رقة احساس
07-23-2014, 08:08 PM
خطبة من المسجد الحرام
][مغبة الغش - الشيخ عبد الرحمن السديس][
========================
الخطبة الأولى
إن الحمد لله ، نحمدك ربي ونشكرك ونستعينك ونستغفرك ، سبحانك لم يزل فضلك على عبادك عميمًا سكَّابا ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادةً نبلغ في مرابعها أيما طِلابا ، وأشهد أن نبينا وسيدنا محمدًا عبد الله ورسوله .. أسنى البرايا أخلاقا وأعظمها انتسابا ، صلى عليه الله ما زمَّتْ هممٌ للعلياء رِكَابا وما ألفت قلوب غشًّا وزورًا وعابا ، وعلى آله وصحبه البالغين من التقى معارج وأسبابا ، والتابعين ومن تبعهم بإحسان يرجوا جنات مفتحة أبوابا ، وسلِّم اللهم تسليماً كثيرا ما تأرج روضٌ أنساماً عذابا .
أما بعد : فيا عباد الله : خير ما يوصى به تقوى الله – عز وجل – فبالتقوى تؤخذ النفوس بعنانها وتتزكى الأرواح عن عيوبها وأدرانها : ... وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً (5 سورة الطلاق) ..
فَمَنْ تَذَرَّعَ بالتقوَى استَنَارَ بها وَبَاتَ في بهجةِ الأعْمَالِ جَذْلانَا
فَسِرْ تقُودُكَ التَّقْوَى مُحَجَّلةً شُجُونُها امتلأتْ رَوْحًا وريْحَانَا
أمة الإسلام : قصدت شريعتنا الغراء في غاياتها وبديع مآلاتها إلى إصلاح الأمم وائتلافها وتزكية النفوس على تباينها واختلافها ، وأقامت لذلك صواً ومعالما متى استمسكت بها المجتمعات انتزع أبناؤها عناصر الخلود والنماء وخصائص الإبداع في البناء فتجددت بهم الآمال وسمت بإخلاصهم الأعمال ..
وإن من أعظم ما يقوِّض تلك المعالم الحضارية خصلة موجبة للنبذ والحذر منذرة بالتباري والخطر .. من وردها أُلقِي في البيد والمجاهيل ومن شمخ عنها عبَّ سلسال المناهي ..
إنها خلة لكنها ذميمة نكراء تقوِّض الحضارات وتفني مقدرات المجتمعات ، وصاحب هاتيك العُرَّة لا يزال مذموما وبأقبح النعوت موسوما .. تلكم - عافانا الله وإياكم - هي جريرة الغش والخداع ، ويالله كم في النفوس عليها وعلى أهلها من حسرة والتياع !
أيها المؤمنون : ولفظاعة هذا الداء الدوي والخلق الدني ، ولإخلاله بنظام الأمن التجاري والأمن التعاملي وتشويهه إشراقة المجتمع المتراحم المتوادد المتحاب المتعاضد حرمت الشريعة ذلك البهتان وتوعدت فاعله بالويل والخسران ؛ وفي ذلك أنزلت سورة من القرآن .. قال العزيز الديان : وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ * الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُواْ عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ * وَإِذَا كَالُوهُمْ أَو وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ (1-3 سورة المطففين) .
ولتلك الخلة الذميمة والعُرَّة القاتمة الأثيمة أقصى المصطفى – صلى الله عليه وسلم – الغاشين عن المجتمع ، وعدَّهم مارقين عنه منبوذين عن سلكه ووحدته وآصرته ولحمته .. يقول – صلى الله عليه وسلم - : " من غشَّنا فليسَ منا " أخرجه مسلم في صحيحه ؛ أي ليس على هدينا وسيرتنا وملتنا - في قول المحققين من أهل العلم - ..
وتلك صيغة من صيغ العموم تشمل جميع أنواع الغش وصوره ؛ إذ العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب .
إخوة الإسلام : أما الغش في المعاملات فهو خديعة المشتري والتغرير به ، وله ضروب وصور شتى .. منها :
- خلط الجيد من البضاعة بالرديء الوضيع .
- وبيع الجميع على أنه من الرفيع .
- أو كتمان ما في السلع من عيب ونقصان ، وذلك عين الغش وسبيل الخذلان .
- ومنها ما يروج له من التخفيضات عبر الدعاية الكاذبة أو الإعلان ، وما حقيقة ذلك الإنتاج إلا التدليس والبهتان .. ومَا همُّهُم إلا المبيعَاتُ تَنْتهِي مبِيعَاتُ إِعلانٍ كحَدْبَاءَ تَعْـرُجُ
دَعُوا الغشَّ واسْعَوْا للحَلالِ فإنَّه هو الخيرُ ينْمِي والحرَامُ مُدَحْرَجُ
ومن الناس من يسوق سلعته بكاذب الأيمان ، وما درى أن ذلك يسلب البركة ويخدش الإيمان .. في الحديث عن سيد ولد عدنان – عليه الصلاة والسلام – أنه قال : " الْحَلِفُ مَنفَقَةٌ للسلعة ممحَقَةٌ لِلْبَركَة " متفق عليه .
فامتطاء صهوة الغش يمحق الأغراض الشريفة ويفسد المقاصد المباركة الْمُنِيفَة ، كما يلوث كرامة الغاش بين الناس ؛ إذ لا كرامة لمن تدنس بجريرة التغرير وأوبقها وفي غوائل الغبن أركسها وأوثقها .. يقول – صلى الله عليه وسلم - : " فإنْ صَدَقَا وبيَّنَا (أي العيوب) بُورِكَ لهما في بيعِهِمَا ، وإنْ كَتَمَا وكَذبَا مُحِقَتْ بَرَكَةُ بيعِهِمَا " .
ويالها من بشرى سنية ومعية رضية للتاجر الصدوق الأمين في قوله – صلى الله عليه وسلم – : " التَّاجِرُ الصَّدُوقُ الأمِينُ مع النَّبِيِّين والشُّهداءِ والصِّدِيقِين " أخرجه الترمذي بإسناد حسن ..
قيل لعبد الرحمن بن عوف – رضي الله عنه - : بما أيسرت ؟ قال : " ما رددتُ ربحاً قط ، وما كتمتُ عيباً قط " ، ولله دره ! فتلك هي حقيقة الغنى .. غنى الروح والطباع لا غنى الجشع المطماع .
وذُو الغشِّ مرهُوبٌ وذُو النُّصْحِ آمِنٌ *** وذُو الطَّيْشِ مدْحُوضٌ وذُو الحقِّ يفلج
وذو الصِّدقِ لا يرْتابُ والعدلُ قائِمٌ *** على طُرُقَاتِ الحقِّ والغبْنُ أَعْوَجُ
إخوة الإيمان : ومن غرائب الزمان أن فئاما من الناس – هداهم الله - يظنون الغش كياسة وذكاءً ومسلكاً مباحاً لاكتساب الرزق ودهاء ، وهذا الضرب من المعاملة توحي به قلوب أصلب من صم الصفاء قد تنصَّلت من الرأفة والصفاء ؛ فالغاش - عياذا بالله - قد عشي عن مكسبه .. أهو مالكه أم هالكه أم تاركه ؟
فياأخدان الغش والخديعة أتتشبعون بسحت قضمته أسنانكم وكسب غشته أيمانكم ؟!
رباه .. رباه .. ما أحط الإنسان الذي دمر بالغش أمته وقيمه وطمس بالممازقة مشاعره وشيمه ! أما استقى من رحيق التوحيد ؟ أما يخشى الآخرة وما فيها من وعيد ؟ أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُم مَّبْعُوثُونَ * لِيَوْمٍ عَظِيمٍ * يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (4-6 سورة المطففين) ..
أما للغششة مدكر ومعتبر في حادثة أمير المؤمنين عمر – رضي الله عنه – مع المرأة التي غشت اللبن بالماء ، فصدتها ابنتها قائلة : إن أمير المؤمنين نهى عن الغش ، فقالت الأم : وأين عمر حتى يرانا ؟ فاصطرخت البنت المباركة : " إن لم يكن عمر يرانا فإن رب عمر يرانا " ..
الله أكبر . الله أكبر ، ولقد كان من آثار هذه التربية الموفقة أن أنجبت تلك الفتاة خامس الخلفاء الراشدين عمر بن عبد العزيز – رحمه الله - .
أيَابَائِعاً بالغشِّ أَنتَ مُعَرَّضٌ *** لدَعوَةِ مَظْلُومٍ إلى سَامِعِ الشَّكْوَى
فَكُلْ مِنْ حلالٍ وارْتدِعْ عن مُحرَّمٍ *** فَلسْتُ على نارِ الجحِيمِ غداً تَقْوَى
أمة الصدق والشفافية : وليس الغش قصراً على البيع والشراء ، بل حذر الإسلام من الغش في العقيدة وفي العبادة .. وذلك بالجفاء عنهما أو التنطع فيهما والزيادة أو إحداث عبادات في أشهر ومناسبات لم يكن عليها سلف الأمة وأئمتها ، كما يشمل شتى جوانب الحياة وطرائقها وجلائل المسئوليات ودقائقها ..
ومن أعظمها الغش ممن ولي أمراً من أمور المسلمين وأماناتهم ؛ ففي الوعيد الشديد يقول – صلى الله عليه وسلم - : " مَا مِنْ عَبْدٍ يَسْترعِيْهِ الله رعيةً يَمُوتُ يومَ يموتُ وهَوَ غاشٌّ لرعيته إلا حرَّمَ الله عليه الجنة " متفق عليه .
ياله من وعيد يدك صدى السعيد ، وهو عام يشمل الراعي مع رعيته ورب البيت مع أسرته والمسئول في وظيفته تحذيراً من كل غش وتقصير منتاب وحثاً لهم على الطموح الوثاب ..
وكذا غش الأمة في دينها ومصادر تلقيه في وقت كثر فيه المتعالمون والممتطون لصهوة القول على الله بغير علم والمتقحمون لمقامات الفتيا وهم ليسوا منها في قليل ولا كثير .. غافلين عن آثار آرائهم في المجتمع ومآلاتها في الأمة في حَلِّ سِحرٍ ومظاعن وغناء واختلاط وسواها .. متناسين أثر عبد الله بن مسعود – رضي الله عنه - : " ما أنت بمحدِّثٍ قوما بحديثٍ لم تبلغْهُ عقولُهُم إلا كان لبعضِهِم فِتنَة " ..
ولعل من الحزم الحجر على أمثال هؤلاء ؛ فالحجر لاستصلاح الأديان أولى من الحجر لاستصلاح الأبدان .
وكذا غش الأمة في فكرها الصافي بأفكار ملوثة تثير الفتن والبلبلة وتتقفر الفتاوى الشاذة والأقوال الغريبة الفاذة خروجا عن جماعة الأمة وجمهور أهل العلم ونيلا من علماء الأمة الربانيين وأئمتها الراسخين في عالم يموج بفوضى الفتاوى وعبث التعالم ..
وهكذا غش الأمة في قضاياها الكبرى ومقدساتها بالتجافي عنها والاستخفاف بشأنها وإسلامها للاحتلال والحسار والذل والدمار، وما تفرزه وسائل الإعلام وأعمدة الصحافة وقنوات الفضاء وشبكات المعلومات من مواد فكرية مغشوشة تلبس الحق الباطل وتدنس الفضائل بالرذائل ؛ لاسيما غش المرأة المسلمة وخداعها بالتبرج والسفور والاختلاط المحرم ..
ومنها الغش في المفاهيم والتلاعب بالمصطلحات على ما نحو ما يحاك ضد الدعوة السلفية في هذه الأيام ، وما هي إلا لزوم منهج سلف الأمة من الصحابة الكرام والأئمة الأعلام وليست فرقة حزبية أو دعوة عصبية أو الوقوع في فخ ما يسمى بـ (الوهابية) ، وما هي إلا دعوة تجديدية إصلاحية ، وليست مذهباً خامسا كما يُزعَم ، بل ليس فيها – بحمد الله – ما يخالف الكتاب والسنة .
ومن صوره ما يتعلق بغش الأوطان في بث الفوضى فيها وزعزعة الأمن والاستقرار ، وتعريضها لأعمال العنف والإرهاب ، وتهريب وترويج المخدرات واستمراء المحرمات والمنكرات .
أمة الإسلام : ما مرد كثير من عللنا إلا إلى الغش عقيدة وفكرا ومعاملة ؛ كالغش في المبيعات وناره والتدليس في الصناعات وأخطاره والتزييف في المعاملات وسعاره أو الزيف في العلاقات وأضراره ..
وتلك الحال التي أمت وعمت واستشرت وطمت أغرت ضعاف النفوس بأداء المسئوليات ناقصة مشوهة مدخولة مموهة ؛ مما أغرق كثيرا من المجتمعات في تلك الآسنات ..
فكم يرمد أهل الغيرة أن يروا الغش في المصنوع والمطبوع والمزروع والمذروع الغش في المخزون والموزن في الكساء والغذاء .. في التطبب والدواء .. في البناء والعمار وما يفضي إلى الدمار .. قد دخلوا في الوداد والوفاء والحب والإخاء ، تزوير في الشهادات الوظيفية والمهنية جرَّع البرءاء السقم والعناء وكبَّد الأوطان الويلات والأرزاء .
ألا ويح الأمم التي فتكت بالصدق والنزاهة والشفافية واستمرأت جرائم الغش والتزوير والأنانية لهاثاً خلف خوثي المتاع دون تحرجٍ أو استذراع ..
ألا أكثر الله في الأمة من الصادقين النصحة ونحى الله أهل التزوير الغششة .. يُخَادِعُونَ اللّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُم وَمَا يَشْعُرُونَ (9 سورة البقرة) .
نفعني الله وإياكم بهدي الكتاب وبسنة النبي المصطفى الأواب .
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولكافة المسلمين من كل خطيئة وإثم ؛ فاستغفروه وتوبوا إليه إنه كان توابا رحيما .
][مغبة الغش - الشيخ عبد الرحمن السديس][
========================
الخطبة الأولى
إن الحمد لله ، نحمدك ربي ونشكرك ونستعينك ونستغفرك ، سبحانك لم يزل فضلك على عبادك عميمًا سكَّابا ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادةً نبلغ في مرابعها أيما طِلابا ، وأشهد أن نبينا وسيدنا محمدًا عبد الله ورسوله .. أسنى البرايا أخلاقا وأعظمها انتسابا ، صلى عليه الله ما زمَّتْ هممٌ للعلياء رِكَابا وما ألفت قلوب غشًّا وزورًا وعابا ، وعلى آله وصحبه البالغين من التقى معارج وأسبابا ، والتابعين ومن تبعهم بإحسان يرجوا جنات مفتحة أبوابا ، وسلِّم اللهم تسليماً كثيرا ما تأرج روضٌ أنساماً عذابا .
أما بعد : فيا عباد الله : خير ما يوصى به تقوى الله – عز وجل – فبالتقوى تؤخذ النفوس بعنانها وتتزكى الأرواح عن عيوبها وأدرانها : ... وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً (5 سورة الطلاق) ..
فَمَنْ تَذَرَّعَ بالتقوَى استَنَارَ بها وَبَاتَ في بهجةِ الأعْمَالِ جَذْلانَا
فَسِرْ تقُودُكَ التَّقْوَى مُحَجَّلةً شُجُونُها امتلأتْ رَوْحًا وريْحَانَا
أمة الإسلام : قصدت شريعتنا الغراء في غاياتها وبديع مآلاتها إلى إصلاح الأمم وائتلافها وتزكية النفوس على تباينها واختلافها ، وأقامت لذلك صواً ومعالما متى استمسكت بها المجتمعات انتزع أبناؤها عناصر الخلود والنماء وخصائص الإبداع في البناء فتجددت بهم الآمال وسمت بإخلاصهم الأعمال ..
وإن من أعظم ما يقوِّض تلك المعالم الحضارية خصلة موجبة للنبذ والحذر منذرة بالتباري والخطر .. من وردها أُلقِي في البيد والمجاهيل ومن شمخ عنها عبَّ سلسال المناهي ..
إنها خلة لكنها ذميمة نكراء تقوِّض الحضارات وتفني مقدرات المجتمعات ، وصاحب هاتيك العُرَّة لا يزال مذموما وبأقبح النعوت موسوما .. تلكم - عافانا الله وإياكم - هي جريرة الغش والخداع ، ويالله كم في النفوس عليها وعلى أهلها من حسرة والتياع !
أيها المؤمنون : ولفظاعة هذا الداء الدوي والخلق الدني ، ولإخلاله بنظام الأمن التجاري والأمن التعاملي وتشويهه إشراقة المجتمع المتراحم المتوادد المتحاب المتعاضد حرمت الشريعة ذلك البهتان وتوعدت فاعله بالويل والخسران ؛ وفي ذلك أنزلت سورة من القرآن .. قال العزيز الديان : وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ * الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُواْ عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ * وَإِذَا كَالُوهُمْ أَو وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ (1-3 سورة المطففين) .
ولتلك الخلة الذميمة والعُرَّة القاتمة الأثيمة أقصى المصطفى – صلى الله عليه وسلم – الغاشين عن المجتمع ، وعدَّهم مارقين عنه منبوذين عن سلكه ووحدته وآصرته ولحمته .. يقول – صلى الله عليه وسلم - : " من غشَّنا فليسَ منا " أخرجه مسلم في صحيحه ؛ أي ليس على هدينا وسيرتنا وملتنا - في قول المحققين من أهل العلم - ..
وتلك صيغة من صيغ العموم تشمل جميع أنواع الغش وصوره ؛ إذ العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب .
إخوة الإسلام : أما الغش في المعاملات فهو خديعة المشتري والتغرير به ، وله ضروب وصور شتى .. منها :
- خلط الجيد من البضاعة بالرديء الوضيع .
- وبيع الجميع على أنه من الرفيع .
- أو كتمان ما في السلع من عيب ونقصان ، وذلك عين الغش وسبيل الخذلان .
- ومنها ما يروج له من التخفيضات عبر الدعاية الكاذبة أو الإعلان ، وما حقيقة ذلك الإنتاج إلا التدليس والبهتان .. ومَا همُّهُم إلا المبيعَاتُ تَنْتهِي مبِيعَاتُ إِعلانٍ كحَدْبَاءَ تَعْـرُجُ
دَعُوا الغشَّ واسْعَوْا للحَلالِ فإنَّه هو الخيرُ ينْمِي والحرَامُ مُدَحْرَجُ
ومن الناس من يسوق سلعته بكاذب الأيمان ، وما درى أن ذلك يسلب البركة ويخدش الإيمان .. في الحديث عن سيد ولد عدنان – عليه الصلاة والسلام – أنه قال : " الْحَلِفُ مَنفَقَةٌ للسلعة ممحَقَةٌ لِلْبَركَة " متفق عليه .
فامتطاء صهوة الغش يمحق الأغراض الشريفة ويفسد المقاصد المباركة الْمُنِيفَة ، كما يلوث كرامة الغاش بين الناس ؛ إذ لا كرامة لمن تدنس بجريرة التغرير وأوبقها وفي غوائل الغبن أركسها وأوثقها .. يقول – صلى الله عليه وسلم - : " فإنْ صَدَقَا وبيَّنَا (أي العيوب) بُورِكَ لهما في بيعِهِمَا ، وإنْ كَتَمَا وكَذبَا مُحِقَتْ بَرَكَةُ بيعِهِمَا " .
ويالها من بشرى سنية ومعية رضية للتاجر الصدوق الأمين في قوله – صلى الله عليه وسلم – : " التَّاجِرُ الصَّدُوقُ الأمِينُ مع النَّبِيِّين والشُّهداءِ والصِّدِيقِين " أخرجه الترمذي بإسناد حسن ..
قيل لعبد الرحمن بن عوف – رضي الله عنه - : بما أيسرت ؟ قال : " ما رددتُ ربحاً قط ، وما كتمتُ عيباً قط " ، ولله دره ! فتلك هي حقيقة الغنى .. غنى الروح والطباع لا غنى الجشع المطماع .
وذُو الغشِّ مرهُوبٌ وذُو النُّصْحِ آمِنٌ *** وذُو الطَّيْشِ مدْحُوضٌ وذُو الحقِّ يفلج
وذو الصِّدقِ لا يرْتابُ والعدلُ قائِمٌ *** على طُرُقَاتِ الحقِّ والغبْنُ أَعْوَجُ
إخوة الإيمان : ومن غرائب الزمان أن فئاما من الناس – هداهم الله - يظنون الغش كياسة وذكاءً ومسلكاً مباحاً لاكتساب الرزق ودهاء ، وهذا الضرب من المعاملة توحي به قلوب أصلب من صم الصفاء قد تنصَّلت من الرأفة والصفاء ؛ فالغاش - عياذا بالله - قد عشي عن مكسبه .. أهو مالكه أم هالكه أم تاركه ؟
فياأخدان الغش والخديعة أتتشبعون بسحت قضمته أسنانكم وكسب غشته أيمانكم ؟!
رباه .. رباه .. ما أحط الإنسان الذي دمر بالغش أمته وقيمه وطمس بالممازقة مشاعره وشيمه ! أما استقى من رحيق التوحيد ؟ أما يخشى الآخرة وما فيها من وعيد ؟ أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُم مَّبْعُوثُونَ * لِيَوْمٍ عَظِيمٍ * يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (4-6 سورة المطففين) ..
أما للغششة مدكر ومعتبر في حادثة أمير المؤمنين عمر – رضي الله عنه – مع المرأة التي غشت اللبن بالماء ، فصدتها ابنتها قائلة : إن أمير المؤمنين نهى عن الغش ، فقالت الأم : وأين عمر حتى يرانا ؟ فاصطرخت البنت المباركة : " إن لم يكن عمر يرانا فإن رب عمر يرانا " ..
الله أكبر . الله أكبر ، ولقد كان من آثار هذه التربية الموفقة أن أنجبت تلك الفتاة خامس الخلفاء الراشدين عمر بن عبد العزيز – رحمه الله - .
أيَابَائِعاً بالغشِّ أَنتَ مُعَرَّضٌ *** لدَعوَةِ مَظْلُومٍ إلى سَامِعِ الشَّكْوَى
فَكُلْ مِنْ حلالٍ وارْتدِعْ عن مُحرَّمٍ *** فَلسْتُ على نارِ الجحِيمِ غداً تَقْوَى
أمة الصدق والشفافية : وليس الغش قصراً على البيع والشراء ، بل حذر الإسلام من الغش في العقيدة وفي العبادة .. وذلك بالجفاء عنهما أو التنطع فيهما والزيادة أو إحداث عبادات في أشهر ومناسبات لم يكن عليها سلف الأمة وأئمتها ، كما يشمل شتى جوانب الحياة وطرائقها وجلائل المسئوليات ودقائقها ..
ومن أعظمها الغش ممن ولي أمراً من أمور المسلمين وأماناتهم ؛ ففي الوعيد الشديد يقول – صلى الله عليه وسلم - : " مَا مِنْ عَبْدٍ يَسْترعِيْهِ الله رعيةً يَمُوتُ يومَ يموتُ وهَوَ غاشٌّ لرعيته إلا حرَّمَ الله عليه الجنة " متفق عليه .
ياله من وعيد يدك صدى السعيد ، وهو عام يشمل الراعي مع رعيته ورب البيت مع أسرته والمسئول في وظيفته تحذيراً من كل غش وتقصير منتاب وحثاً لهم على الطموح الوثاب ..
وكذا غش الأمة في دينها ومصادر تلقيه في وقت كثر فيه المتعالمون والممتطون لصهوة القول على الله بغير علم والمتقحمون لمقامات الفتيا وهم ليسوا منها في قليل ولا كثير .. غافلين عن آثار آرائهم في المجتمع ومآلاتها في الأمة في حَلِّ سِحرٍ ومظاعن وغناء واختلاط وسواها .. متناسين أثر عبد الله بن مسعود – رضي الله عنه - : " ما أنت بمحدِّثٍ قوما بحديثٍ لم تبلغْهُ عقولُهُم إلا كان لبعضِهِم فِتنَة " ..
ولعل من الحزم الحجر على أمثال هؤلاء ؛ فالحجر لاستصلاح الأديان أولى من الحجر لاستصلاح الأبدان .
وكذا غش الأمة في فكرها الصافي بأفكار ملوثة تثير الفتن والبلبلة وتتقفر الفتاوى الشاذة والأقوال الغريبة الفاذة خروجا عن جماعة الأمة وجمهور أهل العلم ونيلا من علماء الأمة الربانيين وأئمتها الراسخين في عالم يموج بفوضى الفتاوى وعبث التعالم ..
وهكذا غش الأمة في قضاياها الكبرى ومقدساتها بالتجافي عنها والاستخفاف بشأنها وإسلامها للاحتلال والحسار والذل والدمار، وما تفرزه وسائل الإعلام وأعمدة الصحافة وقنوات الفضاء وشبكات المعلومات من مواد فكرية مغشوشة تلبس الحق الباطل وتدنس الفضائل بالرذائل ؛ لاسيما غش المرأة المسلمة وخداعها بالتبرج والسفور والاختلاط المحرم ..
ومنها الغش في المفاهيم والتلاعب بالمصطلحات على ما نحو ما يحاك ضد الدعوة السلفية في هذه الأيام ، وما هي إلا لزوم منهج سلف الأمة من الصحابة الكرام والأئمة الأعلام وليست فرقة حزبية أو دعوة عصبية أو الوقوع في فخ ما يسمى بـ (الوهابية) ، وما هي إلا دعوة تجديدية إصلاحية ، وليست مذهباً خامسا كما يُزعَم ، بل ليس فيها – بحمد الله – ما يخالف الكتاب والسنة .
ومن صوره ما يتعلق بغش الأوطان في بث الفوضى فيها وزعزعة الأمن والاستقرار ، وتعريضها لأعمال العنف والإرهاب ، وتهريب وترويج المخدرات واستمراء المحرمات والمنكرات .
أمة الإسلام : ما مرد كثير من عللنا إلا إلى الغش عقيدة وفكرا ومعاملة ؛ كالغش في المبيعات وناره والتدليس في الصناعات وأخطاره والتزييف في المعاملات وسعاره أو الزيف في العلاقات وأضراره ..
وتلك الحال التي أمت وعمت واستشرت وطمت أغرت ضعاف النفوس بأداء المسئوليات ناقصة مشوهة مدخولة مموهة ؛ مما أغرق كثيرا من المجتمعات في تلك الآسنات ..
فكم يرمد أهل الغيرة أن يروا الغش في المصنوع والمطبوع والمزروع والمذروع الغش في المخزون والموزن في الكساء والغذاء .. في التطبب والدواء .. في البناء والعمار وما يفضي إلى الدمار .. قد دخلوا في الوداد والوفاء والحب والإخاء ، تزوير في الشهادات الوظيفية والمهنية جرَّع البرءاء السقم والعناء وكبَّد الأوطان الويلات والأرزاء .
ألا ويح الأمم التي فتكت بالصدق والنزاهة والشفافية واستمرأت جرائم الغش والتزوير والأنانية لهاثاً خلف خوثي المتاع دون تحرجٍ أو استذراع ..
ألا أكثر الله في الأمة من الصادقين النصحة ونحى الله أهل التزوير الغششة .. يُخَادِعُونَ اللّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُم وَمَا يَشْعُرُونَ (9 سورة البقرة) .
نفعني الله وإياكم بهدي الكتاب وبسنة النبي المصطفى الأواب .
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولكافة المسلمين من كل خطيئة وإثم ؛ فاستغفروه وتوبوا إليه إنه كان توابا رحيما .