عاشقة الفردوس
07-14-2014, 01:30 AM
بحوث ومقالات / مقالات
لذة العبادة
الحمد لله رب العالمين, والعاقبة للمتقين, ولا عدوان إلا على الظالمين, والصلاة والسلام على خير البشر سيد ولد آدم, محمد بن عبد الله بن عبد المطلب الهاشمي صلى الله عليه وعلى آله الأطهار, وصحابته الأخيار ما تعاقب الليل والنهار وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين. أما بعد:
فإن الغاية التي خلق من أجلها الإنسان, عبادة الله تبارك وتعالى, وفي هذه العبادة سعادة الإنسان في الدنيا والآخرة, والإنسان خلق من أجلها, ولم يخلق عبثاً وهملاً قال الله تبارك وتعالى: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ}[المؤمنون: 115], فالعبادة لله تبارك وتعالى فيها السعادة الكاملة لله رب العالمين, إنها تلك السعادة التي تغمر المرء المؤمن أثناء عبادته لربه تبارك وتعالى, وتلك الحلاوة التي يستشعرها الصالحون أثناء أدائهم لطاعات ربهم, وهي ذلك السرور الذي يعم القلب إذا أقبل الإنسان على ربه تبارك وتعالى مخلصاً صادقاً, فترى المؤمن قد علته السكينة, وسكنته الطمأنينة, واستشعر بالسرور والبشر قد علا وجهه, وأحس بمعاني الإيمان, فليس يحب أن تكون له الدنيا بأجمعها مقابل عبادة الله تبارك وتعالى أو وقوفه بين يدي خالقه تبارك وتعالى, وقد قال الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى: "وسمعت شيخ الإسلام أبن تيمية - قدس الله روحه - يقول: أن في الدنيا جنة من لم يدخلها لا يدخل جنة الآخرة, وقال لي مرة: ما يصنع أعدائي بي؟ أنا جنتي وبستاني في صدري، إن رحت فهي معي لا تفارقني، إن حبسي خلوة، وقتلي شهادة، وإخراجي من بلدي سياحة، وكان يقول في محبسه في القلعة: لو بذلت ملء هذه القاعة ذهبا ما عدل عندي شكر هذه النعمة، أو قال: ما جزيتهم على ما تسببوا لي فيه من الخير ونحو هذا، وكان يقول في سجوده وهو محبوس: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك, ما شاء الله, وقال لي مرة: المحبوس من حبس قلبه عن ربه تعالى, والمأسور من أسره هواه، ولما دخل إلى القلعة وصار داخل سورها نظر إليه وقال: {فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ لَّهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِن قِبَلِهِ الْعَذَابُ}[الحديد: 13], وعلم الله ما رأيت أحدا أطيب عيشا منه قط مع ما كان فيه من ضيق العيش وخلاف الرفاهية والنعيم بل ضدها، ومع ما كان فيه من الحبس والتهديد والإرهاق وهو مع ذلك من أطيب الناس عيشا وأشرحهم صدرا وأقواهم قلبا وأسرهم نفسا تلوح نضرة النعيم على وجهه وكنا إذا اشتد بنا الخوف وساءت منا الظنون وضاقت بنا الأرض أتيناه فما هو إلا أن نراه ونسمع كلامه فيذهب ذلك كله وينقلب انشراحا وقوة ويقينا وطمأنينة فسبحان من أشهد عباده جنته قبل لقائه وفتح لهم أبوابها في دار العمل فآتاهم من روحها ونسيمها وطيبها ما استفرغ قواهم لطلبها والمسابقة إليها.
وكان بعض العارفين يقول: لو علم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه لجالدونا عليه بالسيوف, وقال آخر: مساكين أهل الدنيا خرجوا منها وما ذاقوا أطيب ما فيها؟ قيل: وما أطيب ما فيها؟, قال: محبة الله تعالى ومعرفته وذكره أو نحو هذا وقال آخر: إنه لتمر بالقلب أوقات يرقص فيها طربا وقال آخر: إنه لتمر بي أوقات أقول إن كان أهل الجنة في مثل هذا إنهم لفي عيش طيب؛ فمحبة الله تعالى ومعرفته ودوام ذكره والسكون إليه والطمأنينة إليه, وإفراده بالحب والخوف والرجاء والتوكل والمعاملة بحيث يكون هو وحده المستولي على هموم العبد وعزماته وإرادته هو جنة الدنيا والنعيم الذي لا يشبهه نعيم، وهو قوة عين المحبين وحياة العارفين، وإنما تقر عيون الناس به على حسب قرة أعينهم بالله عز وجل فمن قرت عينه بالله قرت به كل عين ومن لم تقر عينه بالله تقطعت نفسه على الدنيا حسرات؛ وإنما يصدق هذا من في قلبه حياة وأما ميت القلب فيوحشك ما له ثم فاستأنس بغيبته ما أمكنك فإنك لا يوحشك إلا حضوره عندك فإذا ابتليت به فأعطه ظاهرك وترحل عنه بقلبك وفارقه بسرك، ولا تشغل به عما هو أولى بك، واعلم أن الحسرة كل الحسرة الاشتغال بمن لا يجر عليك الاشتغال به إلا فوت نصيبك وحظك من الله عز و جل وانقطاعك عنه وضياع وقتك وضعف عزيمتك وتفرق همك"1, بل إن الإنسان يحس باللذة عندما يكون في عبادة لا تعدلها لذة, وإن الإنسان ساجد بين يدي ربه تبارك وتعالى في ظلام الليل لا يطلع عليه أحداً من الخلق, فيقول: يا رب يا رب ويسبل الدمعة, فهذه لذة لا تساويها لذة, ولقد كان النبي الكريم صلى الله عليه وعلى آله وسلم يقوم الليل حتى تتفطر قدمها, وكان يصوم حتى يقال أنه لا يفطر، ويفطر حتى يقال أنه لا يصوم, فلا إله إلا الله, تقولُ عائشة رضي الله عنها: " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى قام حتى تَفَطَّر رجلاه، قالتْ عائشة: يا رسولَ اللهِ أتصنَعُ هذا، وقد غُفِرَ لك ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وما تَأَخَّرَ، فقال: ((يا عائِشَةُ أفلا أَكونُ عبدًا شكورًا))2، وعن حذيفة رضي الله عنه قال: "صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة فافتتح البقرة، فقلت: يركع عند المائة، ثم مضى فقلت: يصلي بها في ركعة، فمضى فقلت: يركع بها, ثم افتتح النساء فقرأها, ثم افتتح آل عمران فقرأها, يقرأ مترسلاً إذا مر بآية فيها تسبيح سبح, وإذا مر بسؤال سأل, وإذا مر بتعوذ تعوذ, ثم ركع فجعل يقول: سبحان ربي العظيم, فكان ركوعه نحوا من قيامه, ثم قال: سمع الله لمن حمده ثم قام طويلا قريبا مما ركع ثم سجد, فقال: سبحان ربي الأعلى فكان سجوده قريبا من قيامه3", ولقد كان الصحابة والصالحون من بعدهم رضي الله عنهم يفرحون بظلام الليل حين يدنوا وما ذلك إلا لوجود اللذة التي يجدونها من هذه المناجاة, ولا يحرم من هذه اللذة إلا محروم, وإنما حرم بسبب بعده من الله تبارك وتعالى, وبسبب المعاصي التي قيدته عن الطاعة, قال سفيان الثوري رحمه الله: "كان قيس بن مسلم يصلى حتى السحر ثم يجلس فيمسح البكاء ساعة بعد ساعة وهو يقول لأمر ما خلقنا لئن لم نأت الآخرة بخير لنهلكن, قال: وزار قيس بن مسلم محمد بن جحادة ذات ليلة فأتاه وهو في المسجد بعد صلاة العشاء, قال: ومحمد قائم يصلى فقام قيس بن مسلم في الناحية الأخرى يصلى فلم يزالا على ذلك حتى طلع الفجر, وكان قيس بن مسلم إمام مسجده, قال: فرجع إلى الحي فأمهم ولم يلتقيا, ولم يعلم محمد مكانه قال: فقال له بعض أهل المسجد: زارك أخوك قيس بن مسلم البارحة فلم تنفتل إليه, قال: ما علمت بمكانه, قال: فغدا عليه فلما رآه قيس بن مسلم مقبلا قام إليه فاعتنقه ثم خلوا جميعا فجعلا يبكيان4".
أسباب تحصيل اللذة في العبادة:
أولاً: مجاهدة النفس: وذلك بتعويدها العبادة والتدرج فيها، ولابد من الصبر في البداية على تعب العبادات, وحمل النفس عليها تارة وتشويقها إليها أخرى, حتى تذوق حلاوتها؛ فالتعب إنما يكون في البداية ثم تأتي اللذة بعدُ كما قال ابن القيم: " فإن السالك في أول الأمر يجد تعب التكاليف ومشقة العمل لعدم أنس قلبه بمعبوده فإذا حصل للقلب روح الأنس زالت عنه تلك التكاليف والمشاق فصارت قرة عين له وقوة ولذة5", قال الله تبارك وتعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمعَ الْمُحسِنِينَ}[العنكبوت: 96].
ثانياً: الإكثار من النوافل بكل أنواعها من صلاة, وقيام, وصيام, وذكر لله تبارك وتعالى عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله قال: من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضت عليه، وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، وإن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه، وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن نفس المؤمن يكره الموت وأنا أكره مساءته))6.
ثالثاً: صحبة المجتهدين وترك المفسدين فمن بركة صحبة أهل الصلاح: الاقتداء بهم، والتأسي بحالهم، والانتفاع بكلامهم، والنظر إليهم. قال جعفر بن سليمان: "كنت إذا وجدت من قلبي قسوة نظرت إلى وجه محمد بن واسع نظرة، وكنت إذا رأيت وجه محمد بن واسع حسبت أن وجهه وجه ثكلى"7, والثكلى هي: التي فقدت ولدها.
رابعاً: تدبر القرآن خاصةً ما يتلى في الصلوات، فإن في القرآن شفاءً للقلوب من أمراضها، وجلاءً لها من صدئها، وترقيقا لما أصابها من قسوة، وتذكيرًا لما اعتراها من غفلة، وذلك لما فيه من وعد ووعيد، وتخويف وتهديد، وبيان أحوال الخلق بطريقي أهل الجنة وأهل السعير، ولو تخيل العبد أن الكلام بينه وبين ربه تبارك وتعالى كأنه منه إليه لانخلع قلبه من عظمة الموقف، ثم يورثه أنس قلبه بمناجاة ربه، ولوجد من النعيم ما لا يصفه لسان أو يوضحه بيان؛ فالقرآن نزل لتدبر والعمل به, قال الله تبارك وتعالى:{كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ}[ص: 29], وقال:{أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءهُم مَّا لَمْ يَأْتِ آبَاءهُمُ الْأَوَّلِينَ}[المؤمنون: 68], وقال::{وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إَلاَّ خَسَارًا}[الإسراء: 82], وقال:{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ}[الأنفال: 2].
خامساً: الإكثار من الخلوة بالله تبارك وتعالى, كأن يكون ذلك في الثلث الأخير من الليل, وفي الأوقات المباركة كآخر ساعة من يوم الجمعة, وقبل الإفطار إذا كان صائماً, ويدعو الله تبارك وتعالى أن يعينه على طاعته ورضاه, ويتفكر في هذا الكون الذي خلقه الله تبارك وتعالى، فهو دليل على عظمة الله تبارك وتعالى فإن ذلك مما يزيد الإيمان وإذا زاد الإيمان وجدة اللذة.
سادسها: ترك المعاصي والذنوب: فكم من شهوة ساعة أورثت ذلاً طويلاً، وألماً وندماً على التفريط, وكم من ذنب حرم فعل الطاعات، وكم من نظرة حرمت صاحبها نور البصيرة، قال ابن الجوزي رحمه الله تعالى: "قال الحكماء: المعصية بعد المعصية عقاب المعصية، والحسنة بعد الحسنة ثواب الحسنة.
وربما كان العقاب العاجل معنوياً كما قال بعض أحبار بني إسرائيل: يا رب كم أعصيك ولا تعاقبني؟ فقيل له: كم أعاقبك وأنت لا تدري، أليس قد حرمتك حلاوة مناجاتي؟.
فمن تأمل هذا الجنس من المعاقبة وجده بالمرصاد، حتى قال وهب بن الورد وقد سئل: أيجد لذة الطاعة من يعصي؟ فقال: ولا من همَّ؛ فرب شخص أطلق بصره فحرم اعتبار بصيرته، أو لسانه فحرمه الله صفاء قلبه، أو آثر شبهة في مطعمه فأظلم سره، وحرم قيام الليل وحلاوة المناجاة، إلى غير ذلك8".
هذا ما تيسر القول فيه ونسأل الله تبارك وتعالى أن يعيننا على طاعته, وأن يرزقنا عبادته كما يحب ويرضى, وأن يغفر لنا ويرحمنا ويغفر لجميع المسلمين الأحياء والميتين, وأن يتوب على الجميع ويغفر الزلل, ونسأله أن يجنبنا الزلل في القول والعمل، والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
لذة العبادة
الحمد لله رب العالمين, والعاقبة للمتقين, ولا عدوان إلا على الظالمين, والصلاة والسلام على خير البشر سيد ولد آدم, محمد بن عبد الله بن عبد المطلب الهاشمي صلى الله عليه وعلى آله الأطهار, وصحابته الأخيار ما تعاقب الليل والنهار وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين. أما بعد:
فإن الغاية التي خلق من أجلها الإنسان, عبادة الله تبارك وتعالى, وفي هذه العبادة سعادة الإنسان في الدنيا والآخرة, والإنسان خلق من أجلها, ولم يخلق عبثاً وهملاً قال الله تبارك وتعالى: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ}[المؤمنون: 115], فالعبادة لله تبارك وتعالى فيها السعادة الكاملة لله رب العالمين, إنها تلك السعادة التي تغمر المرء المؤمن أثناء عبادته لربه تبارك وتعالى, وتلك الحلاوة التي يستشعرها الصالحون أثناء أدائهم لطاعات ربهم, وهي ذلك السرور الذي يعم القلب إذا أقبل الإنسان على ربه تبارك وتعالى مخلصاً صادقاً, فترى المؤمن قد علته السكينة, وسكنته الطمأنينة, واستشعر بالسرور والبشر قد علا وجهه, وأحس بمعاني الإيمان, فليس يحب أن تكون له الدنيا بأجمعها مقابل عبادة الله تبارك وتعالى أو وقوفه بين يدي خالقه تبارك وتعالى, وقد قال الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى: "وسمعت شيخ الإسلام أبن تيمية - قدس الله روحه - يقول: أن في الدنيا جنة من لم يدخلها لا يدخل جنة الآخرة, وقال لي مرة: ما يصنع أعدائي بي؟ أنا جنتي وبستاني في صدري، إن رحت فهي معي لا تفارقني، إن حبسي خلوة، وقتلي شهادة، وإخراجي من بلدي سياحة، وكان يقول في محبسه في القلعة: لو بذلت ملء هذه القاعة ذهبا ما عدل عندي شكر هذه النعمة، أو قال: ما جزيتهم على ما تسببوا لي فيه من الخير ونحو هذا، وكان يقول في سجوده وهو محبوس: اللهم أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك, ما شاء الله, وقال لي مرة: المحبوس من حبس قلبه عن ربه تعالى, والمأسور من أسره هواه، ولما دخل إلى القلعة وصار داخل سورها نظر إليه وقال: {فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ لَّهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِن قِبَلِهِ الْعَذَابُ}[الحديد: 13], وعلم الله ما رأيت أحدا أطيب عيشا منه قط مع ما كان فيه من ضيق العيش وخلاف الرفاهية والنعيم بل ضدها، ومع ما كان فيه من الحبس والتهديد والإرهاق وهو مع ذلك من أطيب الناس عيشا وأشرحهم صدرا وأقواهم قلبا وأسرهم نفسا تلوح نضرة النعيم على وجهه وكنا إذا اشتد بنا الخوف وساءت منا الظنون وضاقت بنا الأرض أتيناه فما هو إلا أن نراه ونسمع كلامه فيذهب ذلك كله وينقلب انشراحا وقوة ويقينا وطمأنينة فسبحان من أشهد عباده جنته قبل لقائه وفتح لهم أبوابها في دار العمل فآتاهم من روحها ونسيمها وطيبها ما استفرغ قواهم لطلبها والمسابقة إليها.
وكان بعض العارفين يقول: لو علم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه لجالدونا عليه بالسيوف, وقال آخر: مساكين أهل الدنيا خرجوا منها وما ذاقوا أطيب ما فيها؟ قيل: وما أطيب ما فيها؟, قال: محبة الله تعالى ومعرفته وذكره أو نحو هذا وقال آخر: إنه لتمر بالقلب أوقات يرقص فيها طربا وقال آخر: إنه لتمر بي أوقات أقول إن كان أهل الجنة في مثل هذا إنهم لفي عيش طيب؛ فمحبة الله تعالى ومعرفته ودوام ذكره والسكون إليه والطمأنينة إليه, وإفراده بالحب والخوف والرجاء والتوكل والمعاملة بحيث يكون هو وحده المستولي على هموم العبد وعزماته وإرادته هو جنة الدنيا والنعيم الذي لا يشبهه نعيم، وهو قوة عين المحبين وحياة العارفين، وإنما تقر عيون الناس به على حسب قرة أعينهم بالله عز وجل فمن قرت عينه بالله قرت به كل عين ومن لم تقر عينه بالله تقطعت نفسه على الدنيا حسرات؛ وإنما يصدق هذا من في قلبه حياة وأما ميت القلب فيوحشك ما له ثم فاستأنس بغيبته ما أمكنك فإنك لا يوحشك إلا حضوره عندك فإذا ابتليت به فأعطه ظاهرك وترحل عنه بقلبك وفارقه بسرك، ولا تشغل به عما هو أولى بك، واعلم أن الحسرة كل الحسرة الاشتغال بمن لا يجر عليك الاشتغال به إلا فوت نصيبك وحظك من الله عز و جل وانقطاعك عنه وضياع وقتك وضعف عزيمتك وتفرق همك"1, بل إن الإنسان يحس باللذة عندما يكون في عبادة لا تعدلها لذة, وإن الإنسان ساجد بين يدي ربه تبارك وتعالى في ظلام الليل لا يطلع عليه أحداً من الخلق, فيقول: يا رب يا رب ويسبل الدمعة, فهذه لذة لا تساويها لذة, ولقد كان النبي الكريم صلى الله عليه وعلى آله وسلم يقوم الليل حتى تتفطر قدمها, وكان يصوم حتى يقال أنه لا يفطر، ويفطر حتى يقال أنه لا يصوم, فلا إله إلا الله, تقولُ عائشة رضي الله عنها: " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى قام حتى تَفَطَّر رجلاه، قالتْ عائشة: يا رسولَ اللهِ أتصنَعُ هذا، وقد غُفِرَ لك ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وما تَأَخَّرَ، فقال: ((يا عائِشَةُ أفلا أَكونُ عبدًا شكورًا))2، وعن حذيفة رضي الله عنه قال: "صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة فافتتح البقرة، فقلت: يركع عند المائة، ثم مضى فقلت: يصلي بها في ركعة، فمضى فقلت: يركع بها, ثم افتتح النساء فقرأها, ثم افتتح آل عمران فقرأها, يقرأ مترسلاً إذا مر بآية فيها تسبيح سبح, وإذا مر بسؤال سأل, وإذا مر بتعوذ تعوذ, ثم ركع فجعل يقول: سبحان ربي العظيم, فكان ركوعه نحوا من قيامه, ثم قال: سمع الله لمن حمده ثم قام طويلا قريبا مما ركع ثم سجد, فقال: سبحان ربي الأعلى فكان سجوده قريبا من قيامه3", ولقد كان الصحابة والصالحون من بعدهم رضي الله عنهم يفرحون بظلام الليل حين يدنوا وما ذلك إلا لوجود اللذة التي يجدونها من هذه المناجاة, ولا يحرم من هذه اللذة إلا محروم, وإنما حرم بسبب بعده من الله تبارك وتعالى, وبسبب المعاصي التي قيدته عن الطاعة, قال سفيان الثوري رحمه الله: "كان قيس بن مسلم يصلى حتى السحر ثم يجلس فيمسح البكاء ساعة بعد ساعة وهو يقول لأمر ما خلقنا لئن لم نأت الآخرة بخير لنهلكن, قال: وزار قيس بن مسلم محمد بن جحادة ذات ليلة فأتاه وهو في المسجد بعد صلاة العشاء, قال: ومحمد قائم يصلى فقام قيس بن مسلم في الناحية الأخرى يصلى فلم يزالا على ذلك حتى طلع الفجر, وكان قيس بن مسلم إمام مسجده, قال: فرجع إلى الحي فأمهم ولم يلتقيا, ولم يعلم محمد مكانه قال: فقال له بعض أهل المسجد: زارك أخوك قيس بن مسلم البارحة فلم تنفتل إليه, قال: ما علمت بمكانه, قال: فغدا عليه فلما رآه قيس بن مسلم مقبلا قام إليه فاعتنقه ثم خلوا جميعا فجعلا يبكيان4".
أسباب تحصيل اللذة في العبادة:
أولاً: مجاهدة النفس: وذلك بتعويدها العبادة والتدرج فيها، ولابد من الصبر في البداية على تعب العبادات, وحمل النفس عليها تارة وتشويقها إليها أخرى, حتى تذوق حلاوتها؛ فالتعب إنما يكون في البداية ثم تأتي اللذة بعدُ كما قال ابن القيم: " فإن السالك في أول الأمر يجد تعب التكاليف ومشقة العمل لعدم أنس قلبه بمعبوده فإذا حصل للقلب روح الأنس زالت عنه تلك التكاليف والمشاق فصارت قرة عين له وقوة ولذة5", قال الله تبارك وتعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمعَ الْمُحسِنِينَ}[العنكبوت: 96].
ثانياً: الإكثار من النوافل بكل أنواعها من صلاة, وقيام, وصيام, وذكر لله تبارك وتعالى عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله قال: من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضت عليه، وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، وإن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه، وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن نفس المؤمن يكره الموت وأنا أكره مساءته))6.
ثالثاً: صحبة المجتهدين وترك المفسدين فمن بركة صحبة أهل الصلاح: الاقتداء بهم، والتأسي بحالهم، والانتفاع بكلامهم، والنظر إليهم. قال جعفر بن سليمان: "كنت إذا وجدت من قلبي قسوة نظرت إلى وجه محمد بن واسع نظرة، وكنت إذا رأيت وجه محمد بن واسع حسبت أن وجهه وجه ثكلى"7, والثكلى هي: التي فقدت ولدها.
رابعاً: تدبر القرآن خاصةً ما يتلى في الصلوات، فإن في القرآن شفاءً للقلوب من أمراضها، وجلاءً لها من صدئها، وترقيقا لما أصابها من قسوة، وتذكيرًا لما اعتراها من غفلة، وذلك لما فيه من وعد ووعيد، وتخويف وتهديد، وبيان أحوال الخلق بطريقي أهل الجنة وأهل السعير، ولو تخيل العبد أن الكلام بينه وبين ربه تبارك وتعالى كأنه منه إليه لانخلع قلبه من عظمة الموقف، ثم يورثه أنس قلبه بمناجاة ربه، ولوجد من النعيم ما لا يصفه لسان أو يوضحه بيان؛ فالقرآن نزل لتدبر والعمل به, قال الله تبارك وتعالى:{كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ}[ص: 29], وقال:{أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءهُم مَّا لَمْ يَأْتِ آبَاءهُمُ الْأَوَّلِينَ}[المؤمنون: 68], وقال::{وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إَلاَّ خَسَارًا}[الإسراء: 82], وقال:{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ}[الأنفال: 2].
خامساً: الإكثار من الخلوة بالله تبارك وتعالى, كأن يكون ذلك في الثلث الأخير من الليل, وفي الأوقات المباركة كآخر ساعة من يوم الجمعة, وقبل الإفطار إذا كان صائماً, ويدعو الله تبارك وتعالى أن يعينه على طاعته ورضاه, ويتفكر في هذا الكون الذي خلقه الله تبارك وتعالى، فهو دليل على عظمة الله تبارك وتعالى فإن ذلك مما يزيد الإيمان وإذا زاد الإيمان وجدة اللذة.
سادسها: ترك المعاصي والذنوب: فكم من شهوة ساعة أورثت ذلاً طويلاً، وألماً وندماً على التفريط, وكم من ذنب حرم فعل الطاعات، وكم من نظرة حرمت صاحبها نور البصيرة، قال ابن الجوزي رحمه الله تعالى: "قال الحكماء: المعصية بعد المعصية عقاب المعصية، والحسنة بعد الحسنة ثواب الحسنة.
وربما كان العقاب العاجل معنوياً كما قال بعض أحبار بني إسرائيل: يا رب كم أعصيك ولا تعاقبني؟ فقيل له: كم أعاقبك وأنت لا تدري، أليس قد حرمتك حلاوة مناجاتي؟.
فمن تأمل هذا الجنس من المعاقبة وجده بالمرصاد، حتى قال وهب بن الورد وقد سئل: أيجد لذة الطاعة من يعصي؟ فقال: ولا من همَّ؛ فرب شخص أطلق بصره فحرم اعتبار بصيرته، أو لسانه فحرمه الله صفاء قلبه، أو آثر شبهة في مطعمه فأظلم سره، وحرم قيام الليل وحلاوة المناجاة، إلى غير ذلك8".
هذا ما تيسر القول فيه ونسأل الله تبارك وتعالى أن يعيننا على طاعته, وأن يرزقنا عبادته كما يحب ويرضى, وأن يغفر لنا ويرحمنا ويغفر لجميع المسلمين الأحياء والميتين, وأن يتوب على الجميع ويغفر الزلل, ونسأله أن يجنبنا الزلل في القول والعمل، والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.