في الأزقة .. يطرقون أبواب الجيران .. يقدمون التهنئة لأهل الدار .. ويحصلون على هدايا العيد من حلويات أو نقود ، ثم يخرجون إلى الأزقة ليعبروا عن سعادتهم بالعيد باشعال ( الطراطيع ) ، أو إنفاق عيدياتهم في المراجيح الشعبية المنصوبة في ساحة الحي الواسعة .
عصرا يخرج النساء في ملابسهن الزاهية ، وزينتهن الجميلة من كحل وحناء وحُسْن ، وأطيابهن وزهورهن الفوَّاحة من فُلٍّ وكاذٍ وبعيثران ليزرن بعضهن بعضا ، أما الرجال فيجتمعون في أماكن فسيحة خارج الحارة لممارسة بعض الألعاب أو الرقصات الشعبية ابتهاجا بالعيد السعيد .
ـ آااااااااااااه يا ذاك الزمان
خرج الجد من بحر ذكرياته بآهة وحسرة على زمن طويت سجلاته ، وعادات يبست أوراقها ، وبهجة أفلت في غيابت الماضي رافعا صوته مناديا حفيدته :
ـ يا داليا ... هَبي لي وأنا جدك فنجان قهوة بحرة ( مُرَّة ) .. الله يرضى عليك
لم يرد عليه أحد .. لأن الكل قد غط في نوم عميق .. ليستيقظ ليلا .. ويعاود السهر من جديد .
عاد إلى قعادته وفي قلبه غصة طازجة .. وعلى شفتيه الجافتين أربع كلمات مرتعشة :
( الله يرْحَمِكْ يا فاطَمْ محمِّدية )
* * *
بقلمي / محمد حسن بوكر
1 / 10 / 1433 هـ