رقة احساس
07-23-2014, 11:29 PM
خطبة من المسجد الحرام
][حسن الخلق ... الشيخ صالح بن حميد][
===================
الحمد لله، الحمد لله القائم على النفوس بآجالها العالم بتقلباتها وأحوالها، أجرى على الخلق ما شاء بقدرته ومشيئته ونفذت فيهم أحكامه بتقديره وإرادته، أحمده - سبحانه - وأشكره على سوابغ فضله وجزيل نعمته، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، لا معقب لحكمه ولا منتهى لحكمته، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبد االله ورسوله بعثه على حين فترةٍ من الرسل ودروس من السبل فرحم العالمين ببعثته، صلَّى الله وسلَّم وبارَك عليه وعلى أصحابه وعترته والتابعين ومن تبعهم بإحسان وسار على منهاجه وسنته، وسلِّم تسليما كثيرا.
أما بعد:
فأوصيكم أيها الناس ونفسي بتقوى الله - عز وجل - فاتقوا الله - رحمكم الله - الزموا التقوى بينكم وبين الله، والزموا المجاهدة بينكم وبين أنفسكم، والزموا التواضع بينكم وبين الناس، والزموا الزهد بينكم وبين الدنيا، واعلموا أن الرحمة بالخلق باب الرحمة من الخالق، فالراحمون يرحمهم الرحمن، وتزينوا للعرض الأكبر: {يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنكُمْ خَافِيَةٌ} [الحاقة: 18]؛ فقد خف الحساب في الآخرة على من حاسبوا أنفسهم في الدنيا، وثقلت موازين قومٍ في الآخرة وزنوا أنفسهم في الدنيا.
ومحاسبة النفس - رحمكم الله - تكون بالورع والتزين للعرض الأكبر بخشية ملك الملوك لا إله إلا هو.
أيها المسلمون:
الأخوة بيننا في الإسلام صفةٌ عظيمةٌ قائمةٌ على الارتباط الوثيق، إخاءٌ تزدهر فيه عراقة النسب الإنساني مرتبطة بحقائق الرسالة الإسلامية وما تفرضه هذه الحقائق من مشاعر ومناهج ومباهج، الأخوة هي روح الإسلام ولب نوره وشرائعه وجماع جماعته وحكومته، إخاء على الوفاء بتعاليم الإسلام والقيام على أحكامه وإنفاذ وصاياه والتزام أخلاقه: {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً} [آل عمران: 103].
إن دين الإسلام - بعقائده وعباداته وأخلاقه - جاء لينقذ البشر والنفس البشرية إلى ميادين فسيحة وعوالم مشرقة من الفضائل والآداب.
وفي المقابل؛ فإن عوم الدين وأحكامه وتعاليمه تضمر وتضعف إذا غلب الهوى وطغى الانحراف وساد ظلم النفوس وظلم العباد.
إن المرء لا يوصف بحسن التدين إذا كان قلبه قاسيا وعقله غاضيا، ولا يوصف بحسن الصلاح من أفسد قلبه الهوى وعبثت بقلبه الخرافة .
التدين الصالح أساسه صحة أجهزة الإنسان - قلبه وعقله ونفسه وجوارحه - وبراءتها وسلامتها من التشويه والانحراف: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} [الروم: 30] {وَمَن يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} [لقمان: 22].
والعبادات تبلغ ذروتها إذا أنتجت الخلق العالي والسلوك المستقيم {إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ} [العنكبوت: 45]، {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا} [التوبة: 103]، {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ} [البقرة: 197].
إن محور العبادات هو تزكية النفس وإخلاص السريرة وتحقيق معنى الخضوع الحق لله رب العالمين؛ فلا نجاة ولا صلاح ولا نجاح ولا فلاح إلا بصدق العبودية لله وحسن المعاملة مع خلق الله.
من هو هذا المتدين الذي يقوم بعباداته وهو كالح الوجه بادي الشر قريب العدوان؟ كيف يكون التدين والصلاح إذا كانت رذائل الأخلاق تزخر في النفوس وتمتلئ بها الصدور ليظهر ضررها ويبدو خطرها؟ ولقد علمتم أن المفلس في دين الإسلام: "مَنْ يأتي بصلاةٍ وزكاةٍ وصيامٍ، ويأتي وقدْ شَتمَ هذا، وقَذفَ هذا، وأَكلَ مالَ هذا، وسفَكَ دمَ هذا، وضَربَ هذَا؛ فيُعْطَى هذا مِنْ حسناتِهِ، وهَذا من حَسَناتِه؛ فإنْ فَنِيَتْ حسناتُهُ قَبلَ أنْ يُقْضَى مَا علَيهِ أُخِذَ مِنْ خطاياهُمْ فطُرِحتْ عليه ثمَّ طُرِحَ في النَّار"؛ حديث صحيح أخرجه الإمام مسلم.
أيها المسلمون:
إن إحياء الدين في النفوس وإحياءه في السلوك بإحياء أخلاقه وتوجيهاته يجب أن تجلي حقائق الإيمان جواهر السلوك كما يجلي العبادات ذاك السلوك: {إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ} [العنكبوت: 45].
الأخلاق في الإسلام - عباد الله - من أصول الحياة الطيبة، يقول الفضيل بن عياض - رحمه الله -: "أصل الإيمان وفرعه بعد الشهادتين والفرائض: صدق الحديث، وحفظ الأمانة، والوفاء بالعهد، وصلة الرحم، والنصيحة للمسلمين"، بل قال أهل العلم: "الدين كله خلق، فمن زاد عليك في الخلق زاد عليك في الدين"، الدين هو الذي يرسم قواعد الأخلاق ويحدد معالمها ويضبط مقاييسها ويمجد مكارمها.
والأخلاق من غير دينٍ عبث، فالدين والأخلاق صنوان لا ينفصلان، وقد صحت الأخبار عن المصطفى المختار سيدنا ونبينا محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "إنَّ أحبَّ عبادِ اللهِ إلى اللهِ أحسنهُم خُلُقا" و" أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقا"، و"خَيرُ مَا أُعْطِي الإنْسانُ خُلُقٌ حَسَن"، والأقرب من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم القيامة منه مجلسا أحسنهم خلقا: "وما من شيءٍ أثقلُ في ميزَانِ المؤمن يومَ القِيامةِ مِنْ خُلُقٍ حَسَن"، و"البرُّ حسنُ الخلُق"، وكرم المؤمن دينه، ومروءته عقله، وحسبه خلقه.
ولكي تتجلى، ولكي تتجلى لكم - أيها المسلمون - منزلة الأخلاق وأثرها في ضبط السلوك ودورها في استقرار المجتمع انظروا إلى الأحكام والقوانين، فعلى الرغم مما عُلِم وعُرِف من أهميتها وضرورتها - أي الأحكام والقوانين - لتنظيم شئون الناس وإحقاق الحق ورفع التظالم، ولكنها لا تستقل وحدها بضبط مسالك الشرع لأن الأحكام والقوانين مهما كان حزمها وصرامتها ودقة تطبيقها فسلطانها على الظاهر لا على الباطن، وهي في العلاقات العامة دون الخاصة، وهي تعاقب المسيء لكنها لا تثيب المحسن، والتحايل عليها يسير، وتطويع نصوصها والالتفاف عليها مستطاع، والهروب من جزائها غير عسير، وفي هذا كله مع أنها مؤيدة بقوة السلطان ووازع الحكام.
وكم من نفوس، وكم من نفوس إذا تجردت من الأخلاق من قدرات على الزور المموه والباطل المزين والفساد المصبوغ بصفة الصلاح، هذا هو شأن الأحكام والقوانين والنظم المجردة.
إذن فلا بد ثم لا بد للإنسان من التدين والأخلاق: ((إذَا جاءَكُمْ مَنْ ترضَوْنَ دينَهُ وخُلقَهُ فزوِّجُوه، إلا تفْعلُوا تكُنْ فتنةٌ في الأرضِ وفسادٍ كبِير))؛ أخرجه الترمذي بإسنادٍ حسن.
وبدون الدين لا تكون الأخلاق، وبدون الأخلاق لا يكون قانونٌ ولا نظامٌ ولا أحكام.
معاشر الأحبة:
إذا كان الأمر كذلك فإن مجامع الأخلاق ومحاسنها: الحياء، ونفع الناس، والصدق، والجد في العمل، واتقاء الأخطاء، واتقاء فضول القول والعمل، والبر، والوفاء، والصبر، والشجاعة، والإحسان، والشكر، والحلم، والعدل، والعفاف، والشفقة، وعفة اللسان والنفس، وسلامة الصدر والتسامح، وكرم اليد والنفس، والأناة، والرحمة، والتعاطف، والإنصاف من النفس، ومواساة الإخوان، أما التوسط والوسطية فمنشأ جميع الأخلاق.
معاشر الإخوة:
حَسَنُ الخلق عفو كريم، يكظم غيظه وهو قادر على إمضائه، ويعفو وهو قادر على الانتقام، يتسامح وهو صاحب حق، لا يشغل نفسه بالخصام والعداوات؛ فالعمر عنده أعز والحياة لديه أغلى والأخوة أثمن.
حَسَنُ الخُلُق يجسد الأخوة في الدين والمشاركة في المثل العليا، حسن الخلق سعيد بنفسه وأهله، يدخل السرور على المحزون ويمسح الدمع عن الباكي وينير السبيل للحيران ويهدي الضال، تعلوه بسمةٌ رقيقة ويدٌ حانية وقلبٌ شفوق.
النفس الكريمة الخلوق ترقع الفتوق، وتكمل بخلقها النقائص، فيشرق نبلها من داخلها، وتحسن التصرف والمسير وسط دياجير الظلمات وتقلبات الأعاصير.
صاحب الخلق الحسن مؤمنٌ برحمة ربه وعدله، فيما قسم من حظوظ وما وزع من مواهب؛ فهو يمسي ويصبح سليم الصدر نقي الفؤاد يدعو بدعاء الصالحين: {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ} [الحشر: 10].
يستقبل يومه ويختمه: "اللهمَّ ما أصبح بي من نعمة أو بأحدٍ من خلقِكَ فمِنكَ وحدَكَ لا شريكَ لك؛ فلك الحمدُ ولك الشكر"، يأخذ بالرحمة ويدفع بالحسنى، يأمر بالمستطاع ولا يكلف ما لا يطاق.
وتأملوا هذه الجميلات الثلاث:
الصبر الجميل والصفح الجميل والهجر الجميل، ولا تكون هذه الجميلات إلا لذي الخلق الجميل.
يقول ابن عمر - رضي الله عنهما -: "البرُّ شيءٌ هيِّن: وجهٌ طليق وكلامٌ ليِّن"، ويقول عروة بن الزبير: "رُبَّ كلمة ذُلٍّ احتملتُهَا أورثتني عزًّا لا يطاول"، ويقول الأبشيهي: "يُستدَلُّ على رجَاحةِ عقل الرجلِ بميله إلى محاسنِ الأخلاق وإعراضه عن رذائل الأعمال، ورغبته في إسداء صنائع المعروف، وتجنبه ما يكسبه عارا أو يورثه سوء سمعة ".
وبعد - رحمكم الله - فالأخلاق ملاك الفرد وقوام المجتمع السعيد يبقي المجتمع راقيا ما بقيت ويذهب فانيا ما ذهبت، وما الأمم إلا أخلاقها وما الأقوام إلا بزاكي فعالها.
حسن الخلق يجعل المر حلوا، ويحول التراب تبرا، والكدر صفوا والسقم نعمة والشدة رحمة والعدو صديقا، حسن الخلق يلين الحديد ويذيب الحجر ويبعث في النفوس الحياة، حسن الخلق - بإذن الله - هو الذي يبسط الرضا وينشر الأمن والصادق في خلقه هو من خالطت قلبه بشاشة الإيمان.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم:{وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ * وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [فصلت: 34- 36].
نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم وبهدي محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -.
وأقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب وخطيئة؛ فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
][حسن الخلق ... الشيخ صالح بن حميد][
===================
الحمد لله، الحمد لله القائم على النفوس بآجالها العالم بتقلباتها وأحوالها، أجرى على الخلق ما شاء بقدرته ومشيئته ونفذت فيهم أحكامه بتقديره وإرادته، أحمده - سبحانه - وأشكره على سوابغ فضله وجزيل نعمته، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، لا معقب لحكمه ولا منتهى لحكمته، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبد االله ورسوله بعثه على حين فترةٍ من الرسل ودروس من السبل فرحم العالمين ببعثته، صلَّى الله وسلَّم وبارَك عليه وعلى أصحابه وعترته والتابعين ومن تبعهم بإحسان وسار على منهاجه وسنته، وسلِّم تسليما كثيرا.
أما بعد:
فأوصيكم أيها الناس ونفسي بتقوى الله - عز وجل - فاتقوا الله - رحمكم الله - الزموا التقوى بينكم وبين الله، والزموا المجاهدة بينكم وبين أنفسكم، والزموا التواضع بينكم وبين الناس، والزموا الزهد بينكم وبين الدنيا، واعلموا أن الرحمة بالخلق باب الرحمة من الخالق، فالراحمون يرحمهم الرحمن، وتزينوا للعرض الأكبر: {يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنكُمْ خَافِيَةٌ} [الحاقة: 18]؛ فقد خف الحساب في الآخرة على من حاسبوا أنفسهم في الدنيا، وثقلت موازين قومٍ في الآخرة وزنوا أنفسهم في الدنيا.
ومحاسبة النفس - رحمكم الله - تكون بالورع والتزين للعرض الأكبر بخشية ملك الملوك لا إله إلا هو.
أيها المسلمون:
الأخوة بيننا في الإسلام صفةٌ عظيمةٌ قائمةٌ على الارتباط الوثيق، إخاءٌ تزدهر فيه عراقة النسب الإنساني مرتبطة بحقائق الرسالة الإسلامية وما تفرضه هذه الحقائق من مشاعر ومناهج ومباهج، الأخوة هي روح الإسلام ولب نوره وشرائعه وجماع جماعته وحكومته، إخاء على الوفاء بتعاليم الإسلام والقيام على أحكامه وإنفاذ وصاياه والتزام أخلاقه: {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً} [آل عمران: 103].
إن دين الإسلام - بعقائده وعباداته وأخلاقه - جاء لينقذ البشر والنفس البشرية إلى ميادين فسيحة وعوالم مشرقة من الفضائل والآداب.
وفي المقابل؛ فإن عوم الدين وأحكامه وتعاليمه تضمر وتضعف إذا غلب الهوى وطغى الانحراف وساد ظلم النفوس وظلم العباد.
إن المرء لا يوصف بحسن التدين إذا كان قلبه قاسيا وعقله غاضيا، ولا يوصف بحسن الصلاح من أفسد قلبه الهوى وعبثت بقلبه الخرافة .
التدين الصالح أساسه صحة أجهزة الإنسان - قلبه وعقله ونفسه وجوارحه - وبراءتها وسلامتها من التشويه والانحراف: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ} [الروم: 30] {وَمَن يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى} [لقمان: 22].
والعبادات تبلغ ذروتها إذا أنتجت الخلق العالي والسلوك المستقيم {إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ} [العنكبوت: 45]، {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا} [التوبة: 103]، {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ} [البقرة: 197].
إن محور العبادات هو تزكية النفس وإخلاص السريرة وتحقيق معنى الخضوع الحق لله رب العالمين؛ فلا نجاة ولا صلاح ولا نجاح ولا فلاح إلا بصدق العبودية لله وحسن المعاملة مع خلق الله.
من هو هذا المتدين الذي يقوم بعباداته وهو كالح الوجه بادي الشر قريب العدوان؟ كيف يكون التدين والصلاح إذا كانت رذائل الأخلاق تزخر في النفوس وتمتلئ بها الصدور ليظهر ضررها ويبدو خطرها؟ ولقد علمتم أن المفلس في دين الإسلام: "مَنْ يأتي بصلاةٍ وزكاةٍ وصيامٍ، ويأتي وقدْ شَتمَ هذا، وقَذفَ هذا، وأَكلَ مالَ هذا، وسفَكَ دمَ هذا، وضَربَ هذَا؛ فيُعْطَى هذا مِنْ حسناتِهِ، وهَذا من حَسَناتِه؛ فإنْ فَنِيَتْ حسناتُهُ قَبلَ أنْ يُقْضَى مَا علَيهِ أُخِذَ مِنْ خطاياهُمْ فطُرِحتْ عليه ثمَّ طُرِحَ في النَّار"؛ حديث صحيح أخرجه الإمام مسلم.
أيها المسلمون:
إن إحياء الدين في النفوس وإحياءه في السلوك بإحياء أخلاقه وتوجيهاته يجب أن تجلي حقائق الإيمان جواهر السلوك كما يجلي العبادات ذاك السلوك: {إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ} [العنكبوت: 45].
الأخلاق في الإسلام - عباد الله - من أصول الحياة الطيبة، يقول الفضيل بن عياض - رحمه الله -: "أصل الإيمان وفرعه بعد الشهادتين والفرائض: صدق الحديث، وحفظ الأمانة، والوفاء بالعهد، وصلة الرحم، والنصيحة للمسلمين"، بل قال أهل العلم: "الدين كله خلق، فمن زاد عليك في الخلق زاد عليك في الدين"، الدين هو الذي يرسم قواعد الأخلاق ويحدد معالمها ويضبط مقاييسها ويمجد مكارمها.
والأخلاق من غير دينٍ عبث، فالدين والأخلاق صنوان لا ينفصلان، وقد صحت الأخبار عن المصطفى المختار سيدنا ونبينا محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "إنَّ أحبَّ عبادِ اللهِ إلى اللهِ أحسنهُم خُلُقا" و" أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم خلقا"، و"خَيرُ مَا أُعْطِي الإنْسانُ خُلُقٌ حَسَن"، والأقرب من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم القيامة منه مجلسا أحسنهم خلقا: "وما من شيءٍ أثقلُ في ميزَانِ المؤمن يومَ القِيامةِ مِنْ خُلُقٍ حَسَن"، و"البرُّ حسنُ الخلُق"، وكرم المؤمن دينه، ومروءته عقله، وحسبه خلقه.
ولكي تتجلى، ولكي تتجلى لكم - أيها المسلمون - منزلة الأخلاق وأثرها في ضبط السلوك ودورها في استقرار المجتمع انظروا إلى الأحكام والقوانين، فعلى الرغم مما عُلِم وعُرِف من أهميتها وضرورتها - أي الأحكام والقوانين - لتنظيم شئون الناس وإحقاق الحق ورفع التظالم، ولكنها لا تستقل وحدها بضبط مسالك الشرع لأن الأحكام والقوانين مهما كان حزمها وصرامتها ودقة تطبيقها فسلطانها على الظاهر لا على الباطن، وهي في العلاقات العامة دون الخاصة، وهي تعاقب المسيء لكنها لا تثيب المحسن، والتحايل عليها يسير، وتطويع نصوصها والالتفاف عليها مستطاع، والهروب من جزائها غير عسير، وفي هذا كله مع أنها مؤيدة بقوة السلطان ووازع الحكام.
وكم من نفوس، وكم من نفوس إذا تجردت من الأخلاق من قدرات على الزور المموه والباطل المزين والفساد المصبوغ بصفة الصلاح، هذا هو شأن الأحكام والقوانين والنظم المجردة.
إذن فلا بد ثم لا بد للإنسان من التدين والأخلاق: ((إذَا جاءَكُمْ مَنْ ترضَوْنَ دينَهُ وخُلقَهُ فزوِّجُوه، إلا تفْعلُوا تكُنْ فتنةٌ في الأرضِ وفسادٍ كبِير))؛ أخرجه الترمذي بإسنادٍ حسن.
وبدون الدين لا تكون الأخلاق، وبدون الأخلاق لا يكون قانونٌ ولا نظامٌ ولا أحكام.
معاشر الأحبة:
إذا كان الأمر كذلك فإن مجامع الأخلاق ومحاسنها: الحياء، ونفع الناس، والصدق، والجد في العمل، واتقاء الأخطاء، واتقاء فضول القول والعمل، والبر، والوفاء، والصبر، والشجاعة، والإحسان، والشكر، والحلم، والعدل، والعفاف، والشفقة، وعفة اللسان والنفس، وسلامة الصدر والتسامح، وكرم اليد والنفس، والأناة، والرحمة، والتعاطف، والإنصاف من النفس، ومواساة الإخوان، أما التوسط والوسطية فمنشأ جميع الأخلاق.
معاشر الإخوة:
حَسَنُ الخلق عفو كريم، يكظم غيظه وهو قادر على إمضائه، ويعفو وهو قادر على الانتقام، يتسامح وهو صاحب حق، لا يشغل نفسه بالخصام والعداوات؛ فالعمر عنده أعز والحياة لديه أغلى والأخوة أثمن.
حَسَنُ الخُلُق يجسد الأخوة في الدين والمشاركة في المثل العليا، حسن الخلق سعيد بنفسه وأهله، يدخل السرور على المحزون ويمسح الدمع عن الباكي وينير السبيل للحيران ويهدي الضال، تعلوه بسمةٌ رقيقة ويدٌ حانية وقلبٌ شفوق.
النفس الكريمة الخلوق ترقع الفتوق، وتكمل بخلقها النقائص، فيشرق نبلها من داخلها، وتحسن التصرف والمسير وسط دياجير الظلمات وتقلبات الأعاصير.
صاحب الخلق الحسن مؤمنٌ برحمة ربه وعدله، فيما قسم من حظوظ وما وزع من مواهب؛ فهو يمسي ويصبح سليم الصدر نقي الفؤاد يدعو بدعاء الصالحين: {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ} [الحشر: 10].
يستقبل يومه ويختمه: "اللهمَّ ما أصبح بي من نعمة أو بأحدٍ من خلقِكَ فمِنكَ وحدَكَ لا شريكَ لك؛ فلك الحمدُ ولك الشكر"، يأخذ بالرحمة ويدفع بالحسنى، يأمر بالمستطاع ولا يكلف ما لا يطاق.
وتأملوا هذه الجميلات الثلاث:
الصبر الجميل والصفح الجميل والهجر الجميل، ولا تكون هذه الجميلات إلا لذي الخلق الجميل.
يقول ابن عمر - رضي الله عنهما -: "البرُّ شيءٌ هيِّن: وجهٌ طليق وكلامٌ ليِّن"، ويقول عروة بن الزبير: "رُبَّ كلمة ذُلٍّ احتملتُهَا أورثتني عزًّا لا يطاول"، ويقول الأبشيهي: "يُستدَلُّ على رجَاحةِ عقل الرجلِ بميله إلى محاسنِ الأخلاق وإعراضه عن رذائل الأعمال، ورغبته في إسداء صنائع المعروف، وتجنبه ما يكسبه عارا أو يورثه سوء سمعة ".
وبعد - رحمكم الله - فالأخلاق ملاك الفرد وقوام المجتمع السعيد يبقي المجتمع راقيا ما بقيت ويذهب فانيا ما ذهبت، وما الأمم إلا أخلاقها وما الأقوام إلا بزاكي فعالها.
حسن الخلق يجعل المر حلوا، ويحول التراب تبرا، والكدر صفوا والسقم نعمة والشدة رحمة والعدو صديقا، حسن الخلق يلين الحديد ويذيب الحجر ويبعث في النفوس الحياة، حسن الخلق - بإذن الله - هو الذي يبسط الرضا وينشر الأمن والصادق في خلقه هو من خالطت قلبه بشاشة الإيمان.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم:{وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ * وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [فصلت: 34- 36].
نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم وبهدي محمدٍ - صلى الله عليه وسلم -.
وأقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب وخطيئة؛ فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.