رهام
07-16-2013, 05:33 PM
بسم الله الرحمن الرحيم
والصلاة والسلام على أشرف الخلق والمرسلين أفضل الصلاة والتسليم
أعزائي
عنوان سهرتنا اليوم سيكون بر الوالدين
وأتمنى لما سأقدمه أن يكون هديه بسيطه لوالداي ولجميع آباء وأمهات المسلمين
وأبدأ بآيات الذكر الحكيم
وتفسيرها
{ وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا . وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا . رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِن تَكُونُواْ صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلأَوَّابِينَ غَفُورًا } {الإسراء/23-25}
{ وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا . وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا . }
تؤكد هاتين الآيتين على أمرين عظيمين :الأول, التأكيد على أصل توحيد الله, والثاني الإحسان إلى الوالدين.
وجاء الخطاب الإلهي في هذه الآيات الشريفة في أوج القوة, فالألفاظ التي اختيرت لأداء هذا البلاغ توحي بقوة البيان الإلهي, حيث يوجد تلاؤم قوي بينها وبين مع المعنى المراد.
سأشير إلى بعض الجوانب البلاغية المرتبطة بهاتين الآيتين الشريفتين من ناحية انتقاء الألفاظ ومن ناحية ترتيب الجمل.
الجانب البلاغي الأول :
لماذا لم يقل الله سبحانه وتعالى : {وَأمر رَبُّكَ رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ... الآية }
هل يوجد فرق بين الكلمتين ( أمر ) و ( قضى ) في الدلالة اللغوية ؟
نعم, يوجد فرق بينهما, فمفهوم كلمة ( قضاء ) يختلف عن مفهوم كلمة ( أمر ), فالقضاء يعني القرار و الأمر المحكم الذي لا نقاش فيه.
في اللسان : قضى الأمر عليهِ حتمهُ وأوجبهُ وألزمهُ بهِ. (1)
قال الراغب في المفردات :
قضى
- القضاء: فصل الأمر قولا كان ذلك أو فعلا، وكل واحد منهما على وجهين: إلهي، وبشري. فمن القول الإلهي قوله تعالى: { وقضى ربك أن لا تعبدوا إلا إياه } [الإسراء/23] أي: أمر بذلك، وقال: { وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب} [الإسراء/4] فهذا قضاء بالإعلام والفصل في الحكم، أي: أعلمناهم وأوحينا إليهم وحيا جزما، وعلى هذا: وقضينا إليه ذلك الأمر أن دابر هؤلاء مقطوع [الحجر/66]، ومن الفعل الإلهي قوله: { والله يقضي بالحق والذين يدعون من دونه لا يقضون بشيء} [غافر/20]، وقوله: { فقضاهن سبع سموات في يومين} [فصلت/12] إشارة إلى إيجاده الإبداعي والفراغ منه نحو: { بديع السموات والأرض} [البقرة/117]، وقوله: { ولولا كلمة سبقت من ربك إلى أجل مسمى لقضي بينهم} [الشورى/14] أي: لفصل. ... (2)
لذلك فإن مجيء كلمة " قضى " جاءت تأكيدا لبيان أهمية الإحسان إلى الوالدين.
الجانب البلاغي الثاني :
إن ترتيب الكلام – من ناحية بلاغية - تابع لأهميته المعنوية, فجاء البيان أولا بعبادة الله وحده لا شريك له, ثم أعقب ذلك مباشرة بيان أهمية الإحسان إلى الوالدين.
وندرك أهمية هذا الربط في شواهد قرآنية أخرى :
{ قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلاَدَكُم مِّنْ إمْلاَقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلاَ تَقْرَبُواْ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ } الأنعام/151
{ وَاعْبُدُواْ اللّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالجَنبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالاً فَخُورًا. } النساء/36
{ وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لاَ تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْناً وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنكُمْ وَأَنتُم مِّعْرِضُونَ }البقرة/83
إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا }
اللفتة الجمالية الأولى :
أصل سياق الكلام : إِمَّا يَبْلُغَنَّ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا الْكِبَر عِندَكَ.
إن ترتيب الكلم في هذا المقطع تابع للأهمية المعنوية فتم تقديم ( عندك ) للتشويق, ثم قدم المفعول ( الكبر ) على الفاعل ( أحدهما ) لئلا يطول الكلام به وبما عطف عليه.
اللفتة الجمالية الأخرى : { وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا}
جاء الخطاب بصيغة الجمع لأنه أوفى تعبيرا بأمر القضاء.
ثم جاء الخطاب بصيغة الإفراد فيما بعد ذلك : { إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا. }
لماذا لم يستخدم القرآن صيغة الجمع في هذا الخطاب كما استخدمها في بداية الخطاب, أي لماذا لم يجيء السياق القرآني :
{ إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكمَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُولوا لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْوهُمَ وَقولوا لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا. }
الجواب :
إن تعبير الخطاب بصيغة الفرد أكثر قوة في هذه الحالة فهو يفيد نهي كل أحد عن تأفيف والديه أو نهرهما, إذ لا يوجد أي شك في أن الخطاب موجه إلى كل فرد.
وللبحث صلة :
فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا }
الأف في الأصل : وسخ حول الظفر, وقيل وسخ الأذن, ويقال عند استقذار الشيء, ثم استعمل ذلك عند كل شيء يضجر منه ويتأذى به. وقيل أن أصلها نفخك للشيء يسقط عليك من تراب أو رماد وللمكان تريد إماطة أذى عنه, ثم قيلت لكل مستثقل. وقال الزجاج : معنى أف : النتن. (1)
(أف) اسم فعل مضارع بمعنى: أتضجر.
نسنتنتج مما تقدم أن اف تعني :
اسم صوت ينبىء عن التضجر.
اسم فعل بمعنى أتضجر.
كلمة أف تدل على انفعال طبيعي، و في الآية الكريمة دعوة إلى عدم التلفظ بها تذمرا من الأبوين, ولعل سائل ئسأل ماهي الفائددة البلاغية في مجيء " ولا تنهرهما " بعد ذكره " فلا تقل لهما أف ", ألا يمكن الاستغناء عن ذلك؟
الجواب :
التهر والانتهار : الزجر بمغالظة.
نهره وانتهره إذا استقبله بكلام يزجره.
إن التعبير القرآني متناه في القوة, فهو يود أن يؤكد على أهمية الإحسان إلى الوالدين من كل الزوايا, ومجيء { لا تنهرهما } لها أهميتها في البيان الإلهي, ذلك لأن النهر هو الزجر بقسوة، وهو انفعال تالٍ للتضجر وأشد منه قسوة, فالآية تدعو الإنسان إلى الحذر التام من التلفظ بالتأفف ، ومن نهر والديه .
قال الرازي : المراد من قوله " فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ " المنع من إظهار التضجر بالقليل أو الكثير, والمراد من قوله " وَلاَ تَنْهَرْهُمَا " المنع من إظهار المخالفة في القول على سبيل الرد عليه والتكذيب له. " (2)
يفيد النهي في قوله تعالى { فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ } المنع من سائر أنواع الإيذاء.
ثم جاء التأكيد مرة أخرى على ما ينبغي قوله لهما : { وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا }
الكريم في اللغة : اسم جامع لكل ما يحمد. (3 )
في اللسان : " وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا " أي سهلا لينا.
فالقول الكريم هو القول السهل اللين المقرون بإمارات التعظيم والاحترام.
لماذا جاءت " أفٍّ " منونة. هل للتنوين فائدة بيانية؟
التنوين أقسام : تنوين تمكين, وتنوين تنكير, وتنوين عوض.
نوع التنوين في " أفٍّ " تنوين تنكير, وهو نوع من التنوين يلحق بعض أسما ء الأفعال.
إيه : اسم فعل بمعنى زد من حديثك.
صه : اسم فعل, بمعنى اسكت.
مالفرق في قولنا : صهْ و صهٍ.
عندما نقول لشخص صهْ فإننا نطلب منه أن يسكت عن حديثه الذي هو فيه, أما إذا قلنا له صهٍ فإننا نطلب منه السكوت عن كل حديث.
وعندما نقول لشخص ( إيهِ ) فإننا نطلب منه الاستزادة في حديثه الذي يحدثنا إياه. أما إذا قلنا له ( إيهٍ ) فإننا نطلب منه الاستمرار في حديثه والمجيء بعده بحديث آخر وهكذا.
والآن دعونا نتقل إلى أف. هل هناك فرق بين " أف " غير منونة و " إفٍ " منونة؟
الجواب : نعم.
لقد جاء القرآن بـ " أفَّ "منونة ليدل بها على كل أنواع التضجر والاستقذار دون استثناء, وفي هذا قوة بيانية تضاف إلى ما أشرت إليه سابقا, ولو جاء بها غير منونة لدلت على نوع خاص من التضجر, فتأمل روعة اختيار الألفاظ المعبرة عن المعنى في القرآن الكريم.
وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِى صَغِيرًا }
ماالمقصود بـ ( الكاف ) في ( كما ربياني )؟
الكاف للتشبيه - بمعنى مثل - والجار والمجرور صفة مصدر مقدر أي كرحمة تربيتهما لي أو مثل رحمتهما علي. فالتربية رحمة.
و قيل أن حرف الكاف للتعليل, فيكون التقدير : ارحمهما لتربيتهما لي وجزاء إحسانهما لي حالة الصغر.
نجد في المقطع { وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِى صَغِيرًا } بيانا آسرا.
بعد أن أكد القرآن على تقديم الإنسان الرحمة لوالديه, جاء هذا البيان حاملا معه إضاءات بيانية تشع بالجمال, وفيها ربط بما تقدم, وإكمال لجوانبه.
جاء النداء الإلهي بألا يقتصر الإنسان على تقديم ضروب الرحمة الدنيوية لوالديه كما أوضحته المقاطع القرآنية المتقدمة, بل يتجاوزه إلى ماهو أعمق من ذلك من خلال طلب الإنسان من الله سبحانه وتعالى بأن يفيض بالرحمة الإلهية على والديه وذلك من خلال الدعاء لهما, ولم يقيد القرآن الكريم الدعاء بزمن, فالدعاء لهما مفتوح في حياتهما وبعد مماتهما. كما أن في هذا المقطع " كما ربياني صغير " تأكيد على فضل الوالدين ودورهما العظيم في التربية, وتذكير للإنسان بهذا الدور العظيم.
تأملوا روعة هذه الصورة الحسية الحركية التي ينقلنا القرآن إليها, فنحن أمام مشهد متحرك يتجلى فيه دور الأبوين وما يقومان به من مهام عظيمة لرعاية أبنائهم الصغار, بما فيه من تضحيات قدمها الأبوان ومصاعب تحملاها , و فيها رجوع إلى الوراء ليرى الإنسان مشهد الأم الحانية والأب العطوف وهما يقدمان رحيق حياتهما للأبناء.
فالبيان في " ارحمهما كما ربياني صغيرا " ليس جافا بل هو تصوير فني في قمة الروعة والجمال, جيء به ليستجيش وجدان الرحمة في قلوب الأبناء, كي يزيد من اهتمامهم بأبائهم وأمهاتهم عرفانا بما بذلوه لهم يوم أن كانوا صغارا, ويتجلى في " كما ربياني " مشهد الطفوله بكل أبعاده وذكرياته, وما يملؤه من مشاعر حب وحنان.
ونجد من خلال تتبع معاني هذه الآيات أن اختيار الألفاظ المعبرة عن المعاني المتتالية من الدقة بمكان عظيم, وأنه لا توجد ألفاظ زائدة, بل لكل مفردة موقعها الخاص الذي لا يستقيم المعنى إلا به, وندرك في هذا الخطاب قوة الخطاب الإلهي في التعبير, من خلال تأمل الجمال اللغوي والبلاغي في ارتباط الألفاظ ببعضها, وتناسق الجمل مع بعضها , و تسلسل المعاني المستوحاة من النص القرآني.
ولا زلنا نسبح في بحر الجمال اللغوي والبلاغي لهذه الآيات العظيمة :
{ وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا . وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا . رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِن تَكُونُواْ صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلأَوَّابِينَ غَفُورًا } {الإسراء/23-25}
{ وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا . وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا . رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِن تَكُونُواْ صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلأَوَّابِينَ غَفُورًا } {الإسراء/23-25}
هناك إشارات جمالية جديرة بالتأمل :
إِ{ مَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا }
هل هناك فائدة من ذكر " عندك "
ماذا لو جاء التعبير القرآني : " إِمَّا يَبْلُغَنَّ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا "
واقعا, مجيء " عندك " زادت من قوة المعنى المراد إيصاله لأنها أفادت معنى في كنفك ورعايتك, وتقدير المعنى القرآني : " إِمَّا يَبْلُغَنَّ في كنفك ورعايتك الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا ".
ونجد في هذه الآية تكرار الخطاب بصيغة المخاطَب لا الغائب, كما هو جلي في قوله : ربك , عندك, لا تقل, لا تنهر, قل, اخفض, وذلك لبيان أهمية الخطاب, وترسيخه في نفس المخاطَب.
ومن الإشارات الجميلة الإيحاءات التي حققتها هاتين الصورتين :
{ إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا } و { كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا }
مشهدان يتفقان في رسم شيء معين, وهي أن حالة الصغر وحالة الكبر تعتبران من حالات الضعف التي يمر بها الإنسان وتحتاج إلى رعاية, فكما قام الأبوان برعاية الأبناء في الصغر, فعلى الأبناء القيام برعاية الأباء في الكبر. فكما أن التربية للأطفال تحتاج على صبر, فكذلك رعاية الوالدين في الكبر, وذلك لما يعيشه الأبوان من عجز وضعف قد تصل ذروتها في بعضهم, حيث يحتاج إلى عناية شخصية كالتغذية والعناية الشخصية الخ....
نجد تكرير " قل " وذلك لتأكيد المعنى و تقريره وترسيخه في نفس المخاطَب :
{ وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا } { وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا }
ويعتبر هذا أحد موجبات الإطناب الذي يعتبر أحد فنون علم المعاني.
يوجد طباق سلب في قوله " فَلاَ تَقُل " و " وَقُل "
فائدة نحوية :
{ إِمَّا يَبْلُغَنَّ }
إما مركبة من " إن " الشرطية, و " ما " زائدة للتوكيد بدليل دخول نون التوكيد الثقيلة في الفعل.
ولا زلنا نسبح في بلاغة :
{ وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا . وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا . رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِن تَكُونُواْ صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلأَوَّابِينَ غَفُورًا } {الإسراء/23-25}
والصلاة والسلام على أشرف الخلق والمرسلين أفضل الصلاة والتسليم
أعزائي
عنوان سهرتنا اليوم سيكون بر الوالدين
وأتمنى لما سأقدمه أن يكون هديه بسيطه لوالداي ولجميع آباء وأمهات المسلمين
وأبدأ بآيات الذكر الحكيم
وتفسيرها
{ وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا . وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا . رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِن تَكُونُواْ صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلأَوَّابِينَ غَفُورًا } {الإسراء/23-25}
{ وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا . وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا . }
تؤكد هاتين الآيتين على أمرين عظيمين :الأول, التأكيد على أصل توحيد الله, والثاني الإحسان إلى الوالدين.
وجاء الخطاب الإلهي في هذه الآيات الشريفة في أوج القوة, فالألفاظ التي اختيرت لأداء هذا البلاغ توحي بقوة البيان الإلهي, حيث يوجد تلاؤم قوي بينها وبين مع المعنى المراد.
سأشير إلى بعض الجوانب البلاغية المرتبطة بهاتين الآيتين الشريفتين من ناحية انتقاء الألفاظ ومن ناحية ترتيب الجمل.
الجانب البلاغي الأول :
لماذا لم يقل الله سبحانه وتعالى : {وَأمر رَبُّكَ رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ... الآية }
هل يوجد فرق بين الكلمتين ( أمر ) و ( قضى ) في الدلالة اللغوية ؟
نعم, يوجد فرق بينهما, فمفهوم كلمة ( قضاء ) يختلف عن مفهوم كلمة ( أمر ), فالقضاء يعني القرار و الأمر المحكم الذي لا نقاش فيه.
في اللسان : قضى الأمر عليهِ حتمهُ وأوجبهُ وألزمهُ بهِ. (1)
قال الراغب في المفردات :
قضى
- القضاء: فصل الأمر قولا كان ذلك أو فعلا، وكل واحد منهما على وجهين: إلهي، وبشري. فمن القول الإلهي قوله تعالى: { وقضى ربك أن لا تعبدوا إلا إياه } [الإسراء/23] أي: أمر بذلك، وقال: { وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب} [الإسراء/4] فهذا قضاء بالإعلام والفصل في الحكم، أي: أعلمناهم وأوحينا إليهم وحيا جزما، وعلى هذا: وقضينا إليه ذلك الأمر أن دابر هؤلاء مقطوع [الحجر/66]، ومن الفعل الإلهي قوله: { والله يقضي بالحق والذين يدعون من دونه لا يقضون بشيء} [غافر/20]، وقوله: { فقضاهن سبع سموات في يومين} [فصلت/12] إشارة إلى إيجاده الإبداعي والفراغ منه نحو: { بديع السموات والأرض} [البقرة/117]، وقوله: { ولولا كلمة سبقت من ربك إلى أجل مسمى لقضي بينهم} [الشورى/14] أي: لفصل. ... (2)
لذلك فإن مجيء كلمة " قضى " جاءت تأكيدا لبيان أهمية الإحسان إلى الوالدين.
الجانب البلاغي الثاني :
إن ترتيب الكلام – من ناحية بلاغية - تابع لأهميته المعنوية, فجاء البيان أولا بعبادة الله وحده لا شريك له, ثم أعقب ذلك مباشرة بيان أهمية الإحسان إلى الوالدين.
وندرك أهمية هذا الربط في شواهد قرآنية أخرى :
{ قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلاَدَكُم مِّنْ إمْلاَقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلاَ تَقْرَبُواْ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ } الأنعام/151
{ وَاعْبُدُواْ اللّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالجَنبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالاً فَخُورًا. } النساء/36
{ وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لاَ تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْناً وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنكُمْ وَأَنتُم مِّعْرِضُونَ }البقرة/83
إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا }
اللفتة الجمالية الأولى :
أصل سياق الكلام : إِمَّا يَبْلُغَنَّ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا الْكِبَر عِندَكَ.
إن ترتيب الكلم في هذا المقطع تابع للأهمية المعنوية فتم تقديم ( عندك ) للتشويق, ثم قدم المفعول ( الكبر ) على الفاعل ( أحدهما ) لئلا يطول الكلام به وبما عطف عليه.
اللفتة الجمالية الأخرى : { وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا}
جاء الخطاب بصيغة الجمع لأنه أوفى تعبيرا بأمر القضاء.
ثم جاء الخطاب بصيغة الإفراد فيما بعد ذلك : { إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا. }
لماذا لم يستخدم القرآن صيغة الجمع في هذا الخطاب كما استخدمها في بداية الخطاب, أي لماذا لم يجيء السياق القرآني :
{ إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكمَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُولوا لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْوهُمَ وَقولوا لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا. }
الجواب :
إن تعبير الخطاب بصيغة الفرد أكثر قوة في هذه الحالة فهو يفيد نهي كل أحد عن تأفيف والديه أو نهرهما, إذ لا يوجد أي شك في أن الخطاب موجه إلى كل فرد.
وللبحث صلة :
فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا }
الأف في الأصل : وسخ حول الظفر, وقيل وسخ الأذن, ويقال عند استقذار الشيء, ثم استعمل ذلك عند كل شيء يضجر منه ويتأذى به. وقيل أن أصلها نفخك للشيء يسقط عليك من تراب أو رماد وللمكان تريد إماطة أذى عنه, ثم قيلت لكل مستثقل. وقال الزجاج : معنى أف : النتن. (1)
(أف) اسم فعل مضارع بمعنى: أتضجر.
نسنتنتج مما تقدم أن اف تعني :
اسم صوت ينبىء عن التضجر.
اسم فعل بمعنى أتضجر.
كلمة أف تدل على انفعال طبيعي، و في الآية الكريمة دعوة إلى عدم التلفظ بها تذمرا من الأبوين, ولعل سائل ئسأل ماهي الفائددة البلاغية في مجيء " ولا تنهرهما " بعد ذكره " فلا تقل لهما أف ", ألا يمكن الاستغناء عن ذلك؟
الجواب :
التهر والانتهار : الزجر بمغالظة.
نهره وانتهره إذا استقبله بكلام يزجره.
إن التعبير القرآني متناه في القوة, فهو يود أن يؤكد على أهمية الإحسان إلى الوالدين من كل الزوايا, ومجيء { لا تنهرهما } لها أهميتها في البيان الإلهي, ذلك لأن النهر هو الزجر بقسوة، وهو انفعال تالٍ للتضجر وأشد منه قسوة, فالآية تدعو الإنسان إلى الحذر التام من التلفظ بالتأفف ، ومن نهر والديه .
قال الرازي : المراد من قوله " فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ " المنع من إظهار التضجر بالقليل أو الكثير, والمراد من قوله " وَلاَ تَنْهَرْهُمَا " المنع من إظهار المخالفة في القول على سبيل الرد عليه والتكذيب له. " (2)
يفيد النهي في قوله تعالى { فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ } المنع من سائر أنواع الإيذاء.
ثم جاء التأكيد مرة أخرى على ما ينبغي قوله لهما : { وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا }
الكريم في اللغة : اسم جامع لكل ما يحمد. (3 )
في اللسان : " وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا " أي سهلا لينا.
فالقول الكريم هو القول السهل اللين المقرون بإمارات التعظيم والاحترام.
لماذا جاءت " أفٍّ " منونة. هل للتنوين فائدة بيانية؟
التنوين أقسام : تنوين تمكين, وتنوين تنكير, وتنوين عوض.
نوع التنوين في " أفٍّ " تنوين تنكير, وهو نوع من التنوين يلحق بعض أسما ء الأفعال.
إيه : اسم فعل بمعنى زد من حديثك.
صه : اسم فعل, بمعنى اسكت.
مالفرق في قولنا : صهْ و صهٍ.
عندما نقول لشخص صهْ فإننا نطلب منه أن يسكت عن حديثه الذي هو فيه, أما إذا قلنا له صهٍ فإننا نطلب منه السكوت عن كل حديث.
وعندما نقول لشخص ( إيهِ ) فإننا نطلب منه الاستزادة في حديثه الذي يحدثنا إياه. أما إذا قلنا له ( إيهٍ ) فإننا نطلب منه الاستمرار في حديثه والمجيء بعده بحديث آخر وهكذا.
والآن دعونا نتقل إلى أف. هل هناك فرق بين " أف " غير منونة و " إفٍ " منونة؟
الجواب : نعم.
لقد جاء القرآن بـ " أفَّ "منونة ليدل بها على كل أنواع التضجر والاستقذار دون استثناء, وفي هذا قوة بيانية تضاف إلى ما أشرت إليه سابقا, ولو جاء بها غير منونة لدلت على نوع خاص من التضجر, فتأمل روعة اختيار الألفاظ المعبرة عن المعنى في القرآن الكريم.
وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِى صَغِيرًا }
ماالمقصود بـ ( الكاف ) في ( كما ربياني )؟
الكاف للتشبيه - بمعنى مثل - والجار والمجرور صفة مصدر مقدر أي كرحمة تربيتهما لي أو مثل رحمتهما علي. فالتربية رحمة.
و قيل أن حرف الكاف للتعليل, فيكون التقدير : ارحمهما لتربيتهما لي وجزاء إحسانهما لي حالة الصغر.
نجد في المقطع { وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِى صَغِيرًا } بيانا آسرا.
بعد أن أكد القرآن على تقديم الإنسان الرحمة لوالديه, جاء هذا البيان حاملا معه إضاءات بيانية تشع بالجمال, وفيها ربط بما تقدم, وإكمال لجوانبه.
جاء النداء الإلهي بألا يقتصر الإنسان على تقديم ضروب الرحمة الدنيوية لوالديه كما أوضحته المقاطع القرآنية المتقدمة, بل يتجاوزه إلى ماهو أعمق من ذلك من خلال طلب الإنسان من الله سبحانه وتعالى بأن يفيض بالرحمة الإلهية على والديه وذلك من خلال الدعاء لهما, ولم يقيد القرآن الكريم الدعاء بزمن, فالدعاء لهما مفتوح في حياتهما وبعد مماتهما. كما أن في هذا المقطع " كما ربياني صغير " تأكيد على فضل الوالدين ودورهما العظيم في التربية, وتذكير للإنسان بهذا الدور العظيم.
تأملوا روعة هذه الصورة الحسية الحركية التي ينقلنا القرآن إليها, فنحن أمام مشهد متحرك يتجلى فيه دور الأبوين وما يقومان به من مهام عظيمة لرعاية أبنائهم الصغار, بما فيه من تضحيات قدمها الأبوان ومصاعب تحملاها , و فيها رجوع إلى الوراء ليرى الإنسان مشهد الأم الحانية والأب العطوف وهما يقدمان رحيق حياتهما للأبناء.
فالبيان في " ارحمهما كما ربياني صغيرا " ليس جافا بل هو تصوير فني في قمة الروعة والجمال, جيء به ليستجيش وجدان الرحمة في قلوب الأبناء, كي يزيد من اهتمامهم بأبائهم وأمهاتهم عرفانا بما بذلوه لهم يوم أن كانوا صغارا, ويتجلى في " كما ربياني " مشهد الطفوله بكل أبعاده وذكرياته, وما يملؤه من مشاعر حب وحنان.
ونجد من خلال تتبع معاني هذه الآيات أن اختيار الألفاظ المعبرة عن المعاني المتتالية من الدقة بمكان عظيم, وأنه لا توجد ألفاظ زائدة, بل لكل مفردة موقعها الخاص الذي لا يستقيم المعنى إلا به, وندرك في هذا الخطاب قوة الخطاب الإلهي في التعبير, من خلال تأمل الجمال اللغوي والبلاغي في ارتباط الألفاظ ببعضها, وتناسق الجمل مع بعضها , و تسلسل المعاني المستوحاة من النص القرآني.
ولا زلنا نسبح في بحر الجمال اللغوي والبلاغي لهذه الآيات العظيمة :
{ وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا . وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا . رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِن تَكُونُواْ صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلأَوَّابِينَ غَفُورًا } {الإسراء/23-25}
{ وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا . وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا . رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِن تَكُونُواْ صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلأَوَّابِينَ غَفُورًا } {الإسراء/23-25}
هناك إشارات جمالية جديرة بالتأمل :
إِ{ مَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا }
هل هناك فائدة من ذكر " عندك "
ماذا لو جاء التعبير القرآني : " إِمَّا يَبْلُغَنَّ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا "
واقعا, مجيء " عندك " زادت من قوة المعنى المراد إيصاله لأنها أفادت معنى في كنفك ورعايتك, وتقدير المعنى القرآني : " إِمَّا يَبْلُغَنَّ في كنفك ورعايتك الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا ".
ونجد في هذه الآية تكرار الخطاب بصيغة المخاطَب لا الغائب, كما هو جلي في قوله : ربك , عندك, لا تقل, لا تنهر, قل, اخفض, وذلك لبيان أهمية الخطاب, وترسيخه في نفس المخاطَب.
ومن الإشارات الجميلة الإيحاءات التي حققتها هاتين الصورتين :
{ إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا } و { كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا }
مشهدان يتفقان في رسم شيء معين, وهي أن حالة الصغر وحالة الكبر تعتبران من حالات الضعف التي يمر بها الإنسان وتحتاج إلى رعاية, فكما قام الأبوان برعاية الأبناء في الصغر, فعلى الأبناء القيام برعاية الأباء في الكبر. فكما أن التربية للأطفال تحتاج على صبر, فكذلك رعاية الوالدين في الكبر, وذلك لما يعيشه الأبوان من عجز وضعف قد تصل ذروتها في بعضهم, حيث يحتاج إلى عناية شخصية كالتغذية والعناية الشخصية الخ....
نجد تكرير " قل " وذلك لتأكيد المعنى و تقريره وترسيخه في نفس المخاطَب :
{ وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا } { وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا }
ويعتبر هذا أحد موجبات الإطناب الذي يعتبر أحد فنون علم المعاني.
يوجد طباق سلب في قوله " فَلاَ تَقُل " و " وَقُل "
فائدة نحوية :
{ إِمَّا يَبْلُغَنَّ }
إما مركبة من " إن " الشرطية, و " ما " زائدة للتوكيد بدليل دخول نون التوكيد الثقيلة في الفعل.
ولا زلنا نسبح في بلاغة :
{ وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا . وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا . رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِن تَكُونُواْ صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلأَوَّابِينَ غَفُورًا } {الإسراء/23-25}