المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : افاق رمضانية


عاشقة الفردوس
06-28-2015, 09:49 PM
افاق رمضان \1

الحمد لله الذي جعل من مواسم الطاعات سلالم لبلوغ طاعته ورضاه , وإن أعظم ما ألفاه الله عبيده هو شهر الرحمات والهبات شهر رمضان المبارك ذلكم الشهر الذي كان يخرج المصطفى صلى الله عليه وسلم قبل دخوله ويقول: ( أتاكم شهر رمضان شهر مبارك فرض الله عليكم صيامه وقيامه تفتح فيه أبواب الجنة وتغلق فيه أبواب النيران, وتغل فيه مردة الشياطين وفيه ليلة خير من ألف شهر من حرمها حرم خيراً كثيراً ) .

إنه الشهر الذي تقوض فيه الشياطين أروقة العار والعصيان والزيغ فتغلق فيه أبواب الجحيم , لتكن أبواب الجنة الثمانية مشرعة للمسابقين إلى الخيرات , فيكن لله عتقاء من النار كل ليلة , وتصعد الملائكة على رأس أيام الشهر المبارك لتقوم بحق الدعوة إلى الله صادعة بقولٍ جزل فصل ( يا باغي الخير أقبل , ويا باغي الشر أقصر).

فتسجيب النفوس المطمئنة لهذا النداء المليء بدعوات الحق واليقين , فتقدم على أبواب الخيرات , وتلجها على عجل وبلا حاجة لبواب فالضيوف كثر.

والشعار: لن يسبقني إلى الله أحد , فذاك الصائم المنكسر , وعلى عتبات المساجد المتهجد الخاشع , وعند بيوت الفقراء المنفق المخلص , وعلى أريكة البيت قارئ القرآن المتدبر ,وبين الأسحار مستغفر منيب , وفي ثتايا أولئك نجد الذكر والأنثى والصغير والكبير على حد سواء .

ومن هذه الدوائر الروحانية وإثر تلكم النفائس الثمينة أجدها فرصة أن أخلص إليكم بآفاق ليست بالغريبة عن عارفين أمثالكم , ولكنها تأتي لتنظم واقعنا الرمضاني.

ومن ثم نحاول أن نتسامى معها حتى نعيش الأفق الرمضاني المقصود , وتتحقق فينا غاية الشارع جل وجلاله .

ونحن إذ نخص رمضان بها , فهو الذي لا تخفى عنا فضائله , ولا يمحي من تصورنا خصائصه الفريدة إذ من لم يكن عازم على استغلاله في بلوغ الآفاق الرمضانية فقد حرم نفسه من فرصة نجد في ديننا أنها من أعظم الفرص التي لا تسنح لكثير من الخلق.

وهذا سلفنا الصالح كما ذكر المعلى بن الفضل رحمه الله يدعون الله قبل رمضان بستة أشهر أن يبلغهم إياه .

وقال يحيى بن كثير رحمه الله كان من دعائهم : اللهم سلمني لرمضان , وسلم لي رمضان , وتسلمه مني متقبلاً .

وبإذن الله سوف نلقي الضوء على آفاق رمضانية عدة آفاق مع الجوارح , وآفاق مع المهام , وأخرى مع الغايات .

والله أسأل أن يلهمنا صوابنا ورشدنا , وأن يوفقنا للعمل الصالح , ويجعل ما سطرناه وأورثناه عباده من الباقيات الصالحات .





افاق رمضان \ 2

حين تسمو نفس المؤمن في أجواء وروحانية رمضان فلا تلبث إلا أن يكون أثر ذلك في الجوارح لاشك , وقد قال صلى الله عليه وسلم : ( من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه ) .

وهنا يأتي معنى الصوم الحقيقي في ضبط الجوارح , ومن ثم أطرها على الحق , حتى وإن كان الصائم من ظُلم وأُخذ حقه فإنه يستمر في مدرسة الحلم وضبط النفس والأعصاب , ففي الصحيحين عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب فإن سابه أحد أو قاتله فليقل إني امرؤ صائم ) .

إن الصائم الرباني له مع جوارحه في رمضان دورة تدريبية في توجيهها التوجيه الصحيح , وهي فرصة من الفطنة استباقها : وإن الجوارح مفاتيح خير للمؤمن إذا وُفق في كفها عما يُغضب المولى جل وعلا ومن ثم جاهد نفسه لإيجاد البديل الناجع فحري أن يصف مصاف الأولياء .

ونعجب حقاً ممن بلغه الله الشهر , وأتم عليه نعمته بوافر الصحة والقوة , وقد أخذت نفسه زمناً مع المعصية والعادة السيئة , وقد تردد في قرار لوقف ذلك لأسباب عدة, ولكنه لم يخالجه أن يستوحي معاني الشهر المبارك : ليجعلها بداية محرقة لنهاية مشرقة (بإذن الله)..

إنها سؤالات واستفهامات أوجهها لنفسي أولاً , ولإخواني وأخواتي ثانياً عبر أثير رمضان الروحاني.

أقول : ألا يحين لمن أراد أن يرقى بسمعه للقرآن , وأطايب الكلام أن يتنغم بآيات الذكر , وأروع التلاوات ليحلها محل مزامير الشيطان , وفاكهة المفاليس ؟.

إلى ذلك الذي لطالما أشغلته المقاطع والمناظر والصور والأفلام والمسلسلات الحنرمة عن التفكر , وتفرغ القلب لله , ألا يجد من هذا الشهر عزيمة ليتلذذ بمطالعة المصحف الكريم , والتفكر في آلاء الله المجيد ثم ليقصر نفسه عن الباطل قصراً , ويجاهد ذاته في ذلك .

أنت يا من لم يقف لسانه عن الغيبة والشماتة , وعن الهراء والمجادلة.. أوقن أنك ستجدها فرصة لترطيب لسانك بذكر الله فيكون ذاكراً شاكراً , ألا تجعل هذا اللسان الذي لاطالما أشغلك والآخرين عن الخير فلا يلبث حتى يكون تالياً لكتاب الله , يتغنى بآيات الذكر الحكيم ؟.

إلى ذلكم الذي لا يعلم ما أكل من حرام أم حلال , فقد يكن الجسد نبت من سحت وهو لايعلم , يريد ليتخلص من ذلك منذ علم الحكم , ولكن الشيطان طوق عقله , والدنيا أغرته بالأماني الزائفة , والخدع الباطلة ولكن أتت الهبة من الله حين اُعتقلت الشياطين , وبات يستمع لنداء الملك (يا باغي الشر أقصر ) فيطهر مأكله ومشربه , ويستأنفها تجارة مع الله , ولكن بعملة جديدة تقوم على البر و الإحسان .

أيا من أشغل فكره وجسده بكثير من الشواغل الدنيوية , والهوامش الحياتية أما يرنو لأن يستعيد قواه الداخلية فيتوجه للصالح من العمل , والباقي الحسن من الأثر , فيجد رمضان مؤيداً ونصيراً له , فيألف الخير ويألفه , ويرسم اسمه مع السابقين إلى الخيرات ! حتماً سيجدها فرصة لتوظيف مهجته لله .

قف! يا من أشغلته شهوته من الحق , وأوردته غريزته أوحال الغي والضلال فقد أدركت رمضان , واستطعت أن تكف بعض ملاذ النفس وحاجته نهار الشهر , إنها فرصتك لأن تنفك من ربقة الفواحش والملهيات , وتتخذ من المسجد سكناً , ومن القرآن صديقاً .

وهناك الكثير من النداءات الربانية , والآفاق الرمضانية لتوجيه جوارحنا وإراداتنا صوب مراد الله وغايته في هذا الشهر الكريم , وإن رمضان يحمل كثير من مراكز التدريب التي تؤهل من يلتحق فيها أن يمتلك المهارة الكافية لممارسة حياته على ما يرضي الله .



افاق رمضان \ 3

ومع نداءات الرحمن الرمضانية , والحوافز والغايات النبيلة التي سرت في أجواف العظماء من المخلصين لتكوّن أنموذجاً فريداً مما يريده الله من عبيده , ومما أراده-سبحانه- من هذا الشهر الكريم ..حيث قال جل من قائل : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ , ومن هنا من هذه الآية المشرعة يظهر لنا الغاية العظمى من هذا الشهر النبيل ..

إنه تحصل التقوى ,نعم التقوى التي سعت إليها نفوس المخبتين , وأرادتها أرواح القانتين , وبذلت النفوس المطمئنة لها المهج في سبيل بلوغ النفس لتقوى الله , وما هي تقوى الله ؟ سهل جواب هذا السؤال ! لكنه حين يعرض على العارفين يبدو الجواب له طريقة أخرى .. العارفون هم من يدرك هذه التقوى , ويدرك مراميها .. أوليس كان أحدهم يُقال له :اتق الله ..فيُعاد في بيته شهر , لكن ذلك لم يأت من الفراغ ، بل كانت إثر دراية بغايات اللطيف الخبير .

إننا نقف مع شهر عظيم , شهر عظمه الله بين أشهر العام , واختاره ليكون ميدان عظيم يضم ميادين في التسابق إلى الخيرات يعلمها الموفق , ويجهلها غيره .. إنا بصدد التعرض لشيء من تلكم الغايات المتضمنة في الغاية العظمة (تقوى الله ) , ومن هذه الغايات:

- حصول القرب والالتصاق بالقرآن , ومدارسته , وتلاوته , وتدبره , والنظر فيه , وهو في كل وقت , ولكنه مع رمضان له مزية خاصة , حتى مع المصطفى –صلى الله عليه وسلم- فعن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ قال: كان النبي –صلى الله عليه وسلم-أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل، وكان جبريل يلقاه في كلّ ليلة من رمضان فيدارسه القرآن، فلَرسولُ الله حين يلقاه جبريل أجود بالخير من الريح المرسلة. متفق عليه .

وإن هذا يتطلب جهداً وثيقا ممن يروم هذا الأمر , فإنه يحدد أثمن الأوقات لذلك , لا سيما التدبر الذي يحصل به حياة القلب فيجعل هناك نظرات روحانية في ثنايا الآيات الكريمة , ويحاول جاهداً استشعار هذه الغاية , ومحاولة بلوغها . وإن للقرآن مع الصيام علاقة وطيدة حيث تلازم نزول القرآن في شهر رمضان , وحصول الثواب العظيم للقارئ الصائم . قال –جل وعلا- :{شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ ... }.

وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :" الصيام والقرآن يشفعان للعبد ، يقول الصيام : رب إني منعته الطعام والشهوات بالنهار فشفعني فيه ، ويقول القرآن : منعته النوم بالليل فيشفعان".صححه الألباني .

- ومن غايات هذا الشهر حصول المؤمن على رتبة عالية في حسن الخلق , والعفو والصفح , وكظم الغيظ , وإن المؤمن يضبط بذلك حياته كلها حين يكبح جماح نفسه عن كل جائحة تتصف بها الذات , ومن ثم فإنها تسمو وتسمو لتعانق نائفات الذوق , وفن التعامل , ففي الصحيحين عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" إذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب فإن سابه أحد أو قاتله فليقل إني امرؤ صائم" .

ويلحق بهذه الغاية صلة الرحم , ووصلها لا سيما إذا كان ثمة تقاطع أو تنافر فإنها فرصة تسنح للمؤمن باغي التصالح والمغافرة , والذي يقدم مراضي الله على أهواء نفسه , ويلحق بذلك تصافي القلوب من وحر الصدور , ولما يفسد ذلك على العامل أجره ,عن أبي موسى الأشعري عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-:« قال إن الله ليطلع في ليلة النصف من شعبان فيغفر لجميع خلقه إلا لمشرك أو مشاحن» صحيح ابن ماجه .

وقد ورد كذلك في يومي الاثنين والخميس , قال –عليه الصلاة والسلام- " ترفع الأعمال إلى الله تعالى كل يوم اثنين وخميس من كل أسبوع فيغفر الله لمن لا يشرك به شيئا إلا المتشاحنان أي المتخاصمان فيقول الله تعالى لملائكته وهو أعلم بحالهم دعوهم حتى يصطلحا فإن ماتا على ذلك ولم يصطلحا لم ترفع لهما أعمال",وهذا دليل على رجوع العمل على صاحبه مهما بلغ صلاحه إذا كانت ثمة تنافرات وتشاحنات في الأنفس لاسيما إذا لحقها التقاطع والتدابر , وإن رمضان يأتي ليكون من غاياته إصلاح الذوات , واستئصال سوء الخلق وحب الذات من شأفته ليغادر بها إلى مكان سحيق فتتربى النفس المؤمنة على التسامح والتواد والتآلف .

- وكان من الغايات النبيلة حصول التكافل بين أفراد الأمة الواحدة فهذا تفطير الصائمين , وهذا ميدان الإنفاق , والصدقة , بل وكان المصطفى –صلى الله عليه وسلم – يجود بماله , وأجود ما يكون حين يلقاه جبريل في رمضان يدارسه القرآن , وكان أجود من الريح المرسلة , وقد شرعت زكاة الفطر , وأُوجب أداؤها قبل صلاة العيد حتى يتسنى لذوي الحاجة الفرح بالعيد مع إخوانهم , إنها رسائل ضمنية تدعونا للوقوف بجانب المحتاجين وغيرهم لا سيما الذين يتكففون , ولا يسألون الناس إلحافاً .

- وإننا نقف مع تلكم الغاية التي افتتحنا بجزء منها حديثنا , وهي حصول التقوى , وولوج أبواب والخير , والنيل من طرائق البر , والسلامة من كل إثم وقطيعة , وقد ورد في الخبر من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:( إذا جاء رمضان فتحت أبواب الجنة وغلِّقت أبواب النار وصفدت الشياطين ) رواه البخاري ومسلم، وفي رواية أخرى في صحيح البخاري قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:( إذا دخل شهر رمضان فتحت أبواب الجنة، وغلقت أبواب جهنم، وسلسلت الشياطين ).

ونحن إذا عددنا أبواب الجنة الثمانية نجد توافر الأعمال التي تهيء المؤمن لولوج الجنة من أي باب أراد , وأبواب الجنة كما ورد :( الصلاة-الصدقة-الجهاد-الصيام-الذكر-الحج(العمرة)-البر-كظم الغيظ ) , وهنا يوضح كيف يستطيع المؤمن أن يبلغ إلى هذه الغاية , وهو يرى ميادين البر المتوافرة في هذا الشهر المبارك . وما أجمل أن يعد المؤمن ذاته ليحقق مرادات الشارع-تبارك وتعالى- التي من أسماها بلوغ التقوى , وفراغ القلب لله –عزوجل- .

أقول وفي نهاية مطافنا من خلال غايات هذا الشهر : وإن كنا لا نستطيع الارتقاء لبلوغ الغايات المبتغاة فلا أقل أن نتذكر هذا الحديث الذي قال فيه المصطفى –صلى الله عليه وسلم- في جزء من حديث طويل :" أتاني جبريل فقال : يا محمد ! من أدرك شهر رمضان فمات فلم يُغفر له فأدخل النار فأبعده الله قل : آمين . فقلت : آمين " . صححه الشيخ الألباني رحمه الله .

وإن هذه الغاية ليسيرة على من يسرها الله له , وهي مما ذرفت له أدمع المتهجدين , وسمت إليه أرواح العاكفين خوفاً وفرطاً من قول الحق-تبارك وتعالى- :(وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ ) الأعراف 179.

أسأل الله لي ولكم المغفرة والتوبة النصوح , وأسأله جل وعلا برحمته أن يسدل علينا ستره , وأن يغفر لنا الزلل , وأن يجعلنا الله مع المتقين , فلقد قال الله-جل وعلا-:".. إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ " المائدة27.. آمين .







الفاق رمضان \ 4

ومع نداءات الرحمن الرمضانية , والحوافز والغايات النبيلة التي سرت في أجواف العظماء من المخلصين لتكوّن أنموذجاً فريداً مما يريده الله من عبيده , ومما أراده-سبحانه- من هذا الشهر الكريم ..حيث قال جل من قائل : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ , ومن هنا من هذه الآية المشرعة يظهر لنا الغاية العظمى من هذا الشهر النبيل ..

إنه تحصل التقوى ,نعم التقوى التي سعت إليها نفوس المخبتين , وأرادتها أرواح القانتين , وبذلت النفوس المطمئنة لها المهج في سبيل بلوغ النفس لتقوى الله , وما هي تقوى الله ؟ سهل جواب هذا السؤال ! لكنه حين يعرض على العارفين يبدو الجواب له طريقة أخرى .. العارفون هم من يدرك هذه التقوى , ويدرك مراميها .. أوليس كان أحدهم يُقال له :اتق الله ..فيُعاد في بيته شهر , لكن ذلك لم يأت من الفراغ ، بل كانت إثر دراية بغايات اللطيف الخبير .

إننا نقف مع شهر عظيم , شهر عظمه الله بين أشهر العام , واختاره ليكون ميدان عظيم يضم ميادين في التسابق إلى الخيرات يعلمها الموفق , ويجهلها غيره .. إنا بصدد التعرض لشيء من تلكم الغايات المتضمنة في الغاية العظمة (تقوى الله ) , ومن هذه الغايات:

- حصول القرب والالتصاق بالقرآن , ومدارسته , وتلاوته , وتدبره , والنظر فيه , وهو في كل وقت , ولكنه مع رمضان له مزية خاصة , حتى مع المصطفى –صلى الله عليه وسلم- فعن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ قال: كان النبي –صلى الله عليه وسلم-أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل، وكان جبريل يلقاه في كلّ ليلة من رمضان فيدارسه القرآن، فلَرسولُ الله حين يلقاه جبريل أجود بالخير من الريح المرسلة. متفق عليه .

وإن هذا يتطلب جهداً وثيقا ممن يروم هذا الأمر , فإنه يحدد أثمن الأوقات لذلك , لا سيما التدبر الذي يحصل به حياة القلب فيجعل هناك نظرات روحانية في ثنايا الآيات الكريمة , ويحاول جاهداً استشعار هذه الغاية , ومحاولة بلوغها . وإن للقرآن مع الصيام علاقة وطيدة حيث تلازم نزول القرآن في شهر رمضان , وحصول الثواب العظيم للقارئ الصائم . قال –جل وعلا- :{شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ ... }.

وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :" الصيام والقرآن يشفعان للعبد ، يقول الصيام : رب إني منعته الطعام والشهوات بالنهار فشفعني فيه ، ويقول القرآن : منعته النوم بالليل فيشفعان".صححه الألباني .

- ومن غايات هذا الشهر حصول المؤمن على رتبة عالية في حسن الخلق , والعفو والصفح , وكظم الغيظ , وإن المؤمن يضبط بذلك حياته كلها حين يكبح جماح نفسه عن كل جائحة تتصف بها الذات , ومن ثم فإنها تسمو وتسمو لتعانق نائفات الذوق , وفن التعامل , ففي الصحيحين عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" إذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب فإن سابه أحد أو قاتله فليقل إني امرؤ صائم" .

ويلحق بهذه الغاية صلة الرحم , ووصلها لا سيما إذا كان ثمة تقاطع أو تنافر فإنها فرصة تسنح للمؤمن باغي التصالح والمغافرة , والذي يقدم مراضي الله على أهواء نفسه , ويلحق بذلك تصافي القلوب من وحر الصدور , ولما يفسد ذلك على العامل أجره ,عن أبي موسى الأشعري عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-:« قال إن الله ليطلع في ليلة النصف من شعبان فيغفر لجميع خلقه إلا لمشرك أو مشاحن» صحيح ابن ماجه .

وقد ورد كذلك في يومي الاثنين والخميس , قال –عليه الصلاة والسلام- " ترفع الأعمال إلى الله تعالى كل يوم اثنين وخميس من كل أسبوع فيغفر الله لمن لا يشرك به شيئا إلا المتشاحنان أي المتخاصمان فيقول الله تعالى لملائكته وهو أعلم بحالهم دعوهم حتى يصطلحا فإن ماتا على ذلك ولم يصطلحا لم ترفع لهما أعمال",وهذا دليل على رجوع العمل على صاحبه مهما بلغ صلاحه إذا كانت ثمة تنافرات وتشاحنات في الأنفس لاسيما إذا لحقها التقاطع والتدابر , وإن رمضان يأتي ليكون من غاياته إصلاح الذوات , واستئصال سوء الخلق وحب الذات من شأفته ليغادر بها إلى مكان سحيق فتتربى النفس المؤمنة على التسامح والتواد والتآلف .

- وكان من الغايات النبيلة حصول التكافل بين أفراد الأمة الواحدة فهذا تفطير الصائمين , وهذا ميدان الإنفاق , والصدقة , بل وكان المصطفى –صلى الله عليه وسلم – يجود بماله , وأجود ما يكون حين يلقاه جبريل في رمضان يدارسه القرآن , وكان أجود من الريح المرسلة , وقد شرعت زكاة الفطر , وأُوجب أداؤها قبل صلاة العيد حتى يتسنى لذوي الحاجة الفرح بالعيد مع إخوانهم , إنها رسائل ضمنية تدعونا للوقوف بجانب المحتاجين وغيرهم لا سيما الذين يتكففون , ولا يسألون الناس إلحافاً .

- وإننا نقف مع تلكم الغاية التي افتتحنا بجزء منها حديثنا , وهي حصول التقوى , وولوج أبواب والخير , والنيل من طرائق البر , والسلامة من كل إثم وقطيعة , وقد ورد في الخبر من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:( إذا جاء رمضان فتحت أبواب الجنة وغلِّقت أبواب النار وصفدت الشياطين ) رواه البخاري ومسلم، وفي رواية أخرى في صحيح البخاري قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:( إذا دخل شهر رمضان فتحت أبواب الجنة، وغلقت أبواب جهنم، وسلسلت الشياطين ).

ونحن إذا عددنا أبواب الجنة الثمانية نجد توافر الأعمال التي تهيء المؤمن لولوج الجنة من أي باب أراد , وأبواب الجنة كما ورد :( الصلاة-الصدقة-الجهاد-الصيام-الذكر-الحج(العمرة)-البر-كظم الغيظ ) , وهنا يوضح كيف يستطيع المؤمن أن يبلغ إلى هذه الغاية , وهو يرى ميادين البر المتوافرة في هذا الشهر المبارك . وما أجمل أن يعد المؤمن ذاته ليحقق مرادات الشارع-تبارك وتعالى- التي من أسماها بلوغ التقوى , وفراغ القلب لله –عزوجل- .

أقول وفي نهاية مطافنا من خلال غايات هذا الشهر : وإن كنا لا نستطيع الارتقاء لبلوغ الغايات المبتغاة فلا أقل أن نتذكر هذا الحديث الذي قال فيه المصطفى –صلى الله عليه وسلم- في جزء من حديث طويل :" أتاني جبريل فقال : يا محمد ! من أدرك شهر رمضان فمات فلم يُغفر له فأدخل النار فأبعده الله قل : آمين . فقلت : آمين " . صححه الشيخ الألباني رحمه الله .

وإن هذه الغاية ليسيرة على من يسرها الله له , وهي مما ذرفت له أدمع المتهجدين , وسمت إليه أرواح العاكفين خوفاً وفرطاً من قول الحق-تبارك وتعالى- :(وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ ) الأعراف 179.

أسأل الله لي ولكم المغفرة والتوبة النصوح , وأسأله جل وعلا برحمته أن يسدل علينا ستره , وأن يغفر لنا الزلل , وأن يجعلنا الله مع المتقين , فلقد قال الله-جل وعلا-:".. إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ " المائدة27.. آمين .

عبدالله احمد
06-11-2016, 08:13 PM
بارك الله بك وجزاكم الله الخير

مها يوسف
06-13-2016, 05:58 PM
غاليتي عاشقة الفردوس
شكرا لك على الموضوع القيم
الف شكر

هيام
06-14-2016, 05:30 AM
شاكرهه جهودك

الملكية
06-14-2016, 04:31 PM
جُزَّاكَ اللهَ خَيْرُ الْجَزَاءِ وَنَفَعَ بِكَ ،،*
عَلَى الطَّرْحِ الْقَيِّمِ وَجَعَلَهُ فِي مِيزَانِ حَسَنَاتِكَ ،،
وَأَلْبَسُكَ لِبَاسَ التَّقْوَى وَالْغُفْرَانِ وَجَعَلَكَ مِمَّنْ يُظِلُّهُمْ اللَّهُ*
فِي يَوْمِ لَا ظِلَّ إلاظله وَعُمَرُ اللهُ قَلْبُكَ بِالْإيمَانِ ،،
عَلَى طَرْحِكَ الْمَحْمَلِ بِنَفْحَاتٍ إيمانية وَلَا حَرَّمَكَ الاجر ,,*
تحيتي لِسُمُّوكَ