عاشقة الفردوس
08-26-2014, 01:23 AM
يمثل درويش حالة شعرية متميزة في تاريخ الأدب العربي قديمه وحديثه نظرا لما امتلكه من سلطة رمزية ومرجعية، كرسته باعتباره الوريث الشرعي للقصيدة العربية وما راكمته من تراث فني وجمالي عبر العصور. لقد استطاع هذا الشاعر أن يرسم لنفسه –وبفرادة- خارطة خاصة في جغرافيا الشعر الحديث، كما استطاع أ...ن يحفر لشعره خندقا عميقا في قلوب قارئيه قبل أن يحفره في أرض شعرنا الحديث. ولعل هذه الدراسة التي نخصصها لدراسة جماليات خطاب الموت في قصيدة الجدارية أن تنجح في القبض على معالم الكون التخييلي الذي شيده درويش في هذه القصيدة بوعي جمالي يقظ. فمن أبرز الغايات التي وجهت هذه الدراسة محاولة الكشف عن بعض الملامح التي صاغت الشاعرية الفياضة والمتدفقة التي يستشعرها قراء درويش من مختلف الأعمار والثقافات.
تثير قصيدة «الجدارية» لمحمود درويش سيلا جارفا من الأسئلة الحارقة التي تخص الوجود الفردي والمصير الجماعي. إنها رثاء استباقي لذات رقيقة حساسة حدقت طويلا في الموت واكتوت على نحو فاجع بالتواري والعدم. وهو ما سمح بتشكيل فضاء نصي يتسم بجدل متوتر بين الذاتي والكوني، الواقعي والخيالي، السردي والدرامي، الغنائي والملحمي، الغرائبي والفجائعي؛ فهذه القصيدة الأغنية والنشيد تتكئ على شرعية جمالية نسغها الحيوي سيرة شعرية تطمح إلى القبض على المستقبل/ المستحيل الذي يحتضن سؤال الوجود عبر لوعة الغياب وفجيعة الرحيل الكبير والأخير.
لقد أدت تجربة درويش الأولى مع قلبه العليل في منتصف الثمانينات إلى إنتاج نصوص غنائية ضمنها ديوانه «هي أغنية. هي أغنية» الصادر عام 1986 ويمكن أن نشير هنا الى قصيدتيه «حجرة العناية الفائقة» و «أنا العاشق السيئ الحظ». أما في الجدارية فقد حاول الشاعر أن يتجاوز القصائد القصيرة والخاطفة ليبني قصيدة مركبة تقوم على الانفتاح النصي والاستفادة من الأسطورة والتصوف من أجل بناء مشاهد تزاوج بين الواقعي والخيالي، الشخصي والكوني، السردي والدرامي. وقد مكنتها هذه الاستراتيجية الجمالية من نقل التجربة الإنسانية والانفعالية في قالب فني وجمالي فاتن وأخاذ، حيث صاغت قصيدة الجدارية تجربة شاعر رقيق وحساس وضعته الأقدار في مواجهة مع الموت بكل أسلحته وجبروته في حين تقف الذات وحيدة في عزلتها القصية لا تملك سوى الجماليات تتحصن بها من أجل تأجيل موتها وتأبيد وجودها. لقد شيد درويش قصيدة خضراء عالية هي فردوسه التي يطل منها على الهاوية؛ فالجدارية عودة إلى الذات في أقصى لحظات الانتباه الوجودي وهي تواجه مصيرها الفاجع والأليم. وقد عبر درويش عن هذا الفهم الخاص لجوهر العملية الإبداعية بالقول: «أنا كشاعر مطالب بأن أقدم شهادة شعرية هي تراجيدية سواء تعاملت مع الخارق أم مع المألوف»1. فكيف تعامل درويش جماليا مع موضوعة الموت؟ وما هي أهم الملامح الجمالية التي وسمت قصيدة الجدارية التي أرادها الشاعر رثاء استباقيا للذات؟
انكسار الروح:
«الجدارية» قصيدة طويلة، تكاد تقترب من شعر الملاحم أو الأناشيد الطويلة، وقد سبقتها مجموعة من القصائد التي تنزع إلى الطول، ويغلب عليها النفس الملحمي، كأداة فنية للتعبير عن نضال الشعب الفلسطيني، وتروي مأساة خروجه من أرضه. ولذلك تبدو هذه القصائد مسكونة بهاجس البطولة وتقديس البطل الذي تبشر بظهوره، ليخلص شعبه من محنة التيه والتشرد. ويمكن اعتبار هذه القصائد مقدمات فنية وتمرينات يجرب من خلالها، درويش أدواته الإبداعية تمهيدا للنشيد الطويل، الذي أعلن أكثر من مرة عن طموجه لكتابته. لكي يكون بمثابة مسيرة شعرية، تستدعي شعر الملاحم وقصص البطولة، وتستحضر كل أشكال التعبير الشعري وأكثر الموضوعات خصوصية.
وقد كانت البداية عام (1975م) عندما كتب محمود قصيدته «تلك صورتها وهو انتحار العاشق». وهو نشيد طويل للأرض الفلسطينية حيث أعطاها بعدا إنسانيا، تحولت من خلاله إلى معشوقة يرسم لها العاشق العربي آلاف الصور ولا يملك في النهاية إلا أن ينتحر من أجلها، لأنه لا يملك غير دمه الذي يحمله على كفه. مرورا بقصيدة «الأرض» التي تعتبر بمثابة «بيان شعري»، وأهم قصائد التحدي. حيث جاءت بمفاهيم جديدة للغة والبطولة والالتزام، كما عمق خلالها درويش مفهومه للحب وجعله مرتبطا بالأرض، التي لم تعد بعدا جغرافيا ماديا بل حالة وجدانية ثم «قصيدة بيروت» 1984م. وقد جاءت هذه القصيدة رثاء ملحميا ونشيدا جنائزيا لبيروت بعد اجتياحها من طرف الجيش الإسرائيلي عام 1982م.
وفي عام 1984م، كتب درويش قصيدة «مديح الظل العالي» مما يعني أنها كتبت في جو يطبعه الإحساس الخانق نتيجة حصار بيروت 1982م الذي فضح هشاشة الأنظمة الرسمية، وكشف القناع عن الواقع العربي الموبوء، الذي يكرس الهزيمة والاستسلام2.
لقد كان درويش يحلم دائما أن يكون شعره ملحمة الحياة العربية الحديثة لكن التجارب الأليمة التي عاشها شعبه أملت على قصائده إيقاعا مأساويا حزينا وموجعا. لم تفسح له الأحداث الفاجعة التي تعاقبت على أرضه وشعبه مجالا لتدشين القول في البطولات التاريخية المنتصرة. لم يعد يملك أمام الخيبات العربية المتوالية سوى الغناء لانكسار الروح وتمجيد ملحمة الانتصار التي يصنعها الفلسطيني بدمه وعذاباته. وقد مثل هذا النوع من الغناء أرقى أشكال المقاومة لأنه يقوي الإيمان بالمستقبل العصي على الولادة لكنه الفجر الموعود الذي يتخايل بين أرواح الفدائيين الذين يقومون بأنبل الأفعال الإنسانية في مواجهة الموت والحصار: «تربية الأمل». وبعد أن غنى درويش طويلا للشهداء وأنهكه الموت الجماعي انكفأ على ذاته يبثها أحزانه وأشجانه في مجموعة من دواوينه الأخيرة مثل «لا تعتذر عما فعلت» و«لماذا تركت الحصان وحيدا» و«سرير الغريبة» إلى «حالة حصار» و «كزهر اللوز أو أبعد» وانتهاء بنص «في حضرة الغياب» مرورا بـ«الجدارية» التي كرسها درويش بكاملها لموضوعة الموت.
يظهر التأمل الدقيق في قصيدة الجدارية أن الرؤيا الشعرية فيها أصبحت تميل إلى الانكفاء على الذات، حيث تتعدد المشاهد وتتنوع من أجل نقل هموم الذات وأشجانها في تكثيف شعري فياض وأخاذ. لقد اكتملت أساطير الشاعر التي بناها من الاستعارات الفذة والحزن الشفيف. ولذلك أصبح الإيقاع في هذه القصيدة أقرب إلى غناء المهد، لأن العزف لم يعد جماعيا ملحميا يمجد البطولة التي تتخذ من الشهادة سبيلا لها وإنما أصبح عزفا ذاتيا منفردا يميل إلى الغنائية المشبوبة التي تفيض عن حدود الذات وتجري أسيانة عذبة :
بحر أمامى، والجدران ترجمنى
دع عنك نفسك واسلم أيها الولد
البحر أصغر منى كيف يحملنى
والبحر أكبر منى كيف أحمله
ضاقت بي اللغة، استسلمت للسفن
وغص بالقلب حين امتصة الزبد
بحر عليّ.. وفي الأبيض الأبد
والعزف منفرد3
أدرك درويش في هذه المرحلة من مسيرته الفنية أن الشعر لا يقوم بدوره في التعبير والتثوير على نحو مباشر وهذا ما يفسر التحول النوعي الذي ميز قصائده الجديدة مقارنة بالقديمة. إذ بات يتعامل مع الاستعارات باعتبارها حقيقة. وهنا صك درويش أسطورته الشعرية. لقد كان طوال الوقت يشعر «بخداع الواقع من حوله وأن عليه أن يتجاوز الواقع إلى خلود الأغنية. ولذلك انهمرت أشعاره غاصة بهذه الكرنفالات الحاشدة بالبشر من التاريخ مرة ومن الحقول مرة أخرى وهو يبدو وكأنه في حاجة إلى أن يخاطب نفسه أكثر مما يخاطب جماهيره»4.
عاد الشاعر في هذه القصيدة إلى ذاته يتأملها ويغني لها النشيد الطويل الذي طالما حلم بإنجازه. ومن هنا أصبح لشعره في هذه المرحلة شكل الغناء المتوحد الحزين والمكابر. إنه غناء الشاعر الممتلئ بتجربة إنسانية كبيرة وفجيعة لا يستطيع النفاذ إلى كنهها العميق إلا بالغناء الشجي والشفيف. لقد أصبح الشاعر فيه هذه المرحلة «أكثر حزنا وأصبحت شخصية المحارب في الشاعر شخصية تحارب بلا أوهام. لقد فقد المحارب أوهامه لكي يبقى الغناء حيا. لقد أصبحت هذه المرحلة مرحلة الغناء الكلي الشامل ومعها أصبح الشاعر يغني دائما ومن أجل كل شيء»5.
لقد بات الموت الذي يتهدد الذات الشاعرة معاناة وجودية يعيشها درويش بعمق فاجع. وهو ما جعل لحظة انتظار الموت تتحول إلى ضغط نفسي رهيب. ومن هنا شكل الموت في الجدارية حالة ذهنية يتعانق فيها الداخل والخارج نجم عنه جدل شعري لحمته وسداه حركة الخيال الشعري التي تتخذ اشكالا متنوعة بمعاونة جملة من الإمكانات التعبيرية الماتعة التي تجسد معاناة الذات في توهجها الشعري وهي تحاول تخليد كينوتها الرمزية. ولذلك تميز خطاب الموت في جدارية درويش بكونه يتأسس باعتباره احتفاء بالفجيعة والغياب، حيث تتحول المعاناة التي تتخذ صورة الفجيعة إلى حضور جمالي فياض وشفاف.
في هذه القصيدة التي يعتبرها درويش معلقته الأخيرة ص: 36 يعتصم الشاعر بوحدته يصيخ السمع لذاته ويغني لفجيعته لكي يصوغ ملحمته الفريدة والمتفردة التي يواصل من خلالها ديمومة الخلق والإبداع وتجديد الرؤى مستلهما عبقريته الشعرية الفذة التي مكنته من الحفر عميقا في أخاديد ذاته التي امتلأت بكل أسباب الغياب فبدأت تعد العدة للرحيل الأخير: (الجدارية ص: 104)
أما أنا - وقد امتلأت
بكل أسباب الرحيل-
فلست لي
أنا لست لي
أنا لست لي...
الجدارية نشيد الذات وهي تواجه مصيرها الفاجع والأليم. ولذلك جاءت القصيدة مفعمة ببلاغة الحياة المعتقة انطلاقا من إيمان الشاعر بأن الشعر الحقيقي لا يموت والشعراء الذين يستحقون هذه التسمية يعيشون طويلا بعد موتهم. ومن هنا كانت الجدارية تمثل نقشا غائرا تحفره الذات في ذاكرة الزمن حتى تقاوم غيابها ولذلك جاءت القصيدة مجللة بمهابة الغناء الفاجع والإيقاع الحزين. فهي النشيد الأخير التي أراد من خلاله درويش أن يكون ملاذا يدفن فيه جروح الذات في لحظة استثنائية تواجه فيها الذات موتها بجماليات الاستعارات المتوهجة التي تفيض عن حدود النص لتعانق الخلود. فقد كان درويش يتهيأ في هذا النص للموت لأنه يدرك أن لكل شيء نهاية : (الجدارية ص: 90)
لا شيء يبقى على حاله
للولادة وقت
وللموت وقت
وللصمت وقت...
كل نهر سيشربه البحر
والبحر ليس بملآن
كل حي يسير إلى الموت
والموت ليس بملآن
تجابه الذات في هذه القصيدة لحظة فاجعة وهي تتهيأ للغياب الكبير: (الجدارية ص: 81)
يكسرني الغياب كجرة الماء الصغيرة.
وقد حاولت الذات الشاعرة التغلب على العدم والغياب الذي يتهدد وجودها الجسدي عن طريق التأسي بخلود الإبداع الشعري الذي يساعدها على تأبيد كينونتها في ذاكرة الزمن: (الجدارية ص:67)
تقول ممرضتي: كنت تهذي كثيراً
وتصرخ بي قائلاً:
لا أريد الرجوع إلى أحدٍ
لا أريد الرجوع إلى بلدٍ
بعد هذا الغياب الطويل
أريد الرجوع فقط
إلى لغتي في أقاصي الهديل!!
وقد شكل الاسم بالنسبة إلى محمود درويش مسكنا رمزيا تأوي إليه الذات في أقصى لحظات الوحدة والغربة من أجل تأكيد هويتها وتأبيد وجودها. فاسم درويش «لم يعد فقط إسم الحالة المدنية بل اسم المؤلف الذي بنى أسطورته الشعرية الشخصية انطلاقا من زواج عسير بين الحلم الجماعي والشرط الجمالي المنفتح على إبدالات الشعر المعاصر والمساهم فيه من ثمة في صنع مشهد القصيدة الجديدة ومآلها في العالم... ملتمسا لنصه الانفتاح أكثر على غبطة الحب من ضمن انفتاحه على سؤال الوجود في غنائية ملحمية تعيد ترميم عناصر الذاكرة لمقاومة الموت والإبقاء على وعد المستقبل».6 ولذلك تبدأ القصيدة بالسؤال عن الاسم: (الجدارية ص:9)
هذا هو اسْمُكَ؟
قالتْ امرأة
وغابت في الممر اللولبي.
لقد جاءت العودة إلى الاسم باعتباره هوية الذات والمسكن الرمزي للكائن: (الجدارية ص:90)
لا شيء يبقى سوى اسمي المذهب.
لقد أراد درويش أن ينقش اسمه في ذاكرة الزمن. ولذلك عمد إلى تفكيك مكونات الاسم في تشكيل لغوي فاتن يستدعي إلى الذهن نظرة الثقافة العربية إلى سحرية الحرف الذي ينطوي على خواص غامضة تتصل بالمقدر ومكتوب في الغيب: (الجدارية ص:102)
واسمي، إن أخطأتُ لَفْظَ اسمي
بخمسة أَحْرُفٍ أُفُقيّةِ التكوين لي :
ميمُ/ المُتَيَّمُ والمُيتَّمُ والمتمِّمُ ما مضى
حاءُ/ الحديقةُ والحبيبةُ، حيرتانِ وحسرتان
ميمُ/ المُغَامِرُ والمُعَدُّ المُسْتَعدُّ لموته
الموعود منفيّاً، مريضَ المُشْتَهَى
واو/ الوداعُ، الوردةُ الوسطى،
ولاءٌ للولادة أَينما وُجدَتْ، وَوَعْدُ الوالدين
دال/ الدليلُ، الدربُ، دمعةُ
دارةٍ دَرَسَتْ، ودوريّ يُدَلِّلُني ويُدْميني/
ينطوي هذا التفكيك للاسم على دلالات رمزية وإيحائية تومئ إلى شاعر عاشق منكسر، قريب من تخوم الموت الذي يتهدد وجوده الجسدي. فكيف تعامل درويش جماليا مع الموت؟ وما أبرز العناصر التي توسل بها من أجل القبض على متخيل الموت؟
عناصر بناء متخيل الموت:
يشتبك درويش في الجدارية مع فكرة موته فيشحذ جميع أسلحته الفنية ويستثمر خبرته الجمالية من أجل القبض على الموت حالة ذهنية وشعورية يعيشها الشاعر بعمق وجودي وحسرة فاجعة، ويطمح درويش في هذه القصيدة إلى أن يرسم صورة كلية للموت كما تتصوره الذات الشاعرة وتتخيله. مستفيدة في ذلك من مختلف الأدوات التعبيرية التي طورها درويش في مسيرته الشعرية المتدفقة. حيث يستدعي في هذه القصيدة عالما ميثولوجيا يزخر بالأبعاد الغرائبية، إضافة الى إشارات عديدة مستمدة من نصوص دينية وثقافية تغني التجربة الشعرية بما تقدم من بدائل تخييلية تمكن الشاعر من قهر الموت والتغلب عليه، حيث تشكل رموز الخصب والنماء، بالمفهوم الحضاري الشامل للكلمة. نقيضا لفكرة الموت التي يجابهها الشاعر ومقابلا لها. ولما كانت تجربة الموت تجربة فريدة واستثنائية فإن الشاعر يكشف في هذه القصيدة عن وعي جمالي يقظ يصارع الموت ويحاول التغلب عليه بتشكيل مجموعة من الصور، ترسم في مجموعها الصورة المتخيلة للموت، كما يوظف درويش استراتيجية جمالية تقوم أدوات تعبيرية يسترفدها من الأنواع الادبية المختلفة مثل لحوار الخارجي، والحوار الداخلي والسرد والتكرار، الذي يطور المواقف الانفعالية والحالات الوجدانية، ويصورها من زوايا مختلفة. من أبرز العناصر الفنية والجمالية التي سخرها درويش لبناء متخيل الموت: التشخيص الحواري والتخييل الحلمي والتشكيل الأسطوري والتفصيل السردي والترجيع الغنائي.
التشخيص الحواري:
من مظاهر الجمال في مراثي الذات عند درويش الحوار الشفيف الذي يقيمه الشاعر مع الموت، حيث يأتي الحوار تأكيدا لجدلية الحياة والموت التي يقدمها درويش في صور عديدة ومشاهد متنوعة يحاول من خلالها القبض على متخيل الموت باسستثمار القدرة التعبيرية والطاقة التشخيصية التي تنطوي عليها اللغة الشعرية. ولعل تشخيص الموت عن طريق إنشاء وضعية تحاورية بين الذات التي تستشعر قرب نهايتها وبين الموت الذي يتأهب لإنجاز مهمته أن يمثل بعدا جماليا في قصيدة الجدارية التي تطمح إلى تعيين الموت ورسم أطيافه وأشباحه عبر تشييد متخيله؛ حيث المحاورة الشعرية أداة جمالية يلوذ بها الشاعر في مواجهة الموت والغياب: (الجدارية ص:50)
يا موت!
يا ظلي الذي سيقودني
يا ثالث الإثنين
يا لون التردد في الزمرد والزبرجد
اجلس على الكرسي!
ضع أدوات صيدك تحت نافذتي
لا تحدق يا قوي إلى شراييني
لترصد نقطة الضعف الأخيرة!
لقد استطاع درويش بفضل ما أتيح له من حدس فني وجمالي يقظ أن يرسم في الجدارية موتا مختلفا. إذ يشخصه حتى يتمكن من تعيين ملامحه وضبط ممارساته مؤسسا بذلك لجمالية جديدة في مواجهة فعل الموت، حيث يتجسد أمامنا الموت من خلال الرسم الشعري الذي أنجزه درويش موتا أليفا مختلفا عن صورته في المخيال الثقافي الجماعي. حيث يسعى الخطاب المباشر للموت الى تجريده من الجوانب المأساوية التي تصاحبه في المتخيل الإنساني وتحريره من صورته المفزعة، لتعطيه بعدا إنسانيا يجعل العلاقة بين الذات والموت ودية وغير عدائية: ص: (الجدارية ص:59)
فلتكن العلاقة بيننا
ودية وصريحة: لك أنت
مالك من حياتي حين أملأها
ولي منك التأمل في الكواكب
عندما يخاطب درويش الموت قائلا « انتظِرْني ريثما أنهي قراءة طرْفة بنِ العبْد» فإنه لا يقصد بفعل «القراءة» صرف العمر في الاستزادة من المعارف والعلوم ولكنه يستخدمه للإشارة إلى تنفيذ وصية طرفة في استغلال ما تبقى من لحظات عمره في النهل من متع الحياة التي اختزلها في عبارة شعرية كثيفة ودالة « حرية، وعدالة، ونبيذ آلهة».
يمثل استحضار طرفة بن العبد في هذا السياق النصي إشارة إلى أن درويش اختار هذا الشاعر ليكون رفيقه فيما تبقى له من عمره. حيث يعتبر طرفة من أبرز الشعراء الذين أقاموا حوارا عميقا مع الموت في معلقته الشهيرة. لقد أدرك على حداثة سنه أن الإنسان يحمل في جسده بذور فنائه
عندما يعمد درويش إلى استحضار أسلافه من الشعراء الذين أدمنوا التأمل في تجربة الموت فإنه يستخدمهم قناعا يكثف من خلاله الأبعاد الدلالية والرمزية التي أراد توصيلها لقارئه من خلال الجدارية بعد أن يؤول نصوصهم بما يتوافق وتجربته الخاصة. وهو إجراء يمكن الشاعر من خلق نوع من الحلول بين الماضي والحاضر مما يغني الرؤية الشعرية التي تصبح أكثر عمقا واتساعا لقدرتها على الوصل بين ما هو ماض غابر وما هو حاضر آني. يقول كمال أبو ديب إن «لغة الأسطورة حين تدخل في النص تؤدي دورا جوهريا هو فتح النص تماما؛ فتحه تزامنيا؛ أي على صعيد العلاقات المتشكلة ضمن بنية النص بين المكون الأسطوري والمكون التجريبي، ثم توالديا أي على صعيد العلاقات بين النص بوصفه بنية كلية وتاريخ الثقافة بأكملها من حيث تنبع الأسطور. إن الأسطورة بهذا التصور فعل توتير حاد في النص وفتح لبؤرة إشعاعات داخلية وخارجية في النص»›9. تنبثق أهمية استدعاء الشخصية- الرمز من قدرتها على رفد النص الشعري بتوتر درامي حاد يساعد الشاعر على توصيل تجربته الوجدانية إلى المتلقي بكثير من النجاعة ويرجع ذلك إلى المفارقة الجمالية التي تنجم عن توظيف شخصية تاريخية تتصل تجربتها العاطفية والانفعالية في كثير من نواحيها مع تجربة الشاعر مما يخلق التباسا من شأنه أن يعمق التجربة الجمالية التي تعبر عنها القصيدة؛ ذلك أن ضمير المتكلم الذي يأتينا من القصيدة هو صوت الشخصية وليس صوت الشاعر، لكن الصوت الذي ينبعث من الأغوار السحيقة للقصيدة ليس صوت الشخصية ولا صوت الشاعر ولكنه صوت مركب ينجم عن تفاعل وتداخل صوت الشاعر وصوت الشخصية وكأن الشاعر يعزف لحنين متزامنين.
التخييل الحلمي:
تنطلق قصيدة الجدارية من رؤيا حلمية تنبؤية لا تعترف بالحدود المنطقية بين الأشياء، حيث يظهر درويش في هذه القصيدة احتفاء بالصيغ المجازية والتراكيب الاستعارية التي ترد في سياق إبداعي حلمي يؤثر البصيرة على البصر، والحدس على الاستنباط: (الجدارية ص:41)
خضراء أرض قصيدتي خضراء
يحملها الغنائيون من زمن إلى زمن كما هي في
خصوبتها.
ولي منها: تأمل نرجس في ماء صورته
ولي منها وضوح الظل في المترادفات
ودقة المعنى.
...
ولي منها: حمار الحكمة المنسيّ فوق التل
يسخر من خرافتها وواقعها.
ولي منها: احتقان الرمز بالأضداد
لا التجسيد يرجعها من الذكرى
ولا التجريد يرفعها إلى الإشراقة الكبرى.
يوظف درويش الحلم في قصيدته الجدارية توظيفا جماليا حيث يشغل الشاعر تقنيات النقل والإزاحة التي تميز عوالم الحلم من أجل تخليق الرؤيا وإعادة صياغة العالم صياغة جديدة تقوم على الوهم والالتباس وهو ما يساعد على تقديم رؤيا غير مألوفة للكائنات والموجودات: (الجدارية ص: 10)
من مظاهر التشكيل الحلمي في الجدارية ميل الاشتغال اللغوي في هذه القصيدة إلى التشذر باعتباره استراتيجية تعبيرية وجمالية تناهض شفافية الكتابة الواقعية التي تراهن على تشخيص الواقع المرجعي عن طريق محاكاته والمحافظة على تماسكه ووثوقيته. ولما كان الشاعر يعبر في هذه القصيدة عن تجربة حياتية فريدة تتجاوز قوانين الواقع الطبيعي والفيزيائي فقد توجهت الاستراتيجية الجمالية في هذه القصيدة إلى خلق صور وأخيلة غائمة مفارقة للإطار المتحكم في فهمها وتداولها، حيث ينشئ الشاعر بما يشكله من صور وأخيلة عالما نصيا سديميا تطفو على سطحه ذكريات متشظية ترتبط بمسير ومصير حياة محمود درويش المفعمة بالهشاشة والامحاء أمام الحضور الطاغي للموت والغياب كما يظهر من هذا المقطع الشعري الذي يهيمن عليه الالتباس وعدم اليقين: (الجدارية صص:44-45)
منْ أنت، يا أنا؟ في الطريقِ
اثنانِ نحْن، وفي القيامة واحد.
خذْني إلى ضوء التلاشي كي أرى
صيْرورتي في صورتي الأخرى. فمنْ
سأكون بعدك، يا أنا؟ جسدي
ورائي أم أمامك؟ منْ أنا يا
أنت؟
في هذا المقطع يتجسد الالتباس واللايقين في حالاته القصوى. لقد تحول «أنا» الشاعر من مطلق الحضور وكلي المعرفة كما تصوره الميتافيزيقا التلقليدية لمجرد كائن ضعيف تستبد به الشكوك وينخر النسيان ذاكرته.
يمثل اللايقين بعدا من الأبعاد المؤسسة لجمالية خطاب الموت في قصيدة الجدارية فهو أداة لتصوير حاضر سديمي تطبعه التناقضات والمفارقات التي تنسف موثوقية الواقع الحسي ومرجعية قوانينه الصارمة. حيث تطفو على سطح القصيدة مشاهد وتذكرات مبتورة وملتبسة يستعصي على الذاكرة استعادتها كليا من قبضة النسيان: (الجدارية صص:23- 24).
وأنظر نحو
نفسي في المرايا
أَنا هُوَ؟
هل أؤدِّي جَيِّداً دَوْرِي من الفصل الأخيرِ؟
وهل قرأتُ المسرحيَّةَ قبل هذا العرض،
أَم فُرِضَتْ عليَّ؟
وهل أنا هُوَ من يؤدِّي الدَّوْرَ
أَمْ أَنَّ الضحيَّة غَيَّرتْ أَقوالها
لتعيش ما بعد الحداثة، بعدما
انْحَرَفَ المؤلّفُ عن سياق النصِّ
وانصرَفَ المُمَثّلُ والشهودُ؟
وقد نجم عن الغموض الذي يلف مصير الذات أن شاع في الجدارية إحساس أليم بالضياع في المكان والزمان، حيث غدا «الواقعي هو الخيالي الأكيد» كما عبر الشاعر في لحظة تنبؤية رؤياوية: (الجدارية ص:25)
أفرغني الهباء من الإشارة و العبارة
لم أجد وقتا لأعرف منزلتي
الهنيهة بين منزلتين لم أسأل
سؤالي بعيد عن غبش التشابه
بين بابين : الخروج أم الدخول...
ولم أجد موتا لأقتنص الحياة
ولم أجد صوتا لأصرخ : أيها
الزمن السريع خطفتني مما تقول
لي الحروف الغامضات :
الواقعي هو الخيالي الأكيد
لقد أصبح الماضي والحاضر امحاء ودخولا في دائرة الغياب الأبدي باعتباره الرحيل الكبير والأخير، لكن الحركة لا تتوقف بل تعاود انبثاقها وتجددها حيث تتحول النهاية عند درويش إلى بداية جديدة مضادة للنهايات المحددة: (الجدارية ص:16)
سنكون يوما ما نريد ُ
لا الرحلةُ ابتدأتْ، ولا الدربُ انتهى
لم يَبْلُغِ الحكما ءُ غربتَهُمْ
كما لم يَبْلُغ الغرباءُ حكمتَهمْ،
فلنذهب إلى أَعلى الجداريات :
أَرضُ قصيدتي خضراءُ، عاليةُ،
ولذلك يعمد درويش إلى تدبير لحظة ما بعد اليوم بكثير من الألفة والدعة: (الجدارية ص:49).
فيا موت انتظرني ريثما أنهي
تدابير الجنازة في الربيع الهش
حيث ولدت حيث سأمنع الخطباء
من تكرار ما قالوا عن البلد الحزين
وعن صمود التين والزيتون في وجه
الزمان وجيشه سأقول صبّوني
بحرف النون حيث تعبُّ روحي
سورة الرحمن في القرآن وامشوا
صامتين معي على خطوات أجدادي
ووقع الناي في أزلي
ولا تضعوا على قبري البنفسج، فهو
زهر المحبطين يذكّر الموتى
بموت الحب قبل أوانه
وضعوا على التابوت
سبع سنابل خضراء،
وبعض شقائق النعمان، إن وجدت
يظهر الشاعر في هذا المقطع رباطة جأش منقطعة النظير في مواجهة الموت إذ لا يكتفي بعدم المبالاة بالغياب الكبير بل يحتفي بموته ويستعد له بيقظة وجودية عميقة حيث لا ينسى أن يدبر تفاصيل الرحيل في حياته مادام الموت ليس نهاية ولكنه تحول في الوجود وانتقال من حال إلى حال. رحلة الحياة لا تنتهي بالموت ولكنها تستأنف مسيرتها قد تغير طرقها لكن باتجاه الأبهى والأجمل باتجاه أعلى الجداريات وأرض القصيدة الخضراء التي تستدعي إلى الذهن صورة تموز القتيل المنبعث للحياة كل ربيع وخطى جلجامش الخضراء حيث يستعيد الشاعر رحلته الرمزية بحثا عن نبتة الخلود السحرية. وهو ما يجعل حركة الرؤيا الشعرية تغادر دائرة الماضي والحاضر لتعانق أفقا أرحب ينفتح على المستقبل – الغد: (الجدارية ص:97)
وقلتُ : إن متُّ انتبهتُ...
لديَّ ما يكفي من الماضي
وينقُصُني غَدٌ...
يكشف هذا المقطع أن حياة الشاعر تحققت في الماضي باعتباره حيزا تم عيشه أما الغد فهو الناقص المفتوح على كل الاحتمالات. إنه تحقق تتخذ فيه الذات تجليات أخرى جديدة في مرايا المستقبل بما هو غياب يتخذ معنى العبور إلى الحضور في صورة أخرى حاول الشاعر اسشراف ملامحها من خلال الطاقة الإبداعية التي يتيحها له المخيلة. حيث استثمر الرؤيا الحلمية في إعادة تأثيث فضاء المستقبل باحتمالات متنوعة يستعين الشاعر في إنشائها بخيال مجنح يستطيع أن يرسم واقعا جديدا تتبادل فيه الأشياء هويتها ومواقعها: (الجدارية ص:12)
- سأصير يوماً فكرةً....
- سأصير يوما طائرا...
- سأصير يوماً شاعراً...
- سأصيرُ يوماً كرمةً...
تنبثق شعرية هذا الصور من رؤيا حلمية تفصيلية شاملة لحالات الوجع القصوى التي تستبد بالذات
تثير قصيدة «الجدارية» لمحمود درويش سيلا جارفا من الأسئلة الحارقة التي تخص الوجود الفردي والمصير الجماعي. إنها رثاء استباقي لذات رقيقة حساسة حدقت طويلا في الموت واكتوت على نحو فاجع بالتواري والعدم. وهو ما سمح بتشكيل فضاء نصي يتسم بجدل متوتر بين الذاتي والكوني، الواقعي والخيالي، السردي والدرامي، الغنائي والملحمي، الغرائبي والفجائعي؛ فهذه القصيدة الأغنية والنشيد تتكئ على شرعية جمالية نسغها الحيوي سيرة شعرية تطمح إلى القبض على المستقبل/ المستحيل الذي يحتضن سؤال الوجود عبر لوعة الغياب وفجيعة الرحيل الكبير والأخير.
لقد أدت تجربة درويش الأولى مع قلبه العليل في منتصف الثمانينات إلى إنتاج نصوص غنائية ضمنها ديوانه «هي أغنية. هي أغنية» الصادر عام 1986 ويمكن أن نشير هنا الى قصيدتيه «حجرة العناية الفائقة» و «أنا العاشق السيئ الحظ». أما في الجدارية فقد حاول الشاعر أن يتجاوز القصائد القصيرة والخاطفة ليبني قصيدة مركبة تقوم على الانفتاح النصي والاستفادة من الأسطورة والتصوف من أجل بناء مشاهد تزاوج بين الواقعي والخيالي، الشخصي والكوني، السردي والدرامي. وقد مكنتها هذه الاستراتيجية الجمالية من نقل التجربة الإنسانية والانفعالية في قالب فني وجمالي فاتن وأخاذ، حيث صاغت قصيدة الجدارية تجربة شاعر رقيق وحساس وضعته الأقدار في مواجهة مع الموت بكل أسلحته وجبروته في حين تقف الذات وحيدة في عزلتها القصية لا تملك سوى الجماليات تتحصن بها من أجل تأجيل موتها وتأبيد وجودها. لقد شيد درويش قصيدة خضراء عالية هي فردوسه التي يطل منها على الهاوية؛ فالجدارية عودة إلى الذات في أقصى لحظات الانتباه الوجودي وهي تواجه مصيرها الفاجع والأليم. وقد عبر درويش عن هذا الفهم الخاص لجوهر العملية الإبداعية بالقول: «أنا كشاعر مطالب بأن أقدم شهادة شعرية هي تراجيدية سواء تعاملت مع الخارق أم مع المألوف»1. فكيف تعامل درويش جماليا مع موضوعة الموت؟ وما هي أهم الملامح الجمالية التي وسمت قصيدة الجدارية التي أرادها الشاعر رثاء استباقيا للذات؟
انكسار الروح:
«الجدارية» قصيدة طويلة، تكاد تقترب من شعر الملاحم أو الأناشيد الطويلة، وقد سبقتها مجموعة من القصائد التي تنزع إلى الطول، ويغلب عليها النفس الملحمي، كأداة فنية للتعبير عن نضال الشعب الفلسطيني، وتروي مأساة خروجه من أرضه. ولذلك تبدو هذه القصائد مسكونة بهاجس البطولة وتقديس البطل الذي تبشر بظهوره، ليخلص شعبه من محنة التيه والتشرد. ويمكن اعتبار هذه القصائد مقدمات فنية وتمرينات يجرب من خلالها، درويش أدواته الإبداعية تمهيدا للنشيد الطويل، الذي أعلن أكثر من مرة عن طموجه لكتابته. لكي يكون بمثابة مسيرة شعرية، تستدعي شعر الملاحم وقصص البطولة، وتستحضر كل أشكال التعبير الشعري وأكثر الموضوعات خصوصية.
وقد كانت البداية عام (1975م) عندما كتب محمود قصيدته «تلك صورتها وهو انتحار العاشق». وهو نشيد طويل للأرض الفلسطينية حيث أعطاها بعدا إنسانيا، تحولت من خلاله إلى معشوقة يرسم لها العاشق العربي آلاف الصور ولا يملك في النهاية إلا أن ينتحر من أجلها، لأنه لا يملك غير دمه الذي يحمله على كفه. مرورا بقصيدة «الأرض» التي تعتبر بمثابة «بيان شعري»، وأهم قصائد التحدي. حيث جاءت بمفاهيم جديدة للغة والبطولة والالتزام، كما عمق خلالها درويش مفهومه للحب وجعله مرتبطا بالأرض، التي لم تعد بعدا جغرافيا ماديا بل حالة وجدانية ثم «قصيدة بيروت» 1984م. وقد جاءت هذه القصيدة رثاء ملحميا ونشيدا جنائزيا لبيروت بعد اجتياحها من طرف الجيش الإسرائيلي عام 1982م.
وفي عام 1984م، كتب درويش قصيدة «مديح الظل العالي» مما يعني أنها كتبت في جو يطبعه الإحساس الخانق نتيجة حصار بيروت 1982م الذي فضح هشاشة الأنظمة الرسمية، وكشف القناع عن الواقع العربي الموبوء، الذي يكرس الهزيمة والاستسلام2.
لقد كان درويش يحلم دائما أن يكون شعره ملحمة الحياة العربية الحديثة لكن التجارب الأليمة التي عاشها شعبه أملت على قصائده إيقاعا مأساويا حزينا وموجعا. لم تفسح له الأحداث الفاجعة التي تعاقبت على أرضه وشعبه مجالا لتدشين القول في البطولات التاريخية المنتصرة. لم يعد يملك أمام الخيبات العربية المتوالية سوى الغناء لانكسار الروح وتمجيد ملحمة الانتصار التي يصنعها الفلسطيني بدمه وعذاباته. وقد مثل هذا النوع من الغناء أرقى أشكال المقاومة لأنه يقوي الإيمان بالمستقبل العصي على الولادة لكنه الفجر الموعود الذي يتخايل بين أرواح الفدائيين الذين يقومون بأنبل الأفعال الإنسانية في مواجهة الموت والحصار: «تربية الأمل». وبعد أن غنى درويش طويلا للشهداء وأنهكه الموت الجماعي انكفأ على ذاته يبثها أحزانه وأشجانه في مجموعة من دواوينه الأخيرة مثل «لا تعتذر عما فعلت» و«لماذا تركت الحصان وحيدا» و«سرير الغريبة» إلى «حالة حصار» و «كزهر اللوز أو أبعد» وانتهاء بنص «في حضرة الغياب» مرورا بـ«الجدارية» التي كرسها درويش بكاملها لموضوعة الموت.
يظهر التأمل الدقيق في قصيدة الجدارية أن الرؤيا الشعرية فيها أصبحت تميل إلى الانكفاء على الذات، حيث تتعدد المشاهد وتتنوع من أجل نقل هموم الذات وأشجانها في تكثيف شعري فياض وأخاذ. لقد اكتملت أساطير الشاعر التي بناها من الاستعارات الفذة والحزن الشفيف. ولذلك أصبح الإيقاع في هذه القصيدة أقرب إلى غناء المهد، لأن العزف لم يعد جماعيا ملحميا يمجد البطولة التي تتخذ من الشهادة سبيلا لها وإنما أصبح عزفا ذاتيا منفردا يميل إلى الغنائية المشبوبة التي تفيض عن حدود الذات وتجري أسيانة عذبة :
بحر أمامى، والجدران ترجمنى
دع عنك نفسك واسلم أيها الولد
البحر أصغر منى كيف يحملنى
والبحر أكبر منى كيف أحمله
ضاقت بي اللغة، استسلمت للسفن
وغص بالقلب حين امتصة الزبد
بحر عليّ.. وفي الأبيض الأبد
والعزف منفرد3
أدرك درويش في هذه المرحلة من مسيرته الفنية أن الشعر لا يقوم بدوره في التعبير والتثوير على نحو مباشر وهذا ما يفسر التحول النوعي الذي ميز قصائده الجديدة مقارنة بالقديمة. إذ بات يتعامل مع الاستعارات باعتبارها حقيقة. وهنا صك درويش أسطورته الشعرية. لقد كان طوال الوقت يشعر «بخداع الواقع من حوله وأن عليه أن يتجاوز الواقع إلى خلود الأغنية. ولذلك انهمرت أشعاره غاصة بهذه الكرنفالات الحاشدة بالبشر من التاريخ مرة ومن الحقول مرة أخرى وهو يبدو وكأنه في حاجة إلى أن يخاطب نفسه أكثر مما يخاطب جماهيره»4.
عاد الشاعر في هذه القصيدة إلى ذاته يتأملها ويغني لها النشيد الطويل الذي طالما حلم بإنجازه. ومن هنا أصبح لشعره في هذه المرحلة شكل الغناء المتوحد الحزين والمكابر. إنه غناء الشاعر الممتلئ بتجربة إنسانية كبيرة وفجيعة لا يستطيع النفاذ إلى كنهها العميق إلا بالغناء الشجي والشفيف. لقد أصبح الشاعر فيه هذه المرحلة «أكثر حزنا وأصبحت شخصية المحارب في الشاعر شخصية تحارب بلا أوهام. لقد فقد المحارب أوهامه لكي يبقى الغناء حيا. لقد أصبحت هذه المرحلة مرحلة الغناء الكلي الشامل ومعها أصبح الشاعر يغني دائما ومن أجل كل شيء»5.
لقد بات الموت الذي يتهدد الذات الشاعرة معاناة وجودية يعيشها درويش بعمق فاجع. وهو ما جعل لحظة انتظار الموت تتحول إلى ضغط نفسي رهيب. ومن هنا شكل الموت في الجدارية حالة ذهنية يتعانق فيها الداخل والخارج نجم عنه جدل شعري لحمته وسداه حركة الخيال الشعري التي تتخذ اشكالا متنوعة بمعاونة جملة من الإمكانات التعبيرية الماتعة التي تجسد معاناة الذات في توهجها الشعري وهي تحاول تخليد كينوتها الرمزية. ولذلك تميز خطاب الموت في جدارية درويش بكونه يتأسس باعتباره احتفاء بالفجيعة والغياب، حيث تتحول المعاناة التي تتخذ صورة الفجيعة إلى حضور جمالي فياض وشفاف.
في هذه القصيدة التي يعتبرها درويش معلقته الأخيرة ص: 36 يعتصم الشاعر بوحدته يصيخ السمع لذاته ويغني لفجيعته لكي يصوغ ملحمته الفريدة والمتفردة التي يواصل من خلالها ديمومة الخلق والإبداع وتجديد الرؤى مستلهما عبقريته الشعرية الفذة التي مكنته من الحفر عميقا في أخاديد ذاته التي امتلأت بكل أسباب الغياب فبدأت تعد العدة للرحيل الأخير: (الجدارية ص: 104)
أما أنا - وقد امتلأت
بكل أسباب الرحيل-
فلست لي
أنا لست لي
أنا لست لي...
الجدارية نشيد الذات وهي تواجه مصيرها الفاجع والأليم. ولذلك جاءت القصيدة مفعمة ببلاغة الحياة المعتقة انطلاقا من إيمان الشاعر بأن الشعر الحقيقي لا يموت والشعراء الذين يستحقون هذه التسمية يعيشون طويلا بعد موتهم. ومن هنا كانت الجدارية تمثل نقشا غائرا تحفره الذات في ذاكرة الزمن حتى تقاوم غيابها ولذلك جاءت القصيدة مجللة بمهابة الغناء الفاجع والإيقاع الحزين. فهي النشيد الأخير التي أراد من خلاله درويش أن يكون ملاذا يدفن فيه جروح الذات في لحظة استثنائية تواجه فيها الذات موتها بجماليات الاستعارات المتوهجة التي تفيض عن حدود النص لتعانق الخلود. فقد كان درويش يتهيأ في هذا النص للموت لأنه يدرك أن لكل شيء نهاية : (الجدارية ص: 90)
لا شيء يبقى على حاله
للولادة وقت
وللموت وقت
وللصمت وقت...
كل نهر سيشربه البحر
والبحر ليس بملآن
كل حي يسير إلى الموت
والموت ليس بملآن
تجابه الذات في هذه القصيدة لحظة فاجعة وهي تتهيأ للغياب الكبير: (الجدارية ص: 81)
يكسرني الغياب كجرة الماء الصغيرة.
وقد حاولت الذات الشاعرة التغلب على العدم والغياب الذي يتهدد وجودها الجسدي عن طريق التأسي بخلود الإبداع الشعري الذي يساعدها على تأبيد كينونتها في ذاكرة الزمن: (الجدارية ص:67)
تقول ممرضتي: كنت تهذي كثيراً
وتصرخ بي قائلاً:
لا أريد الرجوع إلى أحدٍ
لا أريد الرجوع إلى بلدٍ
بعد هذا الغياب الطويل
أريد الرجوع فقط
إلى لغتي في أقاصي الهديل!!
وقد شكل الاسم بالنسبة إلى محمود درويش مسكنا رمزيا تأوي إليه الذات في أقصى لحظات الوحدة والغربة من أجل تأكيد هويتها وتأبيد وجودها. فاسم درويش «لم يعد فقط إسم الحالة المدنية بل اسم المؤلف الذي بنى أسطورته الشعرية الشخصية انطلاقا من زواج عسير بين الحلم الجماعي والشرط الجمالي المنفتح على إبدالات الشعر المعاصر والمساهم فيه من ثمة في صنع مشهد القصيدة الجديدة ومآلها في العالم... ملتمسا لنصه الانفتاح أكثر على غبطة الحب من ضمن انفتاحه على سؤال الوجود في غنائية ملحمية تعيد ترميم عناصر الذاكرة لمقاومة الموت والإبقاء على وعد المستقبل».6 ولذلك تبدأ القصيدة بالسؤال عن الاسم: (الجدارية ص:9)
هذا هو اسْمُكَ؟
قالتْ امرأة
وغابت في الممر اللولبي.
لقد جاءت العودة إلى الاسم باعتباره هوية الذات والمسكن الرمزي للكائن: (الجدارية ص:90)
لا شيء يبقى سوى اسمي المذهب.
لقد أراد درويش أن ينقش اسمه في ذاكرة الزمن. ولذلك عمد إلى تفكيك مكونات الاسم في تشكيل لغوي فاتن يستدعي إلى الذهن نظرة الثقافة العربية إلى سحرية الحرف الذي ينطوي على خواص غامضة تتصل بالمقدر ومكتوب في الغيب: (الجدارية ص:102)
واسمي، إن أخطأتُ لَفْظَ اسمي
بخمسة أَحْرُفٍ أُفُقيّةِ التكوين لي :
ميمُ/ المُتَيَّمُ والمُيتَّمُ والمتمِّمُ ما مضى
حاءُ/ الحديقةُ والحبيبةُ، حيرتانِ وحسرتان
ميمُ/ المُغَامِرُ والمُعَدُّ المُسْتَعدُّ لموته
الموعود منفيّاً، مريضَ المُشْتَهَى
واو/ الوداعُ، الوردةُ الوسطى،
ولاءٌ للولادة أَينما وُجدَتْ، وَوَعْدُ الوالدين
دال/ الدليلُ، الدربُ، دمعةُ
دارةٍ دَرَسَتْ، ودوريّ يُدَلِّلُني ويُدْميني/
ينطوي هذا التفكيك للاسم على دلالات رمزية وإيحائية تومئ إلى شاعر عاشق منكسر، قريب من تخوم الموت الذي يتهدد وجوده الجسدي. فكيف تعامل درويش جماليا مع الموت؟ وما أبرز العناصر التي توسل بها من أجل القبض على متخيل الموت؟
عناصر بناء متخيل الموت:
يشتبك درويش في الجدارية مع فكرة موته فيشحذ جميع أسلحته الفنية ويستثمر خبرته الجمالية من أجل القبض على الموت حالة ذهنية وشعورية يعيشها الشاعر بعمق وجودي وحسرة فاجعة، ويطمح درويش في هذه القصيدة إلى أن يرسم صورة كلية للموت كما تتصوره الذات الشاعرة وتتخيله. مستفيدة في ذلك من مختلف الأدوات التعبيرية التي طورها درويش في مسيرته الشعرية المتدفقة. حيث يستدعي في هذه القصيدة عالما ميثولوجيا يزخر بالأبعاد الغرائبية، إضافة الى إشارات عديدة مستمدة من نصوص دينية وثقافية تغني التجربة الشعرية بما تقدم من بدائل تخييلية تمكن الشاعر من قهر الموت والتغلب عليه، حيث تشكل رموز الخصب والنماء، بالمفهوم الحضاري الشامل للكلمة. نقيضا لفكرة الموت التي يجابهها الشاعر ومقابلا لها. ولما كانت تجربة الموت تجربة فريدة واستثنائية فإن الشاعر يكشف في هذه القصيدة عن وعي جمالي يقظ يصارع الموت ويحاول التغلب عليه بتشكيل مجموعة من الصور، ترسم في مجموعها الصورة المتخيلة للموت، كما يوظف درويش استراتيجية جمالية تقوم أدوات تعبيرية يسترفدها من الأنواع الادبية المختلفة مثل لحوار الخارجي، والحوار الداخلي والسرد والتكرار، الذي يطور المواقف الانفعالية والحالات الوجدانية، ويصورها من زوايا مختلفة. من أبرز العناصر الفنية والجمالية التي سخرها درويش لبناء متخيل الموت: التشخيص الحواري والتخييل الحلمي والتشكيل الأسطوري والتفصيل السردي والترجيع الغنائي.
التشخيص الحواري:
من مظاهر الجمال في مراثي الذات عند درويش الحوار الشفيف الذي يقيمه الشاعر مع الموت، حيث يأتي الحوار تأكيدا لجدلية الحياة والموت التي يقدمها درويش في صور عديدة ومشاهد متنوعة يحاول من خلالها القبض على متخيل الموت باسستثمار القدرة التعبيرية والطاقة التشخيصية التي تنطوي عليها اللغة الشعرية. ولعل تشخيص الموت عن طريق إنشاء وضعية تحاورية بين الذات التي تستشعر قرب نهايتها وبين الموت الذي يتأهب لإنجاز مهمته أن يمثل بعدا جماليا في قصيدة الجدارية التي تطمح إلى تعيين الموت ورسم أطيافه وأشباحه عبر تشييد متخيله؛ حيث المحاورة الشعرية أداة جمالية يلوذ بها الشاعر في مواجهة الموت والغياب: (الجدارية ص:50)
يا موت!
يا ظلي الذي سيقودني
يا ثالث الإثنين
يا لون التردد في الزمرد والزبرجد
اجلس على الكرسي!
ضع أدوات صيدك تحت نافذتي
لا تحدق يا قوي إلى شراييني
لترصد نقطة الضعف الأخيرة!
لقد استطاع درويش بفضل ما أتيح له من حدس فني وجمالي يقظ أن يرسم في الجدارية موتا مختلفا. إذ يشخصه حتى يتمكن من تعيين ملامحه وضبط ممارساته مؤسسا بذلك لجمالية جديدة في مواجهة فعل الموت، حيث يتجسد أمامنا الموت من خلال الرسم الشعري الذي أنجزه درويش موتا أليفا مختلفا عن صورته في المخيال الثقافي الجماعي. حيث يسعى الخطاب المباشر للموت الى تجريده من الجوانب المأساوية التي تصاحبه في المتخيل الإنساني وتحريره من صورته المفزعة، لتعطيه بعدا إنسانيا يجعل العلاقة بين الذات والموت ودية وغير عدائية: ص: (الجدارية ص:59)
فلتكن العلاقة بيننا
ودية وصريحة: لك أنت
مالك من حياتي حين أملأها
ولي منك التأمل في الكواكب
عندما يخاطب درويش الموت قائلا « انتظِرْني ريثما أنهي قراءة طرْفة بنِ العبْد» فإنه لا يقصد بفعل «القراءة» صرف العمر في الاستزادة من المعارف والعلوم ولكنه يستخدمه للإشارة إلى تنفيذ وصية طرفة في استغلال ما تبقى من لحظات عمره في النهل من متع الحياة التي اختزلها في عبارة شعرية كثيفة ودالة « حرية، وعدالة، ونبيذ آلهة».
يمثل استحضار طرفة بن العبد في هذا السياق النصي إشارة إلى أن درويش اختار هذا الشاعر ليكون رفيقه فيما تبقى له من عمره. حيث يعتبر طرفة من أبرز الشعراء الذين أقاموا حوارا عميقا مع الموت في معلقته الشهيرة. لقد أدرك على حداثة سنه أن الإنسان يحمل في جسده بذور فنائه
عندما يعمد درويش إلى استحضار أسلافه من الشعراء الذين أدمنوا التأمل في تجربة الموت فإنه يستخدمهم قناعا يكثف من خلاله الأبعاد الدلالية والرمزية التي أراد توصيلها لقارئه من خلال الجدارية بعد أن يؤول نصوصهم بما يتوافق وتجربته الخاصة. وهو إجراء يمكن الشاعر من خلق نوع من الحلول بين الماضي والحاضر مما يغني الرؤية الشعرية التي تصبح أكثر عمقا واتساعا لقدرتها على الوصل بين ما هو ماض غابر وما هو حاضر آني. يقول كمال أبو ديب إن «لغة الأسطورة حين تدخل في النص تؤدي دورا جوهريا هو فتح النص تماما؛ فتحه تزامنيا؛ أي على صعيد العلاقات المتشكلة ضمن بنية النص بين المكون الأسطوري والمكون التجريبي، ثم توالديا أي على صعيد العلاقات بين النص بوصفه بنية كلية وتاريخ الثقافة بأكملها من حيث تنبع الأسطور. إن الأسطورة بهذا التصور فعل توتير حاد في النص وفتح لبؤرة إشعاعات داخلية وخارجية في النص»›9. تنبثق أهمية استدعاء الشخصية- الرمز من قدرتها على رفد النص الشعري بتوتر درامي حاد يساعد الشاعر على توصيل تجربته الوجدانية إلى المتلقي بكثير من النجاعة ويرجع ذلك إلى المفارقة الجمالية التي تنجم عن توظيف شخصية تاريخية تتصل تجربتها العاطفية والانفعالية في كثير من نواحيها مع تجربة الشاعر مما يخلق التباسا من شأنه أن يعمق التجربة الجمالية التي تعبر عنها القصيدة؛ ذلك أن ضمير المتكلم الذي يأتينا من القصيدة هو صوت الشخصية وليس صوت الشاعر، لكن الصوت الذي ينبعث من الأغوار السحيقة للقصيدة ليس صوت الشخصية ولا صوت الشاعر ولكنه صوت مركب ينجم عن تفاعل وتداخل صوت الشاعر وصوت الشخصية وكأن الشاعر يعزف لحنين متزامنين.
التخييل الحلمي:
تنطلق قصيدة الجدارية من رؤيا حلمية تنبؤية لا تعترف بالحدود المنطقية بين الأشياء، حيث يظهر درويش في هذه القصيدة احتفاء بالصيغ المجازية والتراكيب الاستعارية التي ترد في سياق إبداعي حلمي يؤثر البصيرة على البصر، والحدس على الاستنباط: (الجدارية ص:41)
خضراء أرض قصيدتي خضراء
يحملها الغنائيون من زمن إلى زمن كما هي في
خصوبتها.
ولي منها: تأمل نرجس في ماء صورته
ولي منها وضوح الظل في المترادفات
ودقة المعنى.
...
ولي منها: حمار الحكمة المنسيّ فوق التل
يسخر من خرافتها وواقعها.
ولي منها: احتقان الرمز بالأضداد
لا التجسيد يرجعها من الذكرى
ولا التجريد يرفعها إلى الإشراقة الكبرى.
يوظف درويش الحلم في قصيدته الجدارية توظيفا جماليا حيث يشغل الشاعر تقنيات النقل والإزاحة التي تميز عوالم الحلم من أجل تخليق الرؤيا وإعادة صياغة العالم صياغة جديدة تقوم على الوهم والالتباس وهو ما يساعد على تقديم رؤيا غير مألوفة للكائنات والموجودات: (الجدارية ص: 10)
من مظاهر التشكيل الحلمي في الجدارية ميل الاشتغال اللغوي في هذه القصيدة إلى التشذر باعتباره استراتيجية تعبيرية وجمالية تناهض شفافية الكتابة الواقعية التي تراهن على تشخيص الواقع المرجعي عن طريق محاكاته والمحافظة على تماسكه ووثوقيته. ولما كان الشاعر يعبر في هذه القصيدة عن تجربة حياتية فريدة تتجاوز قوانين الواقع الطبيعي والفيزيائي فقد توجهت الاستراتيجية الجمالية في هذه القصيدة إلى خلق صور وأخيلة غائمة مفارقة للإطار المتحكم في فهمها وتداولها، حيث ينشئ الشاعر بما يشكله من صور وأخيلة عالما نصيا سديميا تطفو على سطحه ذكريات متشظية ترتبط بمسير ومصير حياة محمود درويش المفعمة بالهشاشة والامحاء أمام الحضور الطاغي للموت والغياب كما يظهر من هذا المقطع الشعري الذي يهيمن عليه الالتباس وعدم اليقين: (الجدارية صص:44-45)
منْ أنت، يا أنا؟ في الطريقِ
اثنانِ نحْن، وفي القيامة واحد.
خذْني إلى ضوء التلاشي كي أرى
صيْرورتي في صورتي الأخرى. فمنْ
سأكون بعدك، يا أنا؟ جسدي
ورائي أم أمامك؟ منْ أنا يا
أنت؟
في هذا المقطع يتجسد الالتباس واللايقين في حالاته القصوى. لقد تحول «أنا» الشاعر من مطلق الحضور وكلي المعرفة كما تصوره الميتافيزيقا التلقليدية لمجرد كائن ضعيف تستبد به الشكوك وينخر النسيان ذاكرته.
يمثل اللايقين بعدا من الأبعاد المؤسسة لجمالية خطاب الموت في قصيدة الجدارية فهو أداة لتصوير حاضر سديمي تطبعه التناقضات والمفارقات التي تنسف موثوقية الواقع الحسي ومرجعية قوانينه الصارمة. حيث تطفو على سطح القصيدة مشاهد وتذكرات مبتورة وملتبسة يستعصي على الذاكرة استعادتها كليا من قبضة النسيان: (الجدارية صص:23- 24).
وأنظر نحو
نفسي في المرايا
أَنا هُوَ؟
هل أؤدِّي جَيِّداً دَوْرِي من الفصل الأخيرِ؟
وهل قرأتُ المسرحيَّةَ قبل هذا العرض،
أَم فُرِضَتْ عليَّ؟
وهل أنا هُوَ من يؤدِّي الدَّوْرَ
أَمْ أَنَّ الضحيَّة غَيَّرتْ أَقوالها
لتعيش ما بعد الحداثة، بعدما
انْحَرَفَ المؤلّفُ عن سياق النصِّ
وانصرَفَ المُمَثّلُ والشهودُ؟
وقد نجم عن الغموض الذي يلف مصير الذات أن شاع في الجدارية إحساس أليم بالضياع في المكان والزمان، حيث غدا «الواقعي هو الخيالي الأكيد» كما عبر الشاعر في لحظة تنبؤية رؤياوية: (الجدارية ص:25)
أفرغني الهباء من الإشارة و العبارة
لم أجد وقتا لأعرف منزلتي
الهنيهة بين منزلتين لم أسأل
سؤالي بعيد عن غبش التشابه
بين بابين : الخروج أم الدخول...
ولم أجد موتا لأقتنص الحياة
ولم أجد صوتا لأصرخ : أيها
الزمن السريع خطفتني مما تقول
لي الحروف الغامضات :
الواقعي هو الخيالي الأكيد
لقد أصبح الماضي والحاضر امحاء ودخولا في دائرة الغياب الأبدي باعتباره الرحيل الكبير والأخير، لكن الحركة لا تتوقف بل تعاود انبثاقها وتجددها حيث تتحول النهاية عند درويش إلى بداية جديدة مضادة للنهايات المحددة: (الجدارية ص:16)
سنكون يوما ما نريد ُ
لا الرحلةُ ابتدأتْ، ولا الدربُ انتهى
لم يَبْلُغِ الحكما ءُ غربتَهُمْ
كما لم يَبْلُغ الغرباءُ حكمتَهمْ،
فلنذهب إلى أَعلى الجداريات :
أَرضُ قصيدتي خضراءُ، عاليةُ،
ولذلك يعمد درويش إلى تدبير لحظة ما بعد اليوم بكثير من الألفة والدعة: (الجدارية ص:49).
فيا موت انتظرني ريثما أنهي
تدابير الجنازة في الربيع الهش
حيث ولدت حيث سأمنع الخطباء
من تكرار ما قالوا عن البلد الحزين
وعن صمود التين والزيتون في وجه
الزمان وجيشه سأقول صبّوني
بحرف النون حيث تعبُّ روحي
سورة الرحمن في القرآن وامشوا
صامتين معي على خطوات أجدادي
ووقع الناي في أزلي
ولا تضعوا على قبري البنفسج، فهو
زهر المحبطين يذكّر الموتى
بموت الحب قبل أوانه
وضعوا على التابوت
سبع سنابل خضراء،
وبعض شقائق النعمان، إن وجدت
يظهر الشاعر في هذا المقطع رباطة جأش منقطعة النظير في مواجهة الموت إذ لا يكتفي بعدم المبالاة بالغياب الكبير بل يحتفي بموته ويستعد له بيقظة وجودية عميقة حيث لا ينسى أن يدبر تفاصيل الرحيل في حياته مادام الموت ليس نهاية ولكنه تحول في الوجود وانتقال من حال إلى حال. رحلة الحياة لا تنتهي بالموت ولكنها تستأنف مسيرتها قد تغير طرقها لكن باتجاه الأبهى والأجمل باتجاه أعلى الجداريات وأرض القصيدة الخضراء التي تستدعي إلى الذهن صورة تموز القتيل المنبعث للحياة كل ربيع وخطى جلجامش الخضراء حيث يستعيد الشاعر رحلته الرمزية بحثا عن نبتة الخلود السحرية. وهو ما يجعل حركة الرؤيا الشعرية تغادر دائرة الماضي والحاضر لتعانق أفقا أرحب ينفتح على المستقبل – الغد: (الجدارية ص:97)
وقلتُ : إن متُّ انتبهتُ...
لديَّ ما يكفي من الماضي
وينقُصُني غَدٌ...
يكشف هذا المقطع أن حياة الشاعر تحققت في الماضي باعتباره حيزا تم عيشه أما الغد فهو الناقص المفتوح على كل الاحتمالات. إنه تحقق تتخذ فيه الذات تجليات أخرى جديدة في مرايا المستقبل بما هو غياب يتخذ معنى العبور إلى الحضور في صورة أخرى حاول الشاعر اسشراف ملامحها من خلال الطاقة الإبداعية التي يتيحها له المخيلة. حيث استثمر الرؤيا الحلمية في إعادة تأثيث فضاء المستقبل باحتمالات متنوعة يستعين الشاعر في إنشائها بخيال مجنح يستطيع أن يرسم واقعا جديدا تتبادل فيه الأشياء هويتها ومواقعها: (الجدارية ص:12)
- سأصير يوماً فكرةً....
- سأصير يوما طائرا...
- سأصير يوماً شاعراً...
- سأصيرُ يوماً كرمةً...
تنبثق شعرية هذا الصور من رؤيا حلمية تفصيلية شاملة لحالات الوجع القصوى التي تستبد بالذات