عاشقة الفردوس
07-19-2014, 10:53 PM
السيدة خديجة أم المؤمنين رضى الله عنها
للشيخ محمد بن علوي المالكي - رحمه الله تعالى
الحمد لله الذي شرف هذا الوجود ببعثه أكرم نبي وأعز مولود *سيدنا ومولانا محمد النبي المقدس المحمود* ذي الشفاعة العظمى والحوض المورود*عنصر الفضائل المشهود* وكريم الامهات والآباء والجدود* نخبة العالم* وسيد ولد آدم* من انتقل في الغرر الكريمة نوره* وأضاء الكون ميلاده وبعثته وظهوره * وطلعت شمس الهداية والعرفان* بانفلاق صبحه على كل الاكوان والصلاة والسلام على سيد السادات* كامل الشمائل والصفات* ذي النور العميم* والقدر العظيم* والصراط المستقيم* والدين القويم* والحسبب الصميم* والمجد الفخيم* وعلى لآله وصحابته* وأزواجه وذريته* وتابعيه من اهل ملته* وخديجة التي تشرفت بعشرته وصحبته* وفازت بخدمته* وشهدت يوم بعثته* وقامت بتأيده في دعوته* ومؤازرته ونصرته
أما بعد* فهذه نفحات نبوية* وفيوضات ربانية* جرى بها القلم في مناقب أم المؤمنين* وفضائل زوجة سيد المرسلين* وشمائلها التي هي أحسن الشمائل* المقتبسة من أخلاق ذلك الانسان الكامل* سيد الأواخر والأوائل* جمعتها لكي تتعطربها المجالس والنوادي* في الحواضر والبوادي* أنتخبتها من عيون الأخبار* ومجاميع الآثار* المودعة في السير والأسفار* وضمنتها من ذلك كل ماهو مقبول* عند الائمة والحفاظ والفحول* من كلقول محمود* ليس بموضوع ولامردود* وهذا أوان الشروع في المقصود* بعون الملك المعبود*
فأقول: هي سيدتنا خديجة بنت خويلد بن أسد بن عبدالعزى بن قصي الأسدية * تجتمع مع النبي صلى الله عليه وسلم في جده قصي الذي جمع القبائل القرشية *
وأمها فاطمة بنت زائدة بن الاصم من بني عامر بن لؤي بن غالب* فأكر بهذا النسب الطاهر الذي هو نسب أشرف الحبائب* وقد حفظها الله تعالى من أرجاس الجاهلية* فأحاط عرض هذه السيدة الزكية * وصانة من كل أذية وبلية * برعايته وعنايته الباهرة * ولذلك كانت تلقب بالسيدة الطاهرة* فما أجل هذه المنحة الفاخرة * واشتهر تلقيبها بالكبرى * لعظم شانها في المعاهد الاخرى* وهي بذلك أحق وأحرى*
وقد ولدت رضي الله عنها قبل ولادته صلى الله عيه وسلم بنحو خمس عشرة سنة* فنشأت في بيت طاهر طيب الأعراق* على أكمل السير المحمودة وأحسن الأخلاق* فكانت رضي الله عنها متكاملة حسناً وعقلاً* وجمالاً وفضلاً* ازمة رشيدة في جميع أمورها* حسنة التدبير والتصرف في جميع شؤونها* ذات فراسة قوية* وهمة علية* لها نظر ثاقب* ومعرفة دقيقة في العواقب* أغناها الله تعالى بسعة النعم* وكثرة الخدم والحشم* ومن عليها ذو الجلال* بكثرة الأمول* فكانت تستأجر الرجال* ليتاجروا في ذلك بالحلال* فتضاربهم عليه بشيء معلوم* ويستفيد بذلك الجميع على العموم* وظهرت أسرار تلك الأخلاق المرضية * والأوصاف الحسنة الزكية *
فيما بلغته بين قومها في الاهلية * من مكانة علية * ورتبة سنية * وشهرة قوية * فهي الدرة الثمينة * الطاهرة الرزينة * دوحة المجد الطيبة الفروع * وشجرة الفرد اليانعة الافراد والمجموع
اللهم انشر نفحات الرضوان عليها وأمدنا من الاسرار التي أودعتها لديها اللهم صل وسلم على زوجها الامين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
وقد أراد الله تعالى لهذه السيدة الطاهرة* أن تجمع بين شرف الدنيا وعز الاخرة* فوصلت اليها أخبار سيد المرسلين* وأخذت تتعرف علها بتدبر وتفكر ويقين* فرأت انه المجمع على فضله المبين* وانه المشهود له بانه التقي النقي الامين* وانه الصادق المصدق* والكريم الذي لايلحق ولايسبق
فعلمت أن معاملة مثل هذا ناجحة* ومتاجرته ان شاء الله رابحة* فما كان منها إلا ان بعثت اليه* وعرضت مشروعها التجاري عليه* وهو أن يتجر لها في مالها* وتعطيه أفضل ما تعطيه لعمالها
فقبل ذلك عليه الصلاة والسلام* وخرج بتجارتها من البلد الحرام* قاصداً بلاد الشام* وهذه هي الرحلة الثانية ولم يثبت انه صلى الله عليه وسلم سافر الى الشام إلا في هاتين المرتين* في عامين مختلفين* كما ذكره بعض الحفاظ المرجوع أليهم* المعول على قولهم*
وأرسلت معه ميسرة الغلام* وأوصته عليه وامرته ان يكون قائماً بخدمته حق القيام* فألقى الله محبة النبي في قلبه* حتى أخذت بعقله ولبه* وخدمه فأخلص خدمته* وصحبه فأحسن صحبته
ورأى بعينيه شيئاً من أسراره* وسمع بأذنه ماسمع من أخباره* ومن ذلك ماحدث به الراهب نسطوراً* وهو حق ليس بخرافة ولا أسطورة* إذ قال ذلك الراهب* وقد رأى أشرف الحبائب* نزل تحت شجرة هناك* من هذا الذي يفوق بدر الافلاك* فقال ميسرة: هذا رجل من الكرام* من أهل البلد الحرام* فقال له الراهب وهو واثق مما يقول* مانزل تحت هذه الشجرة إلا نبي أو رسول* ثم قال لميسرة: أفي عينيه حمرة لاتفارقه؟* قال: نعم. قال: هذا آخر نبي فهنيئاً لمن يصدقه* ثم في تلك الاثناء* وقع بين سيد الانبياء* ورجل كان في تلك الانحاء* خلاف في ثمن بعض المشتريات* فقال له الرجل أحلف بالعزى واللات* كما يجري بينهم في مثل تلك الحالات* فقال سيد السادات* والله ماحلفت بهما* وأني لأمر فأعرض عنهما* فقال الرجل: القول قولك* والرأي عندك* ثم قال لميسرة: هذا والله نبي تشرفنا به في سوقنا* وانه لتجده أحبارناً معنوناً في كتبناً*ومن ذلك انه كان يرى في كل تلك المدة القصيرة* سحابة تظلله دون الجميع في وقت الظهيرة* وقيل فيما روي انه كان يرى ملكين* يظللان سيد الكونين
ولما أتم صلى الله عليه وسلم مهمته* وباع سلعته* رجع الى مكة وقد اكتسب خيرات كثيرة* وجاء بأرباح وفيرة* فسرت بذلك السيدة خديجة أيما سرور* وحمدت فعله المشكور* ونظرت أليه بعين الاكبار والاحترام* وأكرمته غاية الاكرام*وتأثرت بشخصيته كل التأثير* فأكنت له في نفسها عظيم التقدير* وزاد ذلك عندها بعد ما حدثها ميسرة بما شاهده من الآيات* وعجائب الاحوال وخوارق العادات* التي هي للنبوة دلائل واضحات*حدثها عن السحابة التي صحبته في سفره فكانت نعم الصاحب * وعن كلام ذلك الراهب * وعن طاعة الابل وطي الارض له* والتوفيق الذي لازمه في سفره كل الملازمة * وتلك الرمال والحجارة التي لانت تحت مواطىء قدمية* وكل ذلك وعاه بقلبه وعينيه* وحدثها بما رآه من حسن سيرته* في خلقه ومعاملته * مع ماسبق له معرفته من عنه من صدق حديثه * وعظيم أمانته * وكريم أخلاقه وديانته * فأصبحت هذه الصفات و الاخلاق العلية * مثبتة متيقنة لديها جلية * فأحست بعارض غريب * عن صورة وحقيقة ذلك الحبيب * وتحيرت من امر نفسها * وأصبحت قلقة بين قلبها وعواطفها * فقد رفضت بالامس القريب الكثيرمن الرجال * من ذوي الوجاهة والمال * وردتهم خائبين متحسرين * لرفضها طلبهم المتين
ولما أراد الله تعالى لها السعادة الابدية * والشرف والفضل على نساء البرية * ترجح عندها ان لا تفوت هذه الفرصة الذهبية
واستبانت خديجة انه الكنز= الذي حاولته والكيمياء
فاختارت لنفسها الزكي الامين* سيد ولد آدم اجمعين* ومن لاحت في وجهه علامات النبل والجمال* وتكاملتت فيه خصال الكمال والجلال* وبدت عليه امارات السيادة* وظهرت منه اشارات النجابة والقيادة 0 فما كان منها إلا ان ارسلت اليه* وعرضت نفسها عليه * فخطبت الرسول الاعظم* والنبي الاكرم* صلى الله عليه وسلم* وقالت له: يابن عم* اني قد رغبت فيك لقرابتك وشرفك* وسامي منزلتك وقدرك * وفي رواية انها ارسلت له نفيسة بنت امية دسيساً إليه فقالت له: مايمنعك ان تتزوج؟ فقال: مافي يدي شيء* فقالت له: فإن كفيت ودعيت الى المال والجمال والكفاءة؟ قال: من؟ قال خديجه
وقد ألهم الله نبيه صلى الله عليه وسلم الموافقة* فكانت خطوة مباركة موفقة* فتشاور أعمامه الكرام وأيدوه على ذلك الكلام* فتقدم حمزة فكلم عمها وقيل اباها والصحيحان اباها خويلد قد مات قبل حرب الفجار* ثم حضر رؤساء قريش يتقدمهم أبوطالب* فكان هو لسان حالهم المتكلم الخاطب* فقالزوجات الرسول الله عليه وسلم وحياتهمالحمد لله الذي جعلنا من ذرية إبراهيم وزرع إسماعيل وضئضىء معد وعنصر مضر وجعلنا حضنة بيته وسواس حرمه* وجعل لنا بيتاً محجوباً وحرماً آمناً* وجعلناالحكام علىالناس* ثم ان ابن اخي هذا محمد بن عبدالله لايوزن به رجل إلا رجح به* فإن كان في المال قل* فإن المال ظل زائل* وأمر حائل* ومحمد من قد عرفتم قرابته* وقد خطب خديجة بنت خويلد* وبذل لها من الصداق ماآجله وعاجله من مالي كذا وهو والله بعد هذا له نبأ عظيم وخطب جليل)
ثم قام ورقة بن نوفل فقالزوجات الرسول الله عليه وسلم وحياتهمالحمد لله الذي جعلنا كما ذكرت وفضلنا على ماعددت فنحن سادة العرب وقادتها وأنتم أهل ذلك كله لاتنكر العشيرة فضلكم ولايرد أحد من الناس فخركم وشرفكم وقد رغبنا في الاتصال بحبلكم فاشهدوا علي يامعشر قريش بأني قد زوجت خديجة بنت خويلد من محمد بن عبدالله على اربعمائة دينار) ثم سكت فقال ابوطالب: قد أحبببت ان يشركك عمها فقال عمها: أشهدوا يامعشر قريش أني قد أنكحت محمد بن عبدالله خديجة بنت خويلد
وقد جاء في سيرة ابن هشام* انه عليه أفضل الصلاة والسلام* أصدقها عشرين بكرة سنية* وقيل أثنا عشر أوقية من الذهب ونصف أوقية* وكل هذا لايعارض ما جاء في خطبة ورقة بن نوفل السابقة من ان الصداق اربعمائة درهم إذ يمكن الجمع بينهما بتقويم الثمن بذلك او ان احد الاشياء مهر والآخر هدية من عمه ابي طالب للسيدة خديجة اوانه صلى الله عليه وسلم زاد ذلك في صداقها على صداق عمه فكان الكل صداقاً
وتزوج نبينا الامين* سيدتنا أم المؤمنين* وقد اتم خمساً وعشرين* وأتمت هي الاربعين
قال صاحب فرة الابصار:
وإذ الى مكة عاد وافتتح = ستاً وعشرين من العمر نكح
خديجة من بعد اربعينا = مضت لها من عمرها سنينا
وقد نحر صلى الله عليه وسلم جزورا او جزورين* وقرت بذلك من المحبين العين* وانشرحت منهم الصدور* وعم الفرح والسرور* وطلع سعد السعود* وانكمد الفؤاد المفؤد* وغدا الحسود لايسود وهو مهموم* وقال ابوطالب: الحمد لله الذي أذهب عنا الكرب والغموم* وقال في ذلك الراجز في قوله المنظوم:
لاتزهدي خديج في محمد = نجم يضيء كاضاء الفرقد
ولما تزوجت خديجة سيد ولد عدنان* كان قد تزوجها قبله رجلان* وهما هند ابوهالة بن زرارة من بني عدي* وعتيق بن عائد بن مخزوم القرشي* وقد اختلفوا في تعين الثاني من الاول* وليس في ذلك نص صريح عليه يعول* وقد كان عندها من الذرية* من غير خير البرية * عبدمناف وهند وهما من زوجها عتيق* وقيل أن هنداً هذه أسلمت وفازت بالصحبةوالتصديق* وولدت لأبي هالة ولداُ* سموه هنداُ* وهو صحابي جليل ممن شهد بدراً وأحداً* وقد روى حديثاً مشهوراً في صفة النبي صلى الله عليه وسلم* وقتل يوم الجمل مع سيدنا علي ذي الوجه المكرم* وذكر بعضهم انه ما بالبصرة في الطاعون* وكان قد مات في ذلك اليوم سبعون ألفا كلهم من المسلمون* فشغل الناس بجنائزهم وتركت جنازته* ولم وجد من يحمله فصاحت نادبته:
وا هند بن هنداه= واربيب رسول الله
فلم تبق جنازة إلا وتركت* وأما جنازته فحملت* وازدحم عليها الناس فامتلأت بهم المواضع* وماحملت إلا على أطراف الاصابع* وقال بعضهم ان الذي مات في الطاعون ابن هذا المذكور* ويسى هنداً أيضاً والخلاف في ذلك مشهور* وكان فصيحاً بليغاً وصافاً محسناً* وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان مجيداً منتقناً* وكان يقول: أنا اكرم الناس اباً واماً* وأخاً وأختاً* ابي رسول الله* وامي خديجة التي عنها رضي الله* وأخي القاسم عليه السلام* وأختي فاطمة عليها الرحمة والاكرام* ولخديجة من ابي هالة ابنان غير هذا المذكور* أحدهما الطاهر والآخرهالة والاول غير مشهور
وقد كان لها رضي الله عنها مواقف مع زوجها مشكورة* فلا تذكر قصة الوحي والبعثة إلا وهي معها مذكورة* وسنذكر مسألة الوحي من أولها* لنعرف مقدار هذه السيدة وفضلها*
فاعلم أن أول مابدىء به رسول الله من النبوة التي تفضل بها عليه مولاه* أنه كان لايمر بشجر ولاحجر إلا قال: السلام عليك يارسول الله* وغير ذلك من الارهاصات التي أشهرها الرؤيا الصادقة* فكان صلى اللهعليه وسلم لايرى رؤيا في نومه إلا وكانت لامحالة واقعة* وحبب الله إليه الخلوة* فلم يكن شيء أحب إليه من أن يخلو وحده* فكان يجاور من كل سنة شهراً في حراء* مشتغلا بالعبادة والتفكر في ملكوت الارض والسماء* وكان إذا خرج الى حراء تتكفل خديجة يكل حاجاته* وتحقق له كافة رغباته* وتهيء له الطعام والشراب وتيسر له ماتسطيع من الاسباب* فيقطع لمقصود* ويقبل على معبوده* وهو مرتاح البال* من كل المتعلقات والاشغال* فإذا طالت غيبته عليها* تركت كل ما لديها* وخرجتت تتلمسهفي مكانه الذي تعود الذهاب إليه* وقلبها يخفق من شدة خوفها عليه* حتى إذا رأته مستغرقا في وحدته* منجمعا على فكرته* رجعت ولم تكلمه لئلا تقطعه عن خلوته* وتبقى منتظرة موعد عودته* لتعمل جاهدة على إزالة وحشته* وإدخال السرور الى قلبه* والسعادة الى نفسه
ولقد كانت خديجة صادقة الفراسة* صائبة النظرة* صافية الفكرة* وكانت على ثقة من أن رجلا كزوجها محمد الامين* يحمل هذه الروح العالية* والنفس السامية* والفضائل التي عرفتها قريش بأسرها* يضلف الى مانقله إليها عبدها* مما سبق ذكره وتقدم نشره* كانت على ثقة من أنه سيكون له شأن عظيم* يتحدث عنه المسافر والمقيم* وسيحث في التاريخ أمراً* تهتز له الدنيا عجبا وتيها وفخرا* فما أجل عينها الصادقة الحنونة* التي ترعاه في حب وتباشر شؤنه* وما أعظم قلبها العطوف الذي يزوده بالرعاية* ويخفق له فرحاً منتظراً يومه الذي تنصب له فيه الراية* وينشر له مرسوم دائرة الولاية
ومرت الايام* على هذا النظام* فما اكل الاربعين على التمام* حتة\ى جاء اليوم الذي هيأته القدرة الربانية* لأبلاغة الرسالة السماوية* وهو في وحدته التعبدية* بعد أن مهدت من قبل الاسباب* وتفتحت لذلك الابواب* فأتاه في ذلك المقام* في اليقظة لا في المنام* رسول الملك العلام* وقال له إقراء فقال ما انا بقارىء ولست من جملة القراء* فأخده فغطه وما تركه حتى بلغ غاية الجهد والاعياء* ثم أمره بالقراءة مرة ثانية فامنتع* فأخذه وغطه ألا بعد ما كاد يقع* وفب الثالثة قال له (أقرأ باسم ربك الذي خلق خلق الانسان من علق أقرأ وربك الاكرم الذي علم بالقلم علم الانسان ما لم يعلم) فما أعظمها من بشارة أوصلتها يد الاحسان* من حضرة الامتنان* الى هذا الانسان* وأيدها ببشارة (الرحمن علم القرآن خلق الانسان علمه البيان) ولا شك أنه صلى الله عليه وسلم هو المقصود بهذا التعليم* من حضرة الرحمن الرحيم* فرجع رسول الله صلى الله عليه وسلم الى زوجته* بعد أن شهد مشهد كرامته* وفؤاده يرجف من هول ما رآه* وشدة ماسمعه وقراه* ولقد كاد ينخلع لولا تثبيت مولاه* وقال زملوني زملوني فزملته* فلما ذهب عنه الروع وحدثها قال لها: لقد خشيت على نفسي* فداه أبي وأمي ونفسي* فقالت كلا والله لايخزيك الله أبدا* وان الله سيكتب لك عزا ومجدا وسؤددا* فرحمك موصولة* ويدك لضيفك مبذولة* تحمل الكل وتكسب المعدوم* وتقرى الضيف وتعين على نوائب الحق كل مكلوم* واثبت يابن عم فلك البشرى* فوالله لقد كنت أعلم أن الله لايفعل بك إلا خيرا* وأني أشهد انك نبي هذه الامة امنتظر* وهذا زمانك ان شاء الله قد حضر* وقد اخبرني اصح غلامي وبحيرى الراهب بخبرك المبين* وامرني ان أتزوجك قبل عشرين من السنين
ثم انطلقت به الى ورقة بن نوفل وأخبرته بالتفصيل* فقال لسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم حدثني بفك أيها السيد النبيل* فأخذ يحدثه بما رآه وسمعه من سيدنا جبريل* فقال ورقة هذا والله الناموس الجليل* الذي كان ينزل على موسى رسول بني اسرائيل* ياليتني أكون حاضرا* ومؤيدا لدعوتك وناصرا* وفي رواية ان السيدة خديجة قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم في أول أمره* إذا جاء صاحبك بالوحي فأخبرني بخبره* فلما جاءه أخبرها فقالت: أجلس على شقي الايمن فجلس فقالت: نعم قالت: فتحول فجلس على حجري فتحول فجلس في حجرها قالت: هل تراه الان قال: نعم فرفعت خمارها عن رأسها وقالت: هل تراه الان قال: لا قالت: ماهذا بشيطان* هذا ملك من ملائكة الرحمن
وأتاه في بيتها جبريل = ولذي اللب في الامور ارتياء
فأماطت عنها الخمار لتدري = أهو الوحي أم هو الاغماء
فاختفى عندكشفها الرأس جبر = يل فما عاد أو أعيد الغطاء
وكانت تفعل ذلك أحتياطا لدينها وزيادة في يقينها* أما النبي صلى الله عليه وسلم فقد كان واثقا بذلك الخطاب* دون شك أو تردد أو ارتياب
وفي تلك اللحظة الكريمة* سعدت الدنيا بالرسالة العظيمة* ومن ذلك الجبل المشهود* في ذلك اليوم الموعود* طلعت شمس الوجود* فأفاضت نورا جديدا* واستقبل العالم صباحا سعيدا* لقد كان هذا العالم يستقبل كل يوم صباحا* ولكنه لايرى فيه للامة خيرا ولا فلاحا* وما اكثرالنهار المظلم* والصبح الكاذب المعتم* لكن في هذا المكان المتواضع* وعلى ذلك الجبل الراسخ* الذي ليس بمخصب ولاشامخ* تم مالم يتم في عواصم العالم الكبيرة بمديناته وحضاراته الشهيرة* ومدارسه الفخمة* ومكتباته الضخمة* إذ من الله على هذه الامة* برسالة محمد الذي كشفعنها الغمة* وجلى الظلمة* فطلع الصبح المشرق الصادق* واستيقظ فيه الكون بعد ان كان في غفلته غارق* وتعرف على المفتاح النبوي* الذي يفتح كل علق ملتوي* فظهرت له شناعة الشرك والوثنية* والخرافات والاوهام الجاهلية* فتهذبت تلك القوى الجامحة كل التهذيب* وانصقلت تلك المواهب الضائعة بهدى الحبيب* وتقلبت بين مقامي الترغيب والترهيب* فتدفت كالسيل واشتعلت كاللهيب* حتى كان راعي الابل راعي الامم* وخليفة يحكم العالم وإليه يحتكم* وأصبح فارس الفبيلة والبلد* فاتح الدول ذات المجد والعدد* فكثر العدل وانتشر النور* وقل الجدل وفقد شهادة الزور* وتبدلت الاحوال* الى أحسن حال* فالتاجر أمين صدوق* والغني سخي مرزوق* والفقير شريف كادح* والعامل مجتهد ناصح* والرئيس متواضع رحيم* والخازن حفيظ عليم والقاضي عادل فهيم* فظهر في ذلك المجتمع صدق التاجر وأمانته* وتعفف الفقير وكدحه* واجتهاد العامل ونصحه* وسخاوة الغني ومواساته* وعدل القاضي وحكمته* وإخلاص الوالي وشفقته* وتواضع الرئيس ورحمته*وقوة الخادم وحراسته* فكانت تلك البعثة للعالم ريبعا* وللانسانية خصبا وريعا
وقد اختص الله هذه الجوهرة المصونة* والدرة المكنونة* بمزايا عديدة *وخصال حميدة
فمنها أنها هي التي طلبته* والى الزواج بها دعته* وأنها أول مرأءة يتزوجها* ووليمتها اول وليمة يصنعها* وعاشت معه بقية عمرها* ولم يتزوج بغيرها* حتى ماتت بعد أن رأى خالص برها* ودفنها بمكة ونزل هو بنفسه في قبرها* وقد عاشرته أربعا وعشرين سنة أحسن عشرة* ورافقته أفضل رفقه* وآلفته أعظم ألفه* وصادقته او فى محبة* وكانت لا ترى منه ميل الى شيء إلا بادرت به إليه* وقدمته هدية بين يديه* وقد رأت منه قبل البعثة النبوية* رغبة في موالاها زيد بن حارثة قوية* فما كان منها إلا ان وهبته له بنفس راضية سخية* فكان الى حضرته من المنسوبين وكتب في ديوان المسعودين* وفاز بالاولوية مع السابقين* وتشرف بمحبوبية سيد المرسلين
ومن خصائصها التي نالت بها أعلى مراتب الشرف والكمال* أنها أول من آمن به من النساء والرجال* فصدقته وآزرته* وأعانته وثبتته* وخفف الله بسسب إيمانها عن نبيه صلى الله عليه وسلم كل هم* وفرج عنه ما أصابه في الدعوة من تعب ونكد وغم* فكان لا يسمع شيئا من زمرة الالحاد* من تكذيب وجحود وعناد* ويرجع الى خديجة إلا ويجد عندها كل هدى وسداد* فتهون عليه الرزايا وتواسيه* وتبعث الطمأنينة الة نفسه وتسليه* وتمنحه العطف وتبشره* بما سوف تراه فيه* وتشجعه وتؤيده بكل خير تمنيه
وقد ثبت انها رضي الله عنها صلت معه عليه الصلاة والسلام* وتشرفت يبمنقبة الوضوء واستقبال البيت الحرام* وكان جبريل قد علم النبي صلى الله عليه وسلم تلك الصلاة * قبل ان تفرلاض الخمس الصلوات ليلة المناجاة* وكان يصلي صلاتين مرة في العشية ومرة في الغداة
وقد روي عن يحيى بن عفيف انه قال: جئت زمن الجاهلية الى مكة فقدمت مني ايام الحج ونزلت على العباس بن عبدالمطلب فلما طلعت الشمس خرج رجل من خباء قريب منا* فستقبل الكعبة وقام يصلي* فلم يلبث حتى جاء غلام فقام عن يمينه* فلم يلبث حتى جاءت فقامت خلفهما* فركع الرجل* فركع الغلام والمرأة* فرفع فرفعا فسجد فسجدا غفلت: أمر عظيم* فقال: أمر عظيم* أتدري من هذا؟ قلت لا* فقال: هذا محمد بن عبدالله ابن اخي* أتدري من الغلام؟ قلت: لا قال: هذا علي بن ابي طالب* أتدري من المرأة؟ قلت:لا فقال: هذه خديجة بنت خويلد زوجة بن أخي وهذا حدثني ان ربك رب السماء والارض أمرهم بهذا الذي تراهم عليه وأيم الله ما أعلم على ظهر الارض كلها أحدا على هذا الدين غير هؤلاء الثلاثة* قال عفيف الراوي: فليتني كنت آمنت يومئذ فكنت أكون ثانيا
ومن خصائصها عليها الرحمة والاكرام* أنها أفضل نساء المصطفى بالتماتم* كما جاء في الحديث عن سيد الانام* انه قال(سيدة نساء العالمين مريم ثم فاطمة ثم خديجة ثم آسية امرأة فرعون) وفي رواية عن انس مرفوعة (حسبك من نساء العالمين مريم بنت عمران وخديجة بنت خويلد وفاطمة بنت محمد وآسية) وهو حديث ثابت بلا مراء* وقد حكم بصحته أجلة العلماء وفي رواية صحيحة ثابتة لا يشك فيها اتنان* انه صلى الله عليه وسلم قال(خير نسائها مريم وخير نسائها خديجة) وقد روى هذا الشيخان
والاحاديث في هذا الباب كثيرة* وهي معروفة في أصول كتب أهل السنة الشهيرة* وكلها متفقة في مجوعها بيقين* على ان مريم وخديجة وفاطمة وخديجة وآسية هن أفضل نساء العالمين* رضي الله تعالى عنهن أجمعين* والخلاف بين العلماء في تعين أولاهن* والموازنة في الافضلية بينهن* وقد اجتهد بعضهم في تعيين واحدة* وتكلف التأويل والجمع ولا أرى في ذلك فائدة
ومن خصائصها الشريفة*ومناقبها المنيفة
*
الاول القاسم وهو أكبر الاولاد* وبه كان صلى الله عليه وسلم يتكنى بين العباد* وهو أول من مات من ولده* ودفن في بعض الاقوال بمكة بلده*
والثاني عبدالله ويقال له الطاهر والطيب لأنه ولد في الاسلام* ومات صغيرا بالبلد الحرام
الثالثة زينب وهي أكبر بناته وقد ولدت قبل بعثته* وتزوجها أبوالعاص بن الربيع وكان أسلامها وهجرتها قبل أسلامه وهجرته* وتوفيت في اول عام ثمانية من هجرة المصطفى* ودفنت في جنة البقيع وقبرها هناك لايخفى
والرابعة رقية والخامسة ام كلثوم* وقد كانتا تحت ولدي ابي لهب الشقي المحروم* فلما نزلت تبت يدا أبي لهب* غضب ابوهما أشد الغضب* وقال لولديه: رأسي من رأسكما حرام* أن لم تفارقا ابنتي محمد صاحب ذلك الكلام*يقصد بذلك إيذاءه عليه الصلاة والسلام* ففارقهما قبل الدخول عليهما* ولم يصلا بفضل الله إليهما
وقد تزوجت رقية بسيدنا عثمان بن عفان* وهاجرت معه الى الحبشة فرارا بالايمان* ثم رجعت وهاجرت معه الى مدينة الشفيع* وماتت عند ودفنت بجنة البقيع* ثم تزوج بعدها أختها وهي ام كلثوم* وماتت عنده ايضا وقبرها في البقيع معلوم* فيكون قد تزوج من بنات النبي اثنتين* ولذلك اشتهر بين الانام بذي النورين* ولو كانت هناك ثالثة لمن بها عليها سيد الكونين
والسادسة فاطمة الغراء* المعروفة بالبتول والزهراء* أم الحسن والحسين اهل الرضا* وزوج الامام علي المرتضى* الذي أحسن عشرتها وأخلص لها حبها* ولم يتزوج عليها حتى قضت عنده نحبها* وكانت وفاتها سنة أحدى عشرة من الهجرة النبوية* بعد ان عمرت ثلاثين سنة قمرية* ودفنت بالبقيع على أصح الاقوال المروية* وقيل دفنت ببيتها الذي بجانب الحجرة النبوية* وهو في المسج الان وليس في ذلك رواية مرضية* وبهذا تعلم ان بناته دخلن في الاسلام* وهاجرن معه من المدينة الى البلد الحرام
فهؤلاء جملة اولاده منها رضي الله عنهم أجمعين* وحشرنا في زمرتهم مه رسول رب العالمين* آمين
ومن فضائلها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا ينسى أبداً ودها * ويحفظ في أهلها عهدها * فيبعث لهم بما يأتيه من الهدايا * ولا يتركهم إذا قسم بين أصحابه العطايا.
وقد يذبح الشاة بنفسه ثم يقطع أعضاءها * ويخص بها أصدقاءها وأقرباءها * فإذا غارت السيدة عائشة ولم يتحمل ذلك قلبها * قال لها صلة الله عليه وسلم * (لقد رزقت حبها فأنا أحب من يحبها) .
ومن فضائلها المروية عن أئمة المحدثين الكبار
* في كثير من كتب السنن والسير والآثار* أنه صلى الله عليه وسلم كان يكثر من ذكرها * وينشر بين الجميع طيب خبرها وحسن برها * ويثنى عليها أحسن الثناء * ويستغفر لها الله ويكثر لها من الدعاء * ويتحدث عن ما لها من الشرف والفضل والكمال * ويسترسل في ذلك الحديث دون ملل ولو طال * فإذا سمعته السيدة عائشة يتحدث عنها غارت أشد الغيرة عنها * غارت أشد الغيرة منها * وقالت: ما هي إلا حمراء الشدقين عجوز كبيرة * وقد عوضك الله خيراً منها شابة صغيرة * فكان يغضب من قولها * ويخاصمها على فعلها * ويقول ( ما أبدلني الله خيراً منها لقد آمنت بي إذ كفر الناس وصدقتني إذ كذبني الناس وآوتني إذ رفضني الناس وواستني إذ حرمني الناس ورزقني أولادها إذ حرمني أولاد النساء)
وقد جاء في بعض الآثار المروية * عن السيدة عائشة الصديقية * أنها قالت : ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً خديجة باهتمام * فاحتملني الغيرة وقلت فيها ما لاينبغي من الكلام * فتغير وجهه تغيراً ما كنت أراه إلا عند نزول الوحي عليه * وسقط في جلدي وندمت على إساءتي بذلك إليه * وقلت:: اللهم إن أذهبت غيظ رسولك الآن * لم أعد أذكرها بسوء ما بقيت مدى الأزمان * فلما رأى ذلك مني * عذرني وسامحني و عفا عني * وذكر لي طرفاً من فضائلها الغراء * وبهذا تعلم أن غيرتها لا عن بغض أو عداء * وإنما هي طبيعة معروفة في النساء * وعائشة هي التي نقلت لنا في فضل خديجة ذلك الخبر * ولولاها ما كنا وقفنا له على عين و لا أثر ومن فضائلها عليها الرحمة والإكرام
ومن خصائصها رضي الله
عنها ما رواه الشيخان * أن جبريل بشرها ببيت في الجنان * إذ قال ذلك الملك المكرم * للنبي صلى الله عليه وسلم * بشر خديجة ببيت في الجنة من قصب لا صخب فيه ولا نصب
ومن فضائلها رضي الله عنها الغراء * أنها وقفت مع النبي صلى الله عليه وسلم في السراء والضراء * ولم ترض أن تتركه لما قاطعه في الشعب الأعداء * فخرجت عن بيتها الرفيع * ومقامها المنيع * ودخلت معه الشعب فكانت من جملة المحصورين * ولم تبال بسنها الذي زاد على الستين * رغبة في متابعة سيد المرسلين * فاستبدلت حياة العز والرفاهية * بتلك الحياة الخشنة القاسية * وكم ذاقت معهم مرارة العطش والجوع * إذ كان الطعام والشراب عن الجميع ممنوع * فيحق للتاريخ أن يحنى رأسه أمام جلالها * ويتوج صحائفه بكريم فعالها
والحاصل أن فضائلها لا تعد * ومناقبها لا تحد * وما عسى أن يقال فيمن وصفها سيد ولد عدنان * وأشاد بذكرها على رؤوس الأعيان * ورفع شأنها بين النساء على كل شأن * وذكر فضلها وشرفها الثابت بالتحقيق * وشكر لها مواقفها معه في الإيمان والصديق
فما أعظم أخلاقها القويمة * وسيرتها المستقيمة * التي هي عين أوصاف المؤمن الكريم * كما أخبر عنها الرسول العظيم * عليه الصلاة والتسليم * إذ قالزوجات الرسول الله عليه وسلم وحياتهم إن المؤمن تراه * قوة تراه في دين * وحزماً في لين * وإيماناً في يقين * وحرصاً في علم * وعلماً في حلم * وشفقة في محبة * وبراً في استقامة * وقصداً في غنى* وتجملاً في فاقة * وتحرجاً عن طمع * وكسباً في حلال* ونشاطاً في هدى* ونهياً عن شهوة* ورحمة للمجهود * أن المؤمن لا يظلم من يبغض * ولا يأثم فيمن يحب * ولا يضيع ما استودع * ولا يحسد ولا يطعن* في الزلال وقوراً * وفي الرخاء شكوراً) فكأن هذه الأوصاف والأخلاق* منطبقة على خديجة تمام الانطباق
***
وفاتها
ولما تمت لها الكمالات الباهرة * وتوطنت الرتبة السامية العلية الفاخرة * وامتدت أنوارها وآياتها المتكاثرة * توفيت رضي الله عنها في اليوم الهادي عشر من رمضان * قبل هجرة سيد ولد عدنان * بثلاث سنين على الأصح من الأقاويل * وقيل بأربع وقيل بسبع على ما قيل * ولم يصل عليها عليه الصلاة والسلام * لأنها لم تشرع الصلاة على الميت في ذلك العام * ونزل النبي صلى الله عليه وسلم في قبرها * وسوى عليها التراب وأحسن نزلها * وهي فضيلة لها دون غيرها من أمهات المؤمنين* رضي الله تعالى عنهن أجمعين إلى يوم الدين * وكان لها من العمر خمس وستون * ودفنت بمقبرة المعلى المعروفة بالحجون.
للشيخ محمد بن علوي المالكي - رحمه الله تعالى
الحمد لله الذي شرف هذا الوجود ببعثه أكرم نبي وأعز مولود *سيدنا ومولانا محمد النبي المقدس المحمود* ذي الشفاعة العظمى والحوض المورود*عنصر الفضائل المشهود* وكريم الامهات والآباء والجدود* نخبة العالم* وسيد ولد آدم* من انتقل في الغرر الكريمة نوره* وأضاء الكون ميلاده وبعثته وظهوره * وطلعت شمس الهداية والعرفان* بانفلاق صبحه على كل الاكوان والصلاة والسلام على سيد السادات* كامل الشمائل والصفات* ذي النور العميم* والقدر العظيم* والصراط المستقيم* والدين القويم* والحسبب الصميم* والمجد الفخيم* وعلى لآله وصحابته* وأزواجه وذريته* وتابعيه من اهل ملته* وخديجة التي تشرفت بعشرته وصحبته* وفازت بخدمته* وشهدت يوم بعثته* وقامت بتأيده في دعوته* ومؤازرته ونصرته
أما بعد* فهذه نفحات نبوية* وفيوضات ربانية* جرى بها القلم في مناقب أم المؤمنين* وفضائل زوجة سيد المرسلين* وشمائلها التي هي أحسن الشمائل* المقتبسة من أخلاق ذلك الانسان الكامل* سيد الأواخر والأوائل* جمعتها لكي تتعطربها المجالس والنوادي* في الحواضر والبوادي* أنتخبتها من عيون الأخبار* ومجاميع الآثار* المودعة في السير والأسفار* وضمنتها من ذلك كل ماهو مقبول* عند الائمة والحفاظ والفحول* من كلقول محمود* ليس بموضوع ولامردود* وهذا أوان الشروع في المقصود* بعون الملك المعبود*
فأقول: هي سيدتنا خديجة بنت خويلد بن أسد بن عبدالعزى بن قصي الأسدية * تجتمع مع النبي صلى الله عليه وسلم في جده قصي الذي جمع القبائل القرشية *
وأمها فاطمة بنت زائدة بن الاصم من بني عامر بن لؤي بن غالب* فأكر بهذا النسب الطاهر الذي هو نسب أشرف الحبائب* وقد حفظها الله تعالى من أرجاس الجاهلية* فأحاط عرض هذه السيدة الزكية * وصانة من كل أذية وبلية * برعايته وعنايته الباهرة * ولذلك كانت تلقب بالسيدة الطاهرة* فما أجل هذه المنحة الفاخرة * واشتهر تلقيبها بالكبرى * لعظم شانها في المعاهد الاخرى* وهي بذلك أحق وأحرى*
وقد ولدت رضي الله عنها قبل ولادته صلى الله عيه وسلم بنحو خمس عشرة سنة* فنشأت في بيت طاهر طيب الأعراق* على أكمل السير المحمودة وأحسن الأخلاق* فكانت رضي الله عنها متكاملة حسناً وعقلاً* وجمالاً وفضلاً* ازمة رشيدة في جميع أمورها* حسنة التدبير والتصرف في جميع شؤونها* ذات فراسة قوية* وهمة علية* لها نظر ثاقب* ومعرفة دقيقة في العواقب* أغناها الله تعالى بسعة النعم* وكثرة الخدم والحشم* ومن عليها ذو الجلال* بكثرة الأمول* فكانت تستأجر الرجال* ليتاجروا في ذلك بالحلال* فتضاربهم عليه بشيء معلوم* ويستفيد بذلك الجميع على العموم* وظهرت أسرار تلك الأخلاق المرضية * والأوصاف الحسنة الزكية *
فيما بلغته بين قومها في الاهلية * من مكانة علية * ورتبة سنية * وشهرة قوية * فهي الدرة الثمينة * الطاهرة الرزينة * دوحة المجد الطيبة الفروع * وشجرة الفرد اليانعة الافراد والمجموع
اللهم انشر نفحات الرضوان عليها وأمدنا من الاسرار التي أودعتها لديها اللهم صل وسلم على زوجها الامين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين
وقد أراد الله تعالى لهذه السيدة الطاهرة* أن تجمع بين شرف الدنيا وعز الاخرة* فوصلت اليها أخبار سيد المرسلين* وأخذت تتعرف علها بتدبر وتفكر ويقين* فرأت انه المجمع على فضله المبين* وانه المشهود له بانه التقي النقي الامين* وانه الصادق المصدق* والكريم الذي لايلحق ولايسبق
فعلمت أن معاملة مثل هذا ناجحة* ومتاجرته ان شاء الله رابحة* فما كان منها إلا ان بعثت اليه* وعرضت مشروعها التجاري عليه* وهو أن يتجر لها في مالها* وتعطيه أفضل ما تعطيه لعمالها
فقبل ذلك عليه الصلاة والسلام* وخرج بتجارتها من البلد الحرام* قاصداً بلاد الشام* وهذه هي الرحلة الثانية ولم يثبت انه صلى الله عليه وسلم سافر الى الشام إلا في هاتين المرتين* في عامين مختلفين* كما ذكره بعض الحفاظ المرجوع أليهم* المعول على قولهم*
وأرسلت معه ميسرة الغلام* وأوصته عليه وامرته ان يكون قائماً بخدمته حق القيام* فألقى الله محبة النبي في قلبه* حتى أخذت بعقله ولبه* وخدمه فأخلص خدمته* وصحبه فأحسن صحبته
ورأى بعينيه شيئاً من أسراره* وسمع بأذنه ماسمع من أخباره* ومن ذلك ماحدث به الراهب نسطوراً* وهو حق ليس بخرافة ولا أسطورة* إذ قال ذلك الراهب* وقد رأى أشرف الحبائب* نزل تحت شجرة هناك* من هذا الذي يفوق بدر الافلاك* فقال ميسرة: هذا رجل من الكرام* من أهل البلد الحرام* فقال له الراهب وهو واثق مما يقول* مانزل تحت هذه الشجرة إلا نبي أو رسول* ثم قال لميسرة: أفي عينيه حمرة لاتفارقه؟* قال: نعم. قال: هذا آخر نبي فهنيئاً لمن يصدقه* ثم في تلك الاثناء* وقع بين سيد الانبياء* ورجل كان في تلك الانحاء* خلاف في ثمن بعض المشتريات* فقال له الرجل أحلف بالعزى واللات* كما يجري بينهم في مثل تلك الحالات* فقال سيد السادات* والله ماحلفت بهما* وأني لأمر فأعرض عنهما* فقال الرجل: القول قولك* والرأي عندك* ثم قال لميسرة: هذا والله نبي تشرفنا به في سوقنا* وانه لتجده أحبارناً معنوناً في كتبناً*ومن ذلك انه كان يرى في كل تلك المدة القصيرة* سحابة تظلله دون الجميع في وقت الظهيرة* وقيل فيما روي انه كان يرى ملكين* يظللان سيد الكونين
ولما أتم صلى الله عليه وسلم مهمته* وباع سلعته* رجع الى مكة وقد اكتسب خيرات كثيرة* وجاء بأرباح وفيرة* فسرت بذلك السيدة خديجة أيما سرور* وحمدت فعله المشكور* ونظرت أليه بعين الاكبار والاحترام* وأكرمته غاية الاكرام*وتأثرت بشخصيته كل التأثير* فأكنت له في نفسها عظيم التقدير* وزاد ذلك عندها بعد ما حدثها ميسرة بما شاهده من الآيات* وعجائب الاحوال وخوارق العادات* التي هي للنبوة دلائل واضحات*حدثها عن السحابة التي صحبته في سفره فكانت نعم الصاحب * وعن كلام ذلك الراهب * وعن طاعة الابل وطي الارض له* والتوفيق الذي لازمه في سفره كل الملازمة * وتلك الرمال والحجارة التي لانت تحت مواطىء قدمية* وكل ذلك وعاه بقلبه وعينيه* وحدثها بما رآه من حسن سيرته* في خلقه ومعاملته * مع ماسبق له معرفته من عنه من صدق حديثه * وعظيم أمانته * وكريم أخلاقه وديانته * فأصبحت هذه الصفات و الاخلاق العلية * مثبتة متيقنة لديها جلية * فأحست بعارض غريب * عن صورة وحقيقة ذلك الحبيب * وتحيرت من امر نفسها * وأصبحت قلقة بين قلبها وعواطفها * فقد رفضت بالامس القريب الكثيرمن الرجال * من ذوي الوجاهة والمال * وردتهم خائبين متحسرين * لرفضها طلبهم المتين
ولما أراد الله تعالى لها السعادة الابدية * والشرف والفضل على نساء البرية * ترجح عندها ان لا تفوت هذه الفرصة الذهبية
واستبانت خديجة انه الكنز= الذي حاولته والكيمياء
فاختارت لنفسها الزكي الامين* سيد ولد آدم اجمعين* ومن لاحت في وجهه علامات النبل والجمال* وتكاملتت فيه خصال الكمال والجلال* وبدت عليه امارات السيادة* وظهرت منه اشارات النجابة والقيادة 0 فما كان منها إلا ان ارسلت اليه* وعرضت نفسها عليه * فخطبت الرسول الاعظم* والنبي الاكرم* صلى الله عليه وسلم* وقالت له: يابن عم* اني قد رغبت فيك لقرابتك وشرفك* وسامي منزلتك وقدرك * وفي رواية انها ارسلت له نفيسة بنت امية دسيساً إليه فقالت له: مايمنعك ان تتزوج؟ فقال: مافي يدي شيء* فقالت له: فإن كفيت ودعيت الى المال والجمال والكفاءة؟ قال: من؟ قال خديجه
وقد ألهم الله نبيه صلى الله عليه وسلم الموافقة* فكانت خطوة مباركة موفقة* فتشاور أعمامه الكرام وأيدوه على ذلك الكلام* فتقدم حمزة فكلم عمها وقيل اباها والصحيحان اباها خويلد قد مات قبل حرب الفجار* ثم حضر رؤساء قريش يتقدمهم أبوطالب* فكان هو لسان حالهم المتكلم الخاطب* فقالزوجات الرسول الله عليه وسلم وحياتهمالحمد لله الذي جعلنا من ذرية إبراهيم وزرع إسماعيل وضئضىء معد وعنصر مضر وجعلنا حضنة بيته وسواس حرمه* وجعل لنا بيتاً محجوباً وحرماً آمناً* وجعلناالحكام علىالناس* ثم ان ابن اخي هذا محمد بن عبدالله لايوزن به رجل إلا رجح به* فإن كان في المال قل* فإن المال ظل زائل* وأمر حائل* ومحمد من قد عرفتم قرابته* وقد خطب خديجة بنت خويلد* وبذل لها من الصداق ماآجله وعاجله من مالي كذا وهو والله بعد هذا له نبأ عظيم وخطب جليل)
ثم قام ورقة بن نوفل فقالزوجات الرسول الله عليه وسلم وحياتهمالحمد لله الذي جعلنا كما ذكرت وفضلنا على ماعددت فنحن سادة العرب وقادتها وأنتم أهل ذلك كله لاتنكر العشيرة فضلكم ولايرد أحد من الناس فخركم وشرفكم وقد رغبنا في الاتصال بحبلكم فاشهدوا علي يامعشر قريش بأني قد زوجت خديجة بنت خويلد من محمد بن عبدالله على اربعمائة دينار) ثم سكت فقال ابوطالب: قد أحبببت ان يشركك عمها فقال عمها: أشهدوا يامعشر قريش أني قد أنكحت محمد بن عبدالله خديجة بنت خويلد
وقد جاء في سيرة ابن هشام* انه عليه أفضل الصلاة والسلام* أصدقها عشرين بكرة سنية* وقيل أثنا عشر أوقية من الذهب ونصف أوقية* وكل هذا لايعارض ما جاء في خطبة ورقة بن نوفل السابقة من ان الصداق اربعمائة درهم إذ يمكن الجمع بينهما بتقويم الثمن بذلك او ان احد الاشياء مهر والآخر هدية من عمه ابي طالب للسيدة خديجة اوانه صلى الله عليه وسلم زاد ذلك في صداقها على صداق عمه فكان الكل صداقاً
وتزوج نبينا الامين* سيدتنا أم المؤمنين* وقد اتم خمساً وعشرين* وأتمت هي الاربعين
قال صاحب فرة الابصار:
وإذ الى مكة عاد وافتتح = ستاً وعشرين من العمر نكح
خديجة من بعد اربعينا = مضت لها من عمرها سنينا
وقد نحر صلى الله عليه وسلم جزورا او جزورين* وقرت بذلك من المحبين العين* وانشرحت منهم الصدور* وعم الفرح والسرور* وطلع سعد السعود* وانكمد الفؤاد المفؤد* وغدا الحسود لايسود وهو مهموم* وقال ابوطالب: الحمد لله الذي أذهب عنا الكرب والغموم* وقال في ذلك الراجز في قوله المنظوم:
لاتزهدي خديج في محمد = نجم يضيء كاضاء الفرقد
ولما تزوجت خديجة سيد ولد عدنان* كان قد تزوجها قبله رجلان* وهما هند ابوهالة بن زرارة من بني عدي* وعتيق بن عائد بن مخزوم القرشي* وقد اختلفوا في تعين الثاني من الاول* وليس في ذلك نص صريح عليه يعول* وقد كان عندها من الذرية* من غير خير البرية * عبدمناف وهند وهما من زوجها عتيق* وقيل أن هنداً هذه أسلمت وفازت بالصحبةوالتصديق* وولدت لأبي هالة ولداُ* سموه هنداُ* وهو صحابي جليل ممن شهد بدراً وأحداً* وقد روى حديثاً مشهوراً في صفة النبي صلى الله عليه وسلم* وقتل يوم الجمل مع سيدنا علي ذي الوجه المكرم* وذكر بعضهم انه ما بالبصرة في الطاعون* وكان قد مات في ذلك اليوم سبعون ألفا كلهم من المسلمون* فشغل الناس بجنائزهم وتركت جنازته* ولم وجد من يحمله فصاحت نادبته:
وا هند بن هنداه= واربيب رسول الله
فلم تبق جنازة إلا وتركت* وأما جنازته فحملت* وازدحم عليها الناس فامتلأت بهم المواضع* وماحملت إلا على أطراف الاصابع* وقال بعضهم ان الذي مات في الطاعون ابن هذا المذكور* ويسى هنداً أيضاً والخلاف في ذلك مشهور* وكان فصيحاً بليغاً وصافاً محسناً* وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان مجيداً منتقناً* وكان يقول: أنا اكرم الناس اباً واماً* وأخاً وأختاً* ابي رسول الله* وامي خديجة التي عنها رضي الله* وأخي القاسم عليه السلام* وأختي فاطمة عليها الرحمة والاكرام* ولخديجة من ابي هالة ابنان غير هذا المذكور* أحدهما الطاهر والآخرهالة والاول غير مشهور
وقد كان لها رضي الله عنها مواقف مع زوجها مشكورة* فلا تذكر قصة الوحي والبعثة إلا وهي معها مذكورة* وسنذكر مسألة الوحي من أولها* لنعرف مقدار هذه السيدة وفضلها*
فاعلم أن أول مابدىء به رسول الله من النبوة التي تفضل بها عليه مولاه* أنه كان لايمر بشجر ولاحجر إلا قال: السلام عليك يارسول الله* وغير ذلك من الارهاصات التي أشهرها الرؤيا الصادقة* فكان صلى اللهعليه وسلم لايرى رؤيا في نومه إلا وكانت لامحالة واقعة* وحبب الله إليه الخلوة* فلم يكن شيء أحب إليه من أن يخلو وحده* فكان يجاور من كل سنة شهراً في حراء* مشتغلا بالعبادة والتفكر في ملكوت الارض والسماء* وكان إذا خرج الى حراء تتكفل خديجة يكل حاجاته* وتحقق له كافة رغباته* وتهيء له الطعام والشراب وتيسر له ماتسطيع من الاسباب* فيقطع لمقصود* ويقبل على معبوده* وهو مرتاح البال* من كل المتعلقات والاشغال* فإذا طالت غيبته عليها* تركت كل ما لديها* وخرجتت تتلمسهفي مكانه الذي تعود الذهاب إليه* وقلبها يخفق من شدة خوفها عليه* حتى إذا رأته مستغرقا في وحدته* منجمعا على فكرته* رجعت ولم تكلمه لئلا تقطعه عن خلوته* وتبقى منتظرة موعد عودته* لتعمل جاهدة على إزالة وحشته* وإدخال السرور الى قلبه* والسعادة الى نفسه
ولقد كانت خديجة صادقة الفراسة* صائبة النظرة* صافية الفكرة* وكانت على ثقة من أن رجلا كزوجها محمد الامين* يحمل هذه الروح العالية* والنفس السامية* والفضائل التي عرفتها قريش بأسرها* يضلف الى مانقله إليها عبدها* مما سبق ذكره وتقدم نشره* كانت على ثقة من أنه سيكون له شأن عظيم* يتحدث عنه المسافر والمقيم* وسيحث في التاريخ أمراً* تهتز له الدنيا عجبا وتيها وفخرا* فما أجل عينها الصادقة الحنونة* التي ترعاه في حب وتباشر شؤنه* وما أعظم قلبها العطوف الذي يزوده بالرعاية* ويخفق له فرحاً منتظراً يومه الذي تنصب له فيه الراية* وينشر له مرسوم دائرة الولاية
ومرت الايام* على هذا النظام* فما اكل الاربعين على التمام* حتة\ى جاء اليوم الذي هيأته القدرة الربانية* لأبلاغة الرسالة السماوية* وهو في وحدته التعبدية* بعد أن مهدت من قبل الاسباب* وتفتحت لذلك الابواب* فأتاه في ذلك المقام* في اليقظة لا في المنام* رسول الملك العلام* وقال له إقراء فقال ما انا بقارىء ولست من جملة القراء* فأخده فغطه وما تركه حتى بلغ غاية الجهد والاعياء* ثم أمره بالقراءة مرة ثانية فامنتع* فأخذه وغطه ألا بعد ما كاد يقع* وفب الثالثة قال له (أقرأ باسم ربك الذي خلق خلق الانسان من علق أقرأ وربك الاكرم الذي علم بالقلم علم الانسان ما لم يعلم) فما أعظمها من بشارة أوصلتها يد الاحسان* من حضرة الامتنان* الى هذا الانسان* وأيدها ببشارة (الرحمن علم القرآن خلق الانسان علمه البيان) ولا شك أنه صلى الله عليه وسلم هو المقصود بهذا التعليم* من حضرة الرحمن الرحيم* فرجع رسول الله صلى الله عليه وسلم الى زوجته* بعد أن شهد مشهد كرامته* وفؤاده يرجف من هول ما رآه* وشدة ماسمعه وقراه* ولقد كاد ينخلع لولا تثبيت مولاه* وقال زملوني زملوني فزملته* فلما ذهب عنه الروع وحدثها قال لها: لقد خشيت على نفسي* فداه أبي وأمي ونفسي* فقالت كلا والله لايخزيك الله أبدا* وان الله سيكتب لك عزا ومجدا وسؤددا* فرحمك موصولة* ويدك لضيفك مبذولة* تحمل الكل وتكسب المعدوم* وتقرى الضيف وتعين على نوائب الحق كل مكلوم* واثبت يابن عم فلك البشرى* فوالله لقد كنت أعلم أن الله لايفعل بك إلا خيرا* وأني أشهد انك نبي هذه الامة امنتظر* وهذا زمانك ان شاء الله قد حضر* وقد اخبرني اصح غلامي وبحيرى الراهب بخبرك المبين* وامرني ان أتزوجك قبل عشرين من السنين
ثم انطلقت به الى ورقة بن نوفل وأخبرته بالتفصيل* فقال لسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم حدثني بفك أيها السيد النبيل* فأخذ يحدثه بما رآه وسمعه من سيدنا جبريل* فقال ورقة هذا والله الناموس الجليل* الذي كان ينزل على موسى رسول بني اسرائيل* ياليتني أكون حاضرا* ومؤيدا لدعوتك وناصرا* وفي رواية ان السيدة خديجة قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم في أول أمره* إذا جاء صاحبك بالوحي فأخبرني بخبره* فلما جاءه أخبرها فقالت: أجلس على شقي الايمن فجلس فقالت: نعم قالت: فتحول فجلس على حجري فتحول فجلس في حجرها قالت: هل تراه الان قال: نعم فرفعت خمارها عن رأسها وقالت: هل تراه الان قال: لا قالت: ماهذا بشيطان* هذا ملك من ملائكة الرحمن
وأتاه في بيتها جبريل = ولذي اللب في الامور ارتياء
فأماطت عنها الخمار لتدري = أهو الوحي أم هو الاغماء
فاختفى عندكشفها الرأس جبر = يل فما عاد أو أعيد الغطاء
وكانت تفعل ذلك أحتياطا لدينها وزيادة في يقينها* أما النبي صلى الله عليه وسلم فقد كان واثقا بذلك الخطاب* دون شك أو تردد أو ارتياب
وفي تلك اللحظة الكريمة* سعدت الدنيا بالرسالة العظيمة* ومن ذلك الجبل المشهود* في ذلك اليوم الموعود* طلعت شمس الوجود* فأفاضت نورا جديدا* واستقبل العالم صباحا سعيدا* لقد كان هذا العالم يستقبل كل يوم صباحا* ولكنه لايرى فيه للامة خيرا ولا فلاحا* وما اكثرالنهار المظلم* والصبح الكاذب المعتم* لكن في هذا المكان المتواضع* وعلى ذلك الجبل الراسخ* الذي ليس بمخصب ولاشامخ* تم مالم يتم في عواصم العالم الكبيرة بمديناته وحضاراته الشهيرة* ومدارسه الفخمة* ومكتباته الضخمة* إذ من الله على هذه الامة* برسالة محمد الذي كشفعنها الغمة* وجلى الظلمة* فطلع الصبح المشرق الصادق* واستيقظ فيه الكون بعد ان كان في غفلته غارق* وتعرف على المفتاح النبوي* الذي يفتح كل علق ملتوي* فظهرت له شناعة الشرك والوثنية* والخرافات والاوهام الجاهلية* فتهذبت تلك القوى الجامحة كل التهذيب* وانصقلت تلك المواهب الضائعة بهدى الحبيب* وتقلبت بين مقامي الترغيب والترهيب* فتدفت كالسيل واشتعلت كاللهيب* حتى كان راعي الابل راعي الامم* وخليفة يحكم العالم وإليه يحتكم* وأصبح فارس الفبيلة والبلد* فاتح الدول ذات المجد والعدد* فكثر العدل وانتشر النور* وقل الجدل وفقد شهادة الزور* وتبدلت الاحوال* الى أحسن حال* فالتاجر أمين صدوق* والغني سخي مرزوق* والفقير شريف كادح* والعامل مجتهد ناصح* والرئيس متواضع رحيم* والخازن حفيظ عليم والقاضي عادل فهيم* فظهر في ذلك المجتمع صدق التاجر وأمانته* وتعفف الفقير وكدحه* واجتهاد العامل ونصحه* وسخاوة الغني ومواساته* وعدل القاضي وحكمته* وإخلاص الوالي وشفقته* وتواضع الرئيس ورحمته*وقوة الخادم وحراسته* فكانت تلك البعثة للعالم ريبعا* وللانسانية خصبا وريعا
وقد اختص الله هذه الجوهرة المصونة* والدرة المكنونة* بمزايا عديدة *وخصال حميدة
فمنها أنها هي التي طلبته* والى الزواج بها دعته* وأنها أول مرأءة يتزوجها* ووليمتها اول وليمة يصنعها* وعاشت معه بقية عمرها* ولم يتزوج بغيرها* حتى ماتت بعد أن رأى خالص برها* ودفنها بمكة ونزل هو بنفسه في قبرها* وقد عاشرته أربعا وعشرين سنة أحسن عشرة* ورافقته أفضل رفقه* وآلفته أعظم ألفه* وصادقته او فى محبة* وكانت لا ترى منه ميل الى شيء إلا بادرت به إليه* وقدمته هدية بين يديه* وقد رأت منه قبل البعثة النبوية* رغبة في موالاها زيد بن حارثة قوية* فما كان منها إلا ان وهبته له بنفس راضية سخية* فكان الى حضرته من المنسوبين وكتب في ديوان المسعودين* وفاز بالاولوية مع السابقين* وتشرف بمحبوبية سيد المرسلين
ومن خصائصها التي نالت بها أعلى مراتب الشرف والكمال* أنها أول من آمن به من النساء والرجال* فصدقته وآزرته* وأعانته وثبتته* وخفف الله بسسب إيمانها عن نبيه صلى الله عليه وسلم كل هم* وفرج عنه ما أصابه في الدعوة من تعب ونكد وغم* فكان لا يسمع شيئا من زمرة الالحاد* من تكذيب وجحود وعناد* ويرجع الى خديجة إلا ويجد عندها كل هدى وسداد* فتهون عليه الرزايا وتواسيه* وتبعث الطمأنينة الة نفسه وتسليه* وتمنحه العطف وتبشره* بما سوف تراه فيه* وتشجعه وتؤيده بكل خير تمنيه
وقد ثبت انها رضي الله عنها صلت معه عليه الصلاة والسلام* وتشرفت يبمنقبة الوضوء واستقبال البيت الحرام* وكان جبريل قد علم النبي صلى الله عليه وسلم تلك الصلاة * قبل ان تفرلاض الخمس الصلوات ليلة المناجاة* وكان يصلي صلاتين مرة في العشية ومرة في الغداة
وقد روي عن يحيى بن عفيف انه قال: جئت زمن الجاهلية الى مكة فقدمت مني ايام الحج ونزلت على العباس بن عبدالمطلب فلما طلعت الشمس خرج رجل من خباء قريب منا* فستقبل الكعبة وقام يصلي* فلم يلبث حتى جاء غلام فقام عن يمينه* فلم يلبث حتى جاءت فقامت خلفهما* فركع الرجل* فركع الغلام والمرأة* فرفع فرفعا فسجد فسجدا غفلت: أمر عظيم* فقال: أمر عظيم* أتدري من هذا؟ قلت لا* فقال: هذا محمد بن عبدالله ابن اخي* أتدري من الغلام؟ قلت: لا قال: هذا علي بن ابي طالب* أتدري من المرأة؟ قلت:لا فقال: هذه خديجة بنت خويلد زوجة بن أخي وهذا حدثني ان ربك رب السماء والارض أمرهم بهذا الذي تراهم عليه وأيم الله ما أعلم على ظهر الارض كلها أحدا على هذا الدين غير هؤلاء الثلاثة* قال عفيف الراوي: فليتني كنت آمنت يومئذ فكنت أكون ثانيا
ومن خصائصها عليها الرحمة والاكرام* أنها أفضل نساء المصطفى بالتماتم* كما جاء في الحديث عن سيد الانام* انه قال(سيدة نساء العالمين مريم ثم فاطمة ثم خديجة ثم آسية امرأة فرعون) وفي رواية عن انس مرفوعة (حسبك من نساء العالمين مريم بنت عمران وخديجة بنت خويلد وفاطمة بنت محمد وآسية) وهو حديث ثابت بلا مراء* وقد حكم بصحته أجلة العلماء وفي رواية صحيحة ثابتة لا يشك فيها اتنان* انه صلى الله عليه وسلم قال(خير نسائها مريم وخير نسائها خديجة) وقد روى هذا الشيخان
والاحاديث في هذا الباب كثيرة* وهي معروفة في أصول كتب أهل السنة الشهيرة* وكلها متفقة في مجوعها بيقين* على ان مريم وخديجة وفاطمة وخديجة وآسية هن أفضل نساء العالمين* رضي الله تعالى عنهن أجمعين* والخلاف بين العلماء في تعين أولاهن* والموازنة في الافضلية بينهن* وقد اجتهد بعضهم في تعيين واحدة* وتكلف التأويل والجمع ولا أرى في ذلك فائدة
ومن خصائصها الشريفة*ومناقبها المنيفة
*
الاول القاسم وهو أكبر الاولاد* وبه كان صلى الله عليه وسلم يتكنى بين العباد* وهو أول من مات من ولده* ودفن في بعض الاقوال بمكة بلده*
والثاني عبدالله ويقال له الطاهر والطيب لأنه ولد في الاسلام* ومات صغيرا بالبلد الحرام
الثالثة زينب وهي أكبر بناته وقد ولدت قبل بعثته* وتزوجها أبوالعاص بن الربيع وكان أسلامها وهجرتها قبل أسلامه وهجرته* وتوفيت في اول عام ثمانية من هجرة المصطفى* ودفنت في جنة البقيع وقبرها هناك لايخفى
والرابعة رقية والخامسة ام كلثوم* وقد كانتا تحت ولدي ابي لهب الشقي المحروم* فلما نزلت تبت يدا أبي لهب* غضب ابوهما أشد الغضب* وقال لولديه: رأسي من رأسكما حرام* أن لم تفارقا ابنتي محمد صاحب ذلك الكلام*يقصد بذلك إيذاءه عليه الصلاة والسلام* ففارقهما قبل الدخول عليهما* ولم يصلا بفضل الله إليهما
وقد تزوجت رقية بسيدنا عثمان بن عفان* وهاجرت معه الى الحبشة فرارا بالايمان* ثم رجعت وهاجرت معه الى مدينة الشفيع* وماتت عند ودفنت بجنة البقيع* ثم تزوج بعدها أختها وهي ام كلثوم* وماتت عنده ايضا وقبرها في البقيع معلوم* فيكون قد تزوج من بنات النبي اثنتين* ولذلك اشتهر بين الانام بذي النورين* ولو كانت هناك ثالثة لمن بها عليها سيد الكونين
والسادسة فاطمة الغراء* المعروفة بالبتول والزهراء* أم الحسن والحسين اهل الرضا* وزوج الامام علي المرتضى* الذي أحسن عشرتها وأخلص لها حبها* ولم يتزوج عليها حتى قضت عنده نحبها* وكانت وفاتها سنة أحدى عشرة من الهجرة النبوية* بعد ان عمرت ثلاثين سنة قمرية* ودفنت بالبقيع على أصح الاقوال المروية* وقيل دفنت ببيتها الذي بجانب الحجرة النبوية* وهو في المسج الان وليس في ذلك رواية مرضية* وبهذا تعلم ان بناته دخلن في الاسلام* وهاجرن معه من المدينة الى البلد الحرام
فهؤلاء جملة اولاده منها رضي الله عنهم أجمعين* وحشرنا في زمرتهم مه رسول رب العالمين* آمين
ومن فضائلها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا ينسى أبداً ودها * ويحفظ في أهلها عهدها * فيبعث لهم بما يأتيه من الهدايا * ولا يتركهم إذا قسم بين أصحابه العطايا.
وقد يذبح الشاة بنفسه ثم يقطع أعضاءها * ويخص بها أصدقاءها وأقرباءها * فإذا غارت السيدة عائشة ولم يتحمل ذلك قلبها * قال لها صلة الله عليه وسلم * (لقد رزقت حبها فأنا أحب من يحبها) .
ومن فضائلها المروية عن أئمة المحدثين الكبار
* في كثير من كتب السنن والسير والآثار* أنه صلى الله عليه وسلم كان يكثر من ذكرها * وينشر بين الجميع طيب خبرها وحسن برها * ويثنى عليها أحسن الثناء * ويستغفر لها الله ويكثر لها من الدعاء * ويتحدث عن ما لها من الشرف والفضل والكمال * ويسترسل في ذلك الحديث دون ملل ولو طال * فإذا سمعته السيدة عائشة يتحدث عنها غارت أشد الغيرة عنها * غارت أشد الغيرة منها * وقالت: ما هي إلا حمراء الشدقين عجوز كبيرة * وقد عوضك الله خيراً منها شابة صغيرة * فكان يغضب من قولها * ويخاصمها على فعلها * ويقول ( ما أبدلني الله خيراً منها لقد آمنت بي إذ كفر الناس وصدقتني إذ كذبني الناس وآوتني إذ رفضني الناس وواستني إذ حرمني الناس ورزقني أولادها إذ حرمني أولاد النساء)
وقد جاء في بعض الآثار المروية * عن السيدة عائشة الصديقية * أنها قالت : ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً خديجة باهتمام * فاحتملني الغيرة وقلت فيها ما لاينبغي من الكلام * فتغير وجهه تغيراً ما كنت أراه إلا عند نزول الوحي عليه * وسقط في جلدي وندمت على إساءتي بذلك إليه * وقلت:: اللهم إن أذهبت غيظ رسولك الآن * لم أعد أذكرها بسوء ما بقيت مدى الأزمان * فلما رأى ذلك مني * عذرني وسامحني و عفا عني * وذكر لي طرفاً من فضائلها الغراء * وبهذا تعلم أن غيرتها لا عن بغض أو عداء * وإنما هي طبيعة معروفة في النساء * وعائشة هي التي نقلت لنا في فضل خديجة ذلك الخبر * ولولاها ما كنا وقفنا له على عين و لا أثر ومن فضائلها عليها الرحمة والإكرام
ومن خصائصها رضي الله
عنها ما رواه الشيخان * أن جبريل بشرها ببيت في الجنان * إذ قال ذلك الملك المكرم * للنبي صلى الله عليه وسلم * بشر خديجة ببيت في الجنة من قصب لا صخب فيه ولا نصب
ومن فضائلها رضي الله عنها الغراء * أنها وقفت مع النبي صلى الله عليه وسلم في السراء والضراء * ولم ترض أن تتركه لما قاطعه في الشعب الأعداء * فخرجت عن بيتها الرفيع * ومقامها المنيع * ودخلت معه الشعب فكانت من جملة المحصورين * ولم تبال بسنها الذي زاد على الستين * رغبة في متابعة سيد المرسلين * فاستبدلت حياة العز والرفاهية * بتلك الحياة الخشنة القاسية * وكم ذاقت معهم مرارة العطش والجوع * إذ كان الطعام والشراب عن الجميع ممنوع * فيحق للتاريخ أن يحنى رأسه أمام جلالها * ويتوج صحائفه بكريم فعالها
والحاصل أن فضائلها لا تعد * ومناقبها لا تحد * وما عسى أن يقال فيمن وصفها سيد ولد عدنان * وأشاد بذكرها على رؤوس الأعيان * ورفع شأنها بين النساء على كل شأن * وذكر فضلها وشرفها الثابت بالتحقيق * وشكر لها مواقفها معه في الإيمان والصديق
فما أعظم أخلاقها القويمة * وسيرتها المستقيمة * التي هي عين أوصاف المؤمن الكريم * كما أخبر عنها الرسول العظيم * عليه الصلاة والتسليم * إذ قالزوجات الرسول الله عليه وسلم وحياتهم إن المؤمن تراه * قوة تراه في دين * وحزماً في لين * وإيماناً في يقين * وحرصاً في علم * وعلماً في حلم * وشفقة في محبة * وبراً في استقامة * وقصداً في غنى* وتجملاً في فاقة * وتحرجاً عن طمع * وكسباً في حلال* ونشاطاً في هدى* ونهياً عن شهوة* ورحمة للمجهود * أن المؤمن لا يظلم من يبغض * ولا يأثم فيمن يحب * ولا يضيع ما استودع * ولا يحسد ولا يطعن* في الزلال وقوراً * وفي الرخاء شكوراً) فكأن هذه الأوصاف والأخلاق* منطبقة على خديجة تمام الانطباق
***
وفاتها
ولما تمت لها الكمالات الباهرة * وتوطنت الرتبة السامية العلية الفاخرة * وامتدت أنوارها وآياتها المتكاثرة * توفيت رضي الله عنها في اليوم الهادي عشر من رمضان * قبل هجرة سيد ولد عدنان * بثلاث سنين على الأصح من الأقاويل * وقيل بأربع وقيل بسبع على ما قيل * ولم يصل عليها عليه الصلاة والسلام * لأنها لم تشرع الصلاة على الميت في ذلك العام * ونزل النبي صلى الله عليه وسلم في قبرها * وسوى عليها التراب وأحسن نزلها * وهي فضيلة لها دون غيرها من أمهات المؤمنين* رضي الله تعالى عنهن أجمعين إلى يوم الدين * وكان لها من العمر خمس وستون * ودفنت بمقبرة المعلى المعروفة بالحجون.