عاشقة الفردوس
01-20-2013, 11:35 PM
تُطلَق صفة جنون العظمة والغرور على كثير ممكن يدخلون معترك الأدب والأدبيات ، فيبالغ الأديب في مديح ذاته وفخره بنفسه أولاً ، ثم بقبيلته ، بشعره ، بوجوده .ويفيدهُ في ذلك مقولة أن : أجمل الشعر أكذبه ..
فيستفيض في وصفِ كيف يرى نفسه وكيف يطمح لأن يراه الآخرون .
وتتفاوت حالات جنون العظمة تبعاً لشخصية الكاتب أيضاً ، فتكون أحياناً برجاً يحاولُ إيصالَ مخيلتنا إليه يعتكفُ فيه ويبتعدُ قليلاً عمّن “دونَه” قاصداً إيصال فكرة ما من بعيد، وقد تكون أيضاً مساحة من مصارحة للذات واعترافاً لها ببعض ما فيها .
يصنّف الغرور أو إن أسميناه جنون العظمة والمفاخرة في الأدب تحت بند التوابل اللفظية ، كونها تضفي نكهة خاصة على القصيدة أو مقطع النثر .
ولعل أكثر أنواع جنون العظمة انتشاراً بين الأدباء هو الفخر بالـ “أنا” وبالمَكانة ، حيث يعطي الأديب نفسه مَكانة قد يستحقها من وجهة نظر الكثيرين وينسبها إلى جُهدِه وقوته ولا يسمح لأحد أن يمُنّ عليه بها ، فهو جدير بها وقد نالها بشكل عصامي دون فضل من أحد ..
يقول نزار :
يشرفني أنّي ما قبلت وساماً من أحد
فإنّي الذي يَمنحُ الأوسمة ..
ولم أكُ بوقاً لأيّ نظام ..
فشعري فوق الممالك والأنظمة …
نرى بين السطور لهجةَ تحدٍّ تتضح في مواضع التشديد والوقوف عند بداية القول ” يشرّفني أنّي .. فإنِّي .. لأيّ …” هذا الأمر يفيد التأكيد على أحقيّته فيما نسبه لنفسه من مكانة وعلوّ . إلا أنه يذهب بعيداً في كتابات أخرى ليرقى بنفسه وبشعره فوق كل ما سبق وكل ما سوف يلي . حيث يقول :
وكتبت شعراً .. لا يشابه سحره
إلا كلام الله في التوراة…
(……….)
مارست ألف عبادة وعبادة
فوجدت أفضلها عبادة ذاتي
من سياق هذه القصيدة ” الرسم بالكلمات ” نقرأ حسرة على مجد غارب ومحاولة للعودة بالمفردات الملفتة للنظر إلى تاريخ قد سبق من الانتصارات وقوة المكانة في الحب وفي الشعر وفي الغزل .
لكن وللحقيقة ، لا يمكننا أن نقول : ( يغذّي هذا الشعور إحساس الشاعر بالتجاهل وباللامبالاة الأدبية فيلجأ إلى أسلوب “انظروا جيداً .. أنا هنا ” .. ) .
لأن من يَكتبُ لا يُعدّ من الأدباء المغمورين ، أولئك الذين يتعطشون للشهرة والظهور ، لكنني أعزو هذا التوجه إلى إظهار حقيقة موجودة فعلاً ونيل الشاعر لما يستحق من تقدير ، على الرغم من الغلوّ أحياناً في التشبيهات .
وقد يأخذ الفخر شكلاً آخر أكثر شمولاً حين يكون فخراً بالنسب والقبيلة ،
فيتناول الشاعر هذا الأسلوب ويغذّي شعوبية الانتماء في عقول أفراد القبيلة والشعب بشكل عام ، ليس هذا فقط ، بل يتجاوزه ليبيح كل محظور ويقرّ كل الأمور التي تُدرج تحت مسمّى الخطأ وتأخذه عزّة قومه فيتعامى عن الحقوق وينسى الواجبات ويستمر واقفاً على مفردات تخوّله النظر فوق كل الرؤوس والإبحار في دوامة الفخر ، نبدأ من حيث يجب أن ننتهي ، يقول عمرو بن كلثوم في معلقته :
ألا لا يعلم الأقوام أنا ….تضعضعنا وأنا قد ونينا
ألا لا يجهلن أحد علينا .. فنجهل فوق جهل الجاهلينا
(………..)
إذا بلغ الفطام لنا صبي … تخر له الجبابر ساجدينا
هنا يقول الشاعر أنّه فرد ضمن مجموعة عظيمة ، لا يسترسل في مديح نفسه ،لكنّه يستمد قوّته من قوة المجموعة ويرى أن المجد للكل ، والكل يرمي بظلّه على شخصية الفرد ، فينال ما يريد من عزّة وعَظَمَة ، لكن القوة الشعريّة تتجلى واضحة أكثر في الفخر الفردي .
ولعل أجمل أنواع جنون العظمة ، تلك التي تكون في خدمة الكلمة ، اي بمعنى آخر هي الفخر بالإرث الثقافي ، أدرجتُ مثالاً من نزار عن الفخر بما يُكتَب وتشبيهه لما يكتُبُ بكلام الله ، لكن ذلك التشبيه يفيد نسب العظمة للـ ” أنا ” عن طريق إظهار قوة الكلام ، أما هنا فالعظمة تنسب إلى الثقافة ومخزون المعرفة الهائل الذي يحمله الكاتب ، يريد أن يقدّمه على طبق من فضّة للكثيرين ممّن هم بحاجة لهذه المعرفة حسب رأيه ، فالتراث الإنساني الفكري يجب أن يكون متاحاً أمام الجميع وخاصة العوام ، ولا يقبل الكاتب بالاستئثار بهذه النعمة وحرمان البقيّة من التلذذ بها ، فيسعى جاهداً إلى إضفاء القدسيّة على الحرف ويتنصّل من نسب العظمة لشخصه فيسكبها على الأحرف ليعطيها بعداً يليق بمكانتها ، ويدعو الجميع إلى تناول وليمة ” عقله ” بسخاء ، ولا شك أن هذا الأمر يظهر جلياً في مقالة جبران : ” نفسي مثقلة بثمارها ” حيث يقول :
نفسي مثقلة بثمارها فهل في الأرض جائع يحبني ويأكل ويشبع
نفسي طافحة بخمرها فهل من ظامئ يسكب ويشرب ويرتوي ؟
ألا ليتني كنت شجرة لا تُزهر ، ولا تثمر ، فألم الخصب أمر من ألم العقم ،
وأوجاع ميسور لا يؤخذ منه أشد هولاً من قنوط فقير لا يُرزق ..
ليتني كنت بئراً جافة والناس ترمي بي الحجارة فذلك أهون من أن أكون ينبوع ماء حي
والظامئون يجتازونني ولا يستقون ..
نرى هذا المخزون الهائل متجلياً بشكل واضح في قطعة النثر السابقة . الكاتب يدعو الجميع ، يستجدي العقول والقلوب لينهلوا من هذه البئر التي بلغ الماء حداً فيها تستطيع الذبابة الشرب منه ، يدعوهم لأن يأخذوا منه ما أتعبه حملُهُ فيشير إلى ذلك بشكل رمزي مبطّن في حرير التراكيب الأدبية الناعمة ،تلك تكون عظمة مُستحَقّة تختبئ خلف ما يعانيه الأديب ، فيلوم أعباء المجد والشهرة ويشرح مستفيضاً كيف تعب من تحمل ما حُمِّل من عظمة ومكانة ، لا يشير إلى ذلك صراحة ولكن أبياته ونثرياته تحمل في مضمونها ومعانيها ما يريد إيصاله للجمهور ، هي قوة وعظمة تختبئ تحت ضعف آني ظاهر جلبته حالة ما يعيشها الكاتب وتعيش في كلماته ،
من جداريّة درويش :
1400مركبة
و12000 فرس
تحمل اسمي المذهّب
من زمن نحو آخر ..
عشتُ كما لم يعش شاعر
ملكاً وحكيماً
هرمت ، سئمت من المجد
لا شيء ينقصني
ألهذا إذاً
كلما ازداد علمي تعاظم همّي
مجمل تلك القصيدة _ حسب ما رأيت _ يدور حول فكرة أن الكاتب يجب أن يقوم بدور لا يستطيع أحد سواه القيامَ به ومن هنا تأتي أهمّيته وعظمته .
.
في آخر المطاف أقول :
هؤلاء الأدباء نالوا ما نالوه من المجد والعظمة الأدبية ، يحقّ لهم أن يفخروا بجنونهم .. فهم جديرون به وهو جدير بهم .
منقول
فيستفيض في وصفِ كيف يرى نفسه وكيف يطمح لأن يراه الآخرون .
وتتفاوت حالات جنون العظمة تبعاً لشخصية الكاتب أيضاً ، فتكون أحياناً برجاً يحاولُ إيصالَ مخيلتنا إليه يعتكفُ فيه ويبتعدُ قليلاً عمّن “دونَه” قاصداً إيصال فكرة ما من بعيد، وقد تكون أيضاً مساحة من مصارحة للذات واعترافاً لها ببعض ما فيها .
يصنّف الغرور أو إن أسميناه جنون العظمة والمفاخرة في الأدب تحت بند التوابل اللفظية ، كونها تضفي نكهة خاصة على القصيدة أو مقطع النثر .
ولعل أكثر أنواع جنون العظمة انتشاراً بين الأدباء هو الفخر بالـ “أنا” وبالمَكانة ، حيث يعطي الأديب نفسه مَكانة قد يستحقها من وجهة نظر الكثيرين وينسبها إلى جُهدِه وقوته ولا يسمح لأحد أن يمُنّ عليه بها ، فهو جدير بها وقد نالها بشكل عصامي دون فضل من أحد ..
يقول نزار :
يشرفني أنّي ما قبلت وساماً من أحد
فإنّي الذي يَمنحُ الأوسمة ..
ولم أكُ بوقاً لأيّ نظام ..
فشعري فوق الممالك والأنظمة …
نرى بين السطور لهجةَ تحدٍّ تتضح في مواضع التشديد والوقوف عند بداية القول ” يشرّفني أنّي .. فإنِّي .. لأيّ …” هذا الأمر يفيد التأكيد على أحقيّته فيما نسبه لنفسه من مكانة وعلوّ . إلا أنه يذهب بعيداً في كتابات أخرى ليرقى بنفسه وبشعره فوق كل ما سبق وكل ما سوف يلي . حيث يقول :
وكتبت شعراً .. لا يشابه سحره
إلا كلام الله في التوراة…
(……….)
مارست ألف عبادة وعبادة
فوجدت أفضلها عبادة ذاتي
من سياق هذه القصيدة ” الرسم بالكلمات ” نقرأ حسرة على مجد غارب ومحاولة للعودة بالمفردات الملفتة للنظر إلى تاريخ قد سبق من الانتصارات وقوة المكانة في الحب وفي الشعر وفي الغزل .
لكن وللحقيقة ، لا يمكننا أن نقول : ( يغذّي هذا الشعور إحساس الشاعر بالتجاهل وباللامبالاة الأدبية فيلجأ إلى أسلوب “انظروا جيداً .. أنا هنا ” .. ) .
لأن من يَكتبُ لا يُعدّ من الأدباء المغمورين ، أولئك الذين يتعطشون للشهرة والظهور ، لكنني أعزو هذا التوجه إلى إظهار حقيقة موجودة فعلاً ونيل الشاعر لما يستحق من تقدير ، على الرغم من الغلوّ أحياناً في التشبيهات .
وقد يأخذ الفخر شكلاً آخر أكثر شمولاً حين يكون فخراً بالنسب والقبيلة ،
فيتناول الشاعر هذا الأسلوب ويغذّي شعوبية الانتماء في عقول أفراد القبيلة والشعب بشكل عام ، ليس هذا فقط ، بل يتجاوزه ليبيح كل محظور ويقرّ كل الأمور التي تُدرج تحت مسمّى الخطأ وتأخذه عزّة قومه فيتعامى عن الحقوق وينسى الواجبات ويستمر واقفاً على مفردات تخوّله النظر فوق كل الرؤوس والإبحار في دوامة الفخر ، نبدأ من حيث يجب أن ننتهي ، يقول عمرو بن كلثوم في معلقته :
ألا لا يعلم الأقوام أنا ….تضعضعنا وأنا قد ونينا
ألا لا يجهلن أحد علينا .. فنجهل فوق جهل الجاهلينا
(………..)
إذا بلغ الفطام لنا صبي … تخر له الجبابر ساجدينا
هنا يقول الشاعر أنّه فرد ضمن مجموعة عظيمة ، لا يسترسل في مديح نفسه ،لكنّه يستمد قوّته من قوة المجموعة ويرى أن المجد للكل ، والكل يرمي بظلّه على شخصية الفرد ، فينال ما يريد من عزّة وعَظَمَة ، لكن القوة الشعريّة تتجلى واضحة أكثر في الفخر الفردي .
ولعل أجمل أنواع جنون العظمة ، تلك التي تكون في خدمة الكلمة ، اي بمعنى آخر هي الفخر بالإرث الثقافي ، أدرجتُ مثالاً من نزار عن الفخر بما يُكتَب وتشبيهه لما يكتُبُ بكلام الله ، لكن ذلك التشبيه يفيد نسب العظمة للـ ” أنا ” عن طريق إظهار قوة الكلام ، أما هنا فالعظمة تنسب إلى الثقافة ومخزون المعرفة الهائل الذي يحمله الكاتب ، يريد أن يقدّمه على طبق من فضّة للكثيرين ممّن هم بحاجة لهذه المعرفة حسب رأيه ، فالتراث الإنساني الفكري يجب أن يكون متاحاً أمام الجميع وخاصة العوام ، ولا يقبل الكاتب بالاستئثار بهذه النعمة وحرمان البقيّة من التلذذ بها ، فيسعى جاهداً إلى إضفاء القدسيّة على الحرف ويتنصّل من نسب العظمة لشخصه فيسكبها على الأحرف ليعطيها بعداً يليق بمكانتها ، ويدعو الجميع إلى تناول وليمة ” عقله ” بسخاء ، ولا شك أن هذا الأمر يظهر جلياً في مقالة جبران : ” نفسي مثقلة بثمارها ” حيث يقول :
نفسي مثقلة بثمارها فهل في الأرض جائع يحبني ويأكل ويشبع
نفسي طافحة بخمرها فهل من ظامئ يسكب ويشرب ويرتوي ؟
ألا ليتني كنت شجرة لا تُزهر ، ولا تثمر ، فألم الخصب أمر من ألم العقم ،
وأوجاع ميسور لا يؤخذ منه أشد هولاً من قنوط فقير لا يُرزق ..
ليتني كنت بئراً جافة والناس ترمي بي الحجارة فذلك أهون من أن أكون ينبوع ماء حي
والظامئون يجتازونني ولا يستقون ..
نرى هذا المخزون الهائل متجلياً بشكل واضح في قطعة النثر السابقة . الكاتب يدعو الجميع ، يستجدي العقول والقلوب لينهلوا من هذه البئر التي بلغ الماء حداً فيها تستطيع الذبابة الشرب منه ، يدعوهم لأن يأخذوا منه ما أتعبه حملُهُ فيشير إلى ذلك بشكل رمزي مبطّن في حرير التراكيب الأدبية الناعمة ،تلك تكون عظمة مُستحَقّة تختبئ خلف ما يعانيه الأديب ، فيلوم أعباء المجد والشهرة ويشرح مستفيضاً كيف تعب من تحمل ما حُمِّل من عظمة ومكانة ، لا يشير إلى ذلك صراحة ولكن أبياته ونثرياته تحمل في مضمونها ومعانيها ما يريد إيصاله للجمهور ، هي قوة وعظمة تختبئ تحت ضعف آني ظاهر جلبته حالة ما يعيشها الكاتب وتعيش في كلماته ،
من جداريّة درويش :
1400مركبة
و12000 فرس
تحمل اسمي المذهّب
من زمن نحو آخر ..
عشتُ كما لم يعش شاعر
ملكاً وحكيماً
هرمت ، سئمت من المجد
لا شيء ينقصني
ألهذا إذاً
كلما ازداد علمي تعاظم همّي
مجمل تلك القصيدة _ حسب ما رأيت _ يدور حول فكرة أن الكاتب يجب أن يقوم بدور لا يستطيع أحد سواه القيامَ به ومن هنا تأتي أهمّيته وعظمته .
.
في آخر المطاف أقول :
هؤلاء الأدباء نالوا ما نالوه من المجد والعظمة الأدبية ، يحقّ لهم أن يفخروا بجنونهم .. فهم جديرون به وهو جدير بهم .
منقول