عاشقة الفردوس
11-06-2014, 12:02 AM
أنوار آية : الشيطان يعدكم الفقر
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وعلينا وعلى عباد الله الصالحين أما بعد:
أنوار آية نبقى معها ونتأمل في معانيها يقول الحق جل وعلا { الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ } [البقرة/268] الآية الثامنة والستون بعد المائتين من سورة البقرة والشيطان سبق أن ذكرنا أصل اشتقاق الكلمة على أحد قولين إما من شطنا وهو بمعنى بعد والشيطان بعيد ومبعد عن رحمة الله أو منشيطا وهو المعنى الذي فيه النار والاحتراق وهو مخلوق من نار يقول الحق جل وعلا (الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ) وحتى ندرك هذا المعنى فإن الآية جاءت بعد دعاء الله سبحانه وتعالى للمؤمنين بالإنفاق من طيبات ما كسبوا ونهاهم سبحانه وتعالى أن يتيمموا الخبيث منه وينفقون وجاءت هذه الآية بعدها ولمزيد من التوضيح كذلك نذكر حديثاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم رواه الترمذي في سننه وفيه عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال (إن للشيطان لمة من ابن آدم وللملك لمة فأما لمة الشيطان فإعاد بالشر وتكذيب بالحق وأما لمة الملك فإعاد بالخير وتصديق بالحق فمن وجد ذلك فليعلم أنه من الله وليحمد الله ومن وجد الأخرى فليتعود الله من الشيطان) ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم { الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ } [البقرة/268]. هنا معنيان متعلقان بالشيطان ويقابلهما معنيين متعلقين بالله عز وجل بالنسبة للشيطان يعد الفقر يأمر بالفحشاء بالنسبة لما هو منسوب ومرتبط بالله سبحانه وتعالى (يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا) أي يكون منه فضل وهذه المقابلة هي التي تبرز دلالة معنى الآية وعظمة بلاغتها وإعجازها ما المعنى وكيف يعد الشيطان الفقر أولاً الوعد هو أمر لما يستقبل ويستخدم في الشر وفي الخير فقد تعد إنساناً بخير وقد تعده بشر ولكنه هنا في سياق الشر لما قاله النبي صلى الله عليه وسلم بأن الشيطان يعد بالشر ويكذب بالحق ولأن الفقر شر بالنسبة للإنسان وفيه عليه ضيق وضنك ما هو الفقر الذي يعد به يقول لا تنفق في سبيل الله ولا تخرج الطيب من مالك لوجه الله لماذا؟ لأن ذلك سيؤول بك إلى الفقر وسينتهي أو يفنى مالك وتصبح فقيراً وهذا من وسواس الشيطان العظيم الذي له أثر كبير وواقع حياة الناس اليوم وفي كل الأحوال يشهد بذلك فإن النفس فيها شح وبخل يؤدي إلى إمساك اليد ومنع النفقة ويبرر المرء لنفسه ذاك في أول الأمر بأنه مأمور بأن ينفق على نفسه وأهله ويذكر أيضاً في ذلك أحاديث لرسول الله صلى الله عليه وسلم (إنك إن تدع ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم عالة يتكففون الناس) وهذا صحيح ثم يمضي به الحال بعد ذلك إلى أن يمتنع من وجوه كثيرة من وجوه البر كالصدقة أو الهبة أو ما دون ذلك من الأمور اليسيرة ثم قد يصل به الحال إلى أن يبطأ أو يؤخر إنفاق الحق الواجب كالزكاة ثم قد يؤول به الأمر إلى ألا يخرج الحق الواجب ولذلك النفس أمارة بالسوء إن وافقتها في القليل طالبتك بالكثير وهذا من طبائع النفس البشرية مع وجود الإغواء والإغراء والتزيين من الشيطان ونلاحظ هنا التدرج الشيطان كما قال الله عز وجل (الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ) أي في هذا الجانب ولكنه بعد ذلك قال (وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ) لما لم يقول يعدكم الفقر والفحشاء؟ قال ويأمركم قال بعض أهل التفسير لأنه إن استجاب له في أول الأمر وترك النفقة وخاصة إذا امتنع من الحق الواجب فإنه يصبح في تصرف الشيطان ويصبح حينئذ ليس وعداً ولا إغراءاً بل أمر وإيجاب كأنه قد تسلط عليه وتحكم فيه وتمكن منه كما ورد في حديث النبي صلى الله عليه وسلم في شأن آخر في قصة الرجل الذي أخبر عنه عليه الصلاة والسلام بأنه نام عن صلاة الفجر حتى ما أيقظه حر الشمس فقال النبي في حق ذلك الرجل (ذاك رجل بال الشيطان في أذنيه) قال بعد الشراح أي تمكن منه حتى جعله موضعاً لقاذوراته وهكذا الإنسان لا ينتبه لأن الأمور تأتي بالتدرج ذكر ابن القيم كلمة في هذا السياق قال دافع الخطرة أي الخاطر من خواطر السوء قد يكون الخاطر هو الذي يمر بك مروراً خارجياً قال دافع الخطرة فإن لم تفعل صارت فكرة أي بقيت في الذهن قال دافعها فإن لم تفعل صارت شهوة نزلت من العقل إلى القلب ولذا قال ابن القيم هنا قال فحاربها لم يقل دافعها لأنها أصبحت الآن مشوبة بالمحبة واللذة والمتعة والرغبة والشهوة قال فحاربها فإن لم تفعل وقعت في الذنب فتداركه بضده أي بالتوبة والاستغفار فإن لم تفعل صار عادة لك يصعب الانتقال عنها فمن الخاطرة إلى الإدمان هكذا يتدرج الشيطان (الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ) ما هي الفحشاء؟ قلنا الفحشاء من قبل هو ما فحش أي زاد في سوءه عن الحد الذي يحتمل وهنا الفحشاء أكثر أهل العلم في مجمل ما ترد في أنها متعلقة بالوقوع في الزنا والعياذ بالله وبعض أهل العلم قال هنا بالفحشاء جعلوها تدرجاً أن الوعد الأول بالفقر هو ترك إنفاق الطيب ويأمر بالفحشاء قالوا ترك الزكاة وأداءها وبعضهم قال بالفحشاء أي الكلمة السيئة لأن الفحش من القول هو الكلام السيئ وما معنى ذلك هنا أنه يمنع المال من الفقير ثم يسيء اللفظ له فيقول له أنت كذا وأنت كذا أو ليس عندي مال أو هل ترى أنني أنفق على خلق الله أو غير ذلك مما قد يكون فيجمع سوأين لا سوءاً واحداً أو يجمع حشفاً وسوء كيلة كما يقال في المثل فوعد الشيطان إغراء وإغواء فإن مال إليه المرأ المسلم واطمئن إليه فإن ذلك مؤذن بمزيد من الموافقة له وإتباع خطواته حتى يصبح إغراءه ووسوسة أمراً نافذاً وسلوكاً مستمراً وهكذا مكمن الخطر العظيم الذي حذرت منه الآية في هذه الألفاظ الموجزة وهنا نأتي للمقابل لأن الله سبحانه وتعالى ما حرم شيئاً إلا وجعل في المباح ما يغني عن الحرام فعندما حرم الزنا أباح النكاح وعندما حرم السرقة أباح التجارة وعندما حرم الربا أباح التجارة وهكذا في كل صورة من الصور من أخذ الحلال فإن فيه غنية تروي غلته وتشبع نهبته وتروي ظمأه وتحقق رغبته ويصل إلى لذته بها لكن الشيطان يغري بأن ما في الحرام أحسن لذة وأسرع وصولاً فقد يعمل الإنسان بالتجارة ليربح لكنه سيربح بالتدرج لكن الاختلاس أو السرقة أو الغش يُعظِّم المال أو الحلف باليمين الكاذب قد يعظم المال سريعاً فيأتي الإغواء والإغراء من هذا الجانب من جانب سرعة الوصول وتعظيم تعلق النفس باللذة العاجلة التي قد يراها الإنسان من تزيين الشيطان والعياذ بالله الرازي رحمه الله في تفسيره جاء بتمثيل حسن وتصوير بديع في معنى هذه الآية فقال إن الأمور فيها طرفان ووسط وذكر هنا أن الطرف الأخير هو ترك الواجب من إنفاق المال والوقوع في الفواحش والكبائر وأن الجانب الآخر هو الإنفاق من أحسن المال وأداء الفرائض وإكثار النوافل والوسط هو الذي قد يكون على أن يكون مؤدياً للواجب في حده الأدنى هو عبر عن ذلك قال الطرف الكامل هو أن يكون بحيث يبدل كل ما يملكه في سبيل الله الجيد والرديء والطرف الفاحش الناقص لا ينفق شيئاً في سبيل الله لا الجيد ولا الرديء والأمر المتوسط أن يبخل بالجيد وينفق الرديء يقول فإذا أراد الشيطان أن ينقله إلى الطرف البعيد يبدأ أولاً بماذا؟! يقول أنفق لكن لا تنفق الأحسن الأحسن ينبغي أن يكون لك حتى تستفيد وحتى لا تحتاج إلى الناس فيبدأ بما يسمى بالوسط هنا حتى يستطيع أن ينقله إلى البعيد وكذلك يقول فالوسط هو قوله تعالى (يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ) والطرف هو (َيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ) فمن الوسط مادام من الشيطان فلا وسط لكنه وسط تقديري ينقله به إلى أسوأ ما يمكن من مخالفة أمر الله وترك الاستجابة له سبحانه وتعالى وهذا أيضاً تصوير دقيق وبديع في هذا المعنى والله عز وجل في المقابل قال (وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا) لاحظوا هنا المغفرة تقابل شيء والفضل يقابل شيء المغفرة تقابل القريب منها الذي مذكور في القرآن (َيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ) الله عز وجل إن رجعتم إليه يغفر لكم تلك الفحشاء والشيطان يعدكم الفقر والله يعدكم الفضل أي النعمة والرزق منه نلاحظ أن ما هو من الله ليس بنفس الترتيب لماذا؟! لعدة أمور، أولاً لأن المؤمن المسلم يتعلق بحق الآخرة قبل الدنيا ولذلك قدم الله له ما يتناسب مع إيمانه هو يريد المغفرة يريد الرحمة يريد النجاة في الآخرة وأما الفضل في الدنيا فأمر ثانوي أو يأتي بعده ليس هو الأصل ثم الأمر الثاني أن طبيعة هذا التدرج إذا وقع لا سمح الله في استجابة لوعد الشيطان فترك الإنفاق الجيد ثم وقع في الفحشاء فأقرب ما ينتشله من هذا ويعيده إلى الأمر الآخر هو أن يتعلق برحمة الله ومغفرته فإن أمل فيها وركن إليها وانشرح صدره بها استطاع أن يستأنف العمل الصالح لأن الله عز وجل يقول: { إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ } [هود/114] فإن جاء الاستغفار في أول المرحلة تهيأ لأن يأتي لما بعده من العمل الصالح الذي ينقله عما كان عليه من الاستجابة لإغواء الشيطان ووسواسه ثم يقول الرازي أيضاً يقول إن الشيطان في هذا أيضاً كما قلنا تدرج ثم أيضاً هنا مقارنة فإنه قال الشيطان يعدك الفقر في غد دنياك يعني يقولك إن أنفقت اليوم فستفتقر غداً وسيصبح حالك فيه كذا والرحمن يعدك المغفرة في غد عقباك لاحظ أيهما أولى وأيهما أرجح غد الدنيا أو غد الآخرة، الآخرة قال ووعد الرحمن في غد العقبى أولى بالقبول من وجوه كثيرة أن وجه الدنيا مشكوك فيه قد تنفق ويأتيك مال كما وعد النبي صلى الله عليه وسلم قال ما نقص مال من صدقة لمن كان يقينه كذلك وأما وعد الآخرة الأمر مجزوم به إن حصلت المغفرة من الله عز وجل فرحمة وإن لم تحصل فنقمة وعذاب ليس هناك مجال أن يكون هناك في هذا شك ولذلك أيضاً قال من جهة ثانية أن وجدان غد الدنيا قد يبقى المال المبخول به لكنه لا ينتفع به لماذا؟! لوجوه أخرى، المال موجود لكنه ربما يمرض فينفقه في مرضه ربما المال لم ينفقه وبقي المال لم يتلف لكنه يذهب في وجوه أخرى قد يكون في خوف فيدفع المال كله لأجل أن تسلم روحه وهكذا والوجه الثالث أنه قد يبقى المال ولا ينصرف في هذا لكنه يكون عاقبته حسرة وندامة ولا ينتفع به وينقطع لأنه سيموت وهكذا الأمر بينما هو من وعد الله وما هو من وعد الشيطان فرق ما بين السماء والأرض كما نقول ولذلك الله سبحانه وتعالى قال (وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا) الفضل هو النعمة والرزق وفضل الله عز وجل هو امتنان منه سبحانه وتعالى ولكن أيضا قال بعض أهل التفسير في الفضل إنه الفضيلة الحاصلة للنفس كأنه أيضاً يمكن أن يكون المقابلة على هذا النحو بمعنى أن العفة الحاصلة للنفس تقابل الفحشاء التي تبقى كما أنه يمكن أن يكون الفضل هو فضيلة الجود والسخاء الذي تجعله ينفق في سبيل الله سبحانه وتعالى وإذا حصلت ملكة الإنفاق زالت عن النفس هيئة الاشتغال بالدنيا والتهالك عليها وهذا هو ميدان الشيطان حب الدنيا والركون إليها هو ميدان الشيطان الأعظم فإن استطاع الإنسان بفضل الله عز وجل أن يتخلص من هذا أي من حب الدنيا لا من الاشتغال لها ولا من الأخذ المباح منها وإنما الإنشغال بها عن الآخرة هذا أصبح أمره خطيراً ولذلك يقول أهل التفسير هنا أن من استطاع أن يتحرر من ذلك أصبح بإذن الله عز وجل قادراً على الإنفاق وعلى البذل وعلى عمل الصالحات وحينئذ تصبح نفسه وروحه مع الله سبحانه وتعالى ومع طاعته ومع مرضاته ومع الحسنات التي يعد بها ومن هنا جاء هذا الأمر بمقابلة فالإنسان المؤمن ينظر إلى عاقبة الشيطان في الدنيا خسران وخذلان وفي الآخرة والعياذ بالله عذاب وعقاب ووعد الله سبحانه وتعالى فيه رزق في الدنيا أيضاً وفيه نجاه في الآخرة لم يقل الله عز وجل لنا إنه لابد أن نعيش فقراء ولابد أن نعيش محرومين بل دعانا لنكسب من رزق الله عز وجل وأن نسعى في هذا الأرض وأنه سبحانه وتعالى وعد بالتقوى بأن يفتح رزق السماء والأرض لمن اتقوه كل ذلك يدل على هذا وقلنا إن الاستغفار من أسباب { فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا } [نوح/10-11] كل هذه المعاني تدلنا على أن طيب الحياة إنما هو لطاعة الله سبحانه وتعالى والإنسان أمامه طريقان لا ثالث لهما إما أن يكون في طريق الرحمن وإما أن يكون والعياذ بالله في طريق الشيطان والمقارنة والمفارقة قد جاءت في آيات القرآن في قصة إبراهيم الخليل عليه السلام في سورة مريم لما كان يخاطب أباه بأن طاعة الرحمن يقابلها حينئذ طاعة الشيطان وأن طريق الرحمن يقابله وهكذا كما ذكر بعض أهل العلم كابن تيمية في تأليفه بين أولياء الشيطان وأولياء الرحمن المفارقة واضحة جداً ومن هنا جاءت الآيات بهذه المقابلة وختم الله جل وعلا هذه الآية بقوله (وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) فسعة فضله وجوده سبحانه وتعالى عظيمة وعلمه بخلقه وما يصلحهم عظيم أيضاً وهذا فضل من الله سبحانه وتعالى ينبغي أن يحرص الإنسان عليه ويتأمل فيه نسأل الله سبحانه وتعالى أن يوفقنا لطاعته ومرضاته وأن يعلقنا بأمره ونهيه وأن يعيذنا من وسواس الشيطان وهمزه ونفثه ولمزة وأن يجعلنا به كافرين وأن يجعلنا بالله سبحانه وتعالى مؤمنين واثقين.
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وعلينا وعلى عباد الله الصالحين أما بعد:
أنوار آية نبقى معها ونتأمل في معانيها يقول الحق جل وعلا { الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ } [البقرة/268] الآية الثامنة والستون بعد المائتين من سورة البقرة والشيطان سبق أن ذكرنا أصل اشتقاق الكلمة على أحد قولين إما من شطنا وهو بمعنى بعد والشيطان بعيد ومبعد عن رحمة الله أو منشيطا وهو المعنى الذي فيه النار والاحتراق وهو مخلوق من نار يقول الحق جل وعلا (الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ) وحتى ندرك هذا المعنى فإن الآية جاءت بعد دعاء الله سبحانه وتعالى للمؤمنين بالإنفاق من طيبات ما كسبوا ونهاهم سبحانه وتعالى أن يتيمموا الخبيث منه وينفقون وجاءت هذه الآية بعدها ولمزيد من التوضيح كذلك نذكر حديثاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم رواه الترمذي في سننه وفيه عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال (إن للشيطان لمة من ابن آدم وللملك لمة فأما لمة الشيطان فإعاد بالشر وتكذيب بالحق وأما لمة الملك فإعاد بالخير وتصديق بالحق فمن وجد ذلك فليعلم أنه من الله وليحمد الله ومن وجد الأخرى فليتعود الله من الشيطان) ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم { الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ } [البقرة/268]. هنا معنيان متعلقان بالشيطان ويقابلهما معنيين متعلقين بالله عز وجل بالنسبة للشيطان يعد الفقر يأمر بالفحشاء بالنسبة لما هو منسوب ومرتبط بالله سبحانه وتعالى (يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا) أي يكون منه فضل وهذه المقابلة هي التي تبرز دلالة معنى الآية وعظمة بلاغتها وإعجازها ما المعنى وكيف يعد الشيطان الفقر أولاً الوعد هو أمر لما يستقبل ويستخدم في الشر وفي الخير فقد تعد إنساناً بخير وقد تعده بشر ولكنه هنا في سياق الشر لما قاله النبي صلى الله عليه وسلم بأن الشيطان يعد بالشر ويكذب بالحق ولأن الفقر شر بالنسبة للإنسان وفيه عليه ضيق وضنك ما هو الفقر الذي يعد به يقول لا تنفق في سبيل الله ولا تخرج الطيب من مالك لوجه الله لماذا؟ لأن ذلك سيؤول بك إلى الفقر وسينتهي أو يفنى مالك وتصبح فقيراً وهذا من وسواس الشيطان العظيم الذي له أثر كبير وواقع حياة الناس اليوم وفي كل الأحوال يشهد بذلك فإن النفس فيها شح وبخل يؤدي إلى إمساك اليد ومنع النفقة ويبرر المرء لنفسه ذاك في أول الأمر بأنه مأمور بأن ينفق على نفسه وأهله ويذكر أيضاً في ذلك أحاديث لرسول الله صلى الله عليه وسلم (إنك إن تدع ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم عالة يتكففون الناس) وهذا صحيح ثم يمضي به الحال بعد ذلك إلى أن يمتنع من وجوه كثيرة من وجوه البر كالصدقة أو الهبة أو ما دون ذلك من الأمور اليسيرة ثم قد يصل به الحال إلى أن يبطأ أو يؤخر إنفاق الحق الواجب كالزكاة ثم قد يؤول به الأمر إلى ألا يخرج الحق الواجب ولذلك النفس أمارة بالسوء إن وافقتها في القليل طالبتك بالكثير وهذا من طبائع النفس البشرية مع وجود الإغواء والإغراء والتزيين من الشيطان ونلاحظ هنا التدرج الشيطان كما قال الله عز وجل (الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ) أي في هذا الجانب ولكنه بعد ذلك قال (وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ) لما لم يقول يعدكم الفقر والفحشاء؟ قال ويأمركم قال بعض أهل التفسير لأنه إن استجاب له في أول الأمر وترك النفقة وخاصة إذا امتنع من الحق الواجب فإنه يصبح في تصرف الشيطان ويصبح حينئذ ليس وعداً ولا إغراءاً بل أمر وإيجاب كأنه قد تسلط عليه وتحكم فيه وتمكن منه كما ورد في حديث النبي صلى الله عليه وسلم في شأن آخر في قصة الرجل الذي أخبر عنه عليه الصلاة والسلام بأنه نام عن صلاة الفجر حتى ما أيقظه حر الشمس فقال النبي في حق ذلك الرجل (ذاك رجل بال الشيطان في أذنيه) قال بعد الشراح أي تمكن منه حتى جعله موضعاً لقاذوراته وهكذا الإنسان لا ينتبه لأن الأمور تأتي بالتدرج ذكر ابن القيم كلمة في هذا السياق قال دافع الخطرة أي الخاطر من خواطر السوء قد يكون الخاطر هو الذي يمر بك مروراً خارجياً قال دافع الخطرة فإن لم تفعل صارت فكرة أي بقيت في الذهن قال دافعها فإن لم تفعل صارت شهوة نزلت من العقل إلى القلب ولذا قال ابن القيم هنا قال فحاربها لم يقل دافعها لأنها أصبحت الآن مشوبة بالمحبة واللذة والمتعة والرغبة والشهوة قال فحاربها فإن لم تفعل وقعت في الذنب فتداركه بضده أي بالتوبة والاستغفار فإن لم تفعل صار عادة لك يصعب الانتقال عنها فمن الخاطرة إلى الإدمان هكذا يتدرج الشيطان (الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ) ما هي الفحشاء؟ قلنا الفحشاء من قبل هو ما فحش أي زاد في سوءه عن الحد الذي يحتمل وهنا الفحشاء أكثر أهل العلم في مجمل ما ترد في أنها متعلقة بالوقوع في الزنا والعياذ بالله وبعض أهل العلم قال هنا بالفحشاء جعلوها تدرجاً أن الوعد الأول بالفقر هو ترك إنفاق الطيب ويأمر بالفحشاء قالوا ترك الزكاة وأداءها وبعضهم قال بالفحشاء أي الكلمة السيئة لأن الفحش من القول هو الكلام السيئ وما معنى ذلك هنا أنه يمنع المال من الفقير ثم يسيء اللفظ له فيقول له أنت كذا وأنت كذا أو ليس عندي مال أو هل ترى أنني أنفق على خلق الله أو غير ذلك مما قد يكون فيجمع سوأين لا سوءاً واحداً أو يجمع حشفاً وسوء كيلة كما يقال في المثل فوعد الشيطان إغراء وإغواء فإن مال إليه المرأ المسلم واطمئن إليه فإن ذلك مؤذن بمزيد من الموافقة له وإتباع خطواته حتى يصبح إغراءه ووسوسة أمراً نافذاً وسلوكاً مستمراً وهكذا مكمن الخطر العظيم الذي حذرت منه الآية في هذه الألفاظ الموجزة وهنا نأتي للمقابل لأن الله سبحانه وتعالى ما حرم شيئاً إلا وجعل في المباح ما يغني عن الحرام فعندما حرم الزنا أباح النكاح وعندما حرم السرقة أباح التجارة وعندما حرم الربا أباح التجارة وهكذا في كل صورة من الصور من أخذ الحلال فإن فيه غنية تروي غلته وتشبع نهبته وتروي ظمأه وتحقق رغبته ويصل إلى لذته بها لكن الشيطان يغري بأن ما في الحرام أحسن لذة وأسرع وصولاً فقد يعمل الإنسان بالتجارة ليربح لكنه سيربح بالتدرج لكن الاختلاس أو السرقة أو الغش يُعظِّم المال أو الحلف باليمين الكاذب قد يعظم المال سريعاً فيأتي الإغواء والإغراء من هذا الجانب من جانب سرعة الوصول وتعظيم تعلق النفس باللذة العاجلة التي قد يراها الإنسان من تزيين الشيطان والعياذ بالله الرازي رحمه الله في تفسيره جاء بتمثيل حسن وتصوير بديع في معنى هذه الآية فقال إن الأمور فيها طرفان ووسط وذكر هنا أن الطرف الأخير هو ترك الواجب من إنفاق المال والوقوع في الفواحش والكبائر وأن الجانب الآخر هو الإنفاق من أحسن المال وأداء الفرائض وإكثار النوافل والوسط هو الذي قد يكون على أن يكون مؤدياً للواجب في حده الأدنى هو عبر عن ذلك قال الطرف الكامل هو أن يكون بحيث يبدل كل ما يملكه في سبيل الله الجيد والرديء والطرف الفاحش الناقص لا ينفق شيئاً في سبيل الله لا الجيد ولا الرديء والأمر المتوسط أن يبخل بالجيد وينفق الرديء يقول فإذا أراد الشيطان أن ينقله إلى الطرف البعيد يبدأ أولاً بماذا؟! يقول أنفق لكن لا تنفق الأحسن الأحسن ينبغي أن يكون لك حتى تستفيد وحتى لا تحتاج إلى الناس فيبدأ بما يسمى بالوسط هنا حتى يستطيع أن ينقله إلى البعيد وكذلك يقول فالوسط هو قوله تعالى (يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ) والطرف هو (َيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ) فمن الوسط مادام من الشيطان فلا وسط لكنه وسط تقديري ينقله به إلى أسوأ ما يمكن من مخالفة أمر الله وترك الاستجابة له سبحانه وتعالى وهذا أيضاً تصوير دقيق وبديع في هذا المعنى والله عز وجل في المقابل قال (وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا) لاحظوا هنا المغفرة تقابل شيء والفضل يقابل شيء المغفرة تقابل القريب منها الذي مذكور في القرآن (َيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ) الله عز وجل إن رجعتم إليه يغفر لكم تلك الفحشاء والشيطان يعدكم الفقر والله يعدكم الفضل أي النعمة والرزق منه نلاحظ أن ما هو من الله ليس بنفس الترتيب لماذا؟! لعدة أمور، أولاً لأن المؤمن المسلم يتعلق بحق الآخرة قبل الدنيا ولذلك قدم الله له ما يتناسب مع إيمانه هو يريد المغفرة يريد الرحمة يريد النجاة في الآخرة وأما الفضل في الدنيا فأمر ثانوي أو يأتي بعده ليس هو الأصل ثم الأمر الثاني أن طبيعة هذا التدرج إذا وقع لا سمح الله في استجابة لوعد الشيطان فترك الإنفاق الجيد ثم وقع في الفحشاء فأقرب ما ينتشله من هذا ويعيده إلى الأمر الآخر هو أن يتعلق برحمة الله ومغفرته فإن أمل فيها وركن إليها وانشرح صدره بها استطاع أن يستأنف العمل الصالح لأن الله عز وجل يقول: { إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ } [هود/114] فإن جاء الاستغفار في أول المرحلة تهيأ لأن يأتي لما بعده من العمل الصالح الذي ينقله عما كان عليه من الاستجابة لإغواء الشيطان ووسواسه ثم يقول الرازي أيضاً يقول إن الشيطان في هذا أيضاً كما قلنا تدرج ثم أيضاً هنا مقارنة فإنه قال الشيطان يعدك الفقر في غد دنياك يعني يقولك إن أنفقت اليوم فستفتقر غداً وسيصبح حالك فيه كذا والرحمن يعدك المغفرة في غد عقباك لاحظ أيهما أولى وأيهما أرجح غد الدنيا أو غد الآخرة، الآخرة قال ووعد الرحمن في غد العقبى أولى بالقبول من وجوه كثيرة أن وجه الدنيا مشكوك فيه قد تنفق ويأتيك مال كما وعد النبي صلى الله عليه وسلم قال ما نقص مال من صدقة لمن كان يقينه كذلك وأما وعد الآخرة الأمر مجزوم به إن حصلت المغفرة من الله عز وجل فرحمة وإن لم تحصل فنقمة وعذاب ليس هناك مجال أن يكون هناك في هذا شك ولذلك أيضاً قال من جهة ثانية أن وجدان غد الدنيا قد يبقى المال المبخول به لكنه لا ينتفع به لماذا؟! لوجوه أخرى، المال موجود لكنه ربما يمرض فينفقه في مرضه ربما المال لم ينفقه وبقي المال لم يتلف لكنه يذهب في وجوه أخرى قد يكون في خوف فيدفع المال كله لأجل أن تسلم روحه وهكذا والوجه الثالث أنه قد يبقى المال ولا ينصرف في هذا لكنه يكون عاقبته حسرة وندامة ولا ينتفع به وينقطع لأنه سيموت وهكذا الأمر بينما هو من وعد الله وما هو من وعد الشيطان فرق ما بين السماء والأرض كما نقول ولذلك الله سبحانه وتعالى قال (وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا) الفضل هو النعمة والرزق وفضل الله عز وجل هو امتنان منه سبحانه وتعالى ولكن أيضا قال بعض أهل التفسير في الفضل إنه الفضيلة الحاصلة للنفس كأنه أيضاً يمكن أن يكون المقابلة على هذا النحو بمعنى أن العفة الحاصلة للنفس تقابل الفحشاء التي تبقى كما أنه يمكن أن يكون الفضل هو فضيلة الجود والسخاء الذي تجعله ينفق في سبيل الله سبحانه وتعالى وإذا حصلت ملكة الإنفاق زالت عن النفس هيئة الاشتغال بالدنيا والتهالك عليها وهذا هو ميدان الشيطان حب الدنيا والركون إليها هو ميدان الشيطان الأعظم فإن استطاع الإنسان بفضل الله عز وجل أن يتخلص من هذا أي من حب الدنيا لا من الاشتغال لها ولا من الأخذ المباح منها وإنما الإنشغال بها عن الآخرة هذا أصبح أمره خطيراً ولذلك يقول أهل التفسير هنا أن من استطاع أن يتحرر من ذلك أصبح بإذن الله عز وجل قادراً على الإنفاق وعلى البذل وعلى عمل الصالحات وحينئذ تصبح نفسه وروحه مع الله سبحانه وتعالى ومع طاعته ومع مرضاته ومع الحسنات التي يعد بها ومن هنا جاء هذا الأمر بمقابلة فالإنسان المؤمن ينظر إلى عاقبة الشيطان في الدنيا خسران وخذلان وفي الآخرة والعياذ بالله عذاب وعقاب ووعد الله سبحانه وتعالى فيه رزق في الدنيا أيضاً وفيه نجاه في الآخرة لم يقل الله عز وجل لنا إنه لابد أن نعيش فقراء ولابد أن نعيش محرومين بل دعانا لنكسب من رزق الله عز وجل وأن نسعى في هذا الأرض وأنه سبحانه وتعالى وعد بالتقوى بأن يفتح رزق السماء والأرض لمن اتقوه كل ذلك يدل على هذا وقلنا إن الاستغفار من أسباب { فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا } [نوح/10-11] كل هذه المعاني تدلنا على أن طيب الحياة إنما هو لطاعة الله سبحانه وتعالى والإنسان أمامه طريقان لا ثالث لهما إما أن يكون في طريق الرحمن وإما أن يكون والعياذ بالله في طريق الشيطان والمقارنة والمفارقة قد جاءت في آيات القرآن في قصة إبراهيم الخليل عليه السلام في سورة مريم لما كان يخاطب أباه بأن طاعة الرحمن يقابلها حينئذ طاعة الشيطان وأن طريق الرحمن يقابله وهكذا كما ذكر بعض أهل العلم كابن تيمية في تأليفه بين أولياء الشيطان وأولياء الرحمن المفارقة واضحة جداً ومن هنا جاءت الآيات بهذه المقابلة وختم الله جل وعلا هذه الآية بقوله (وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) فسعة فضله وجوده سبحانه وتعالى عظيمة وعلمه بخلقه وما يصلحهم عظيم أيضاً وهذا فضل من الله سبحانه وتعالى ينبغي أن يحرص الإنسان عليه ويتأمل فيه نسأل الله سبحانه وتعالى أن يوفقنا لطاعته ومرضاته وأن يعلقنا بأمره ونهيه وأن يعيذنا من وسواس الشيطان وهمزه ونفثه ولمزة وأن يجعلنا به كافرين وأن يجعلنا بالله سبحانه وتعالى مؤمنين واثقين.