عاشقة الفردوس
07-04-2015, 11:47 PM
ليالي رمضان.. الجد والهزل
عن مالك، بلغه أن عيسى ابن مريم عليه السلام قال: "لا تكثروا الكلام بغير ذكر الله، فتقسو قلوبكم، وإن القلب القاسي بعيد من الله، ولكن لا تعلمون، ولا تنظروا في ذنوب الناس كأنكم أربابٌ، وانظروا في ذنوبكم كأنكم عبيدٌ، فإنما الناس مبتلًى ومعافًى؛ فارحموا أهل البلاء، واحمدوا الله على العافية".
إنه لمن الاستخفاف بالمروءة، والاستهانة بالكرامة: إفراط المرء في اللَّغْو والضحك، وإضاعة الوقت في سفاسف الأمور ومحقرات النوادر والأقاصيص، وإنه لخُلقٌ سخيف قد عمَّ كثيرًا من طوائف لا ترعى للكرامة حرمةً، ولا للوقت ذمة، ولا للمجالس حقًّا، وأسخفُ من السُّخْفِ أن يكون ذلك الهراءُ من القول والفعل في موسم الخيرات، وميقات البر والبركات، وميدان السباق لقوم يعقلون، في شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدًى للناس، وبينات من الهدى والفرقان.
مر الحسنُ بقوم يضحكون في شهر رمضان، فقال: يا قوم، إن الله جعل رمضان مضمارًا لخلقه، يتسابقون فيه إلى رحمته، فسبق أقوام ففازوا، وتخلَّف أقوام فخابوا، فالعجب من الضاحك اللاهي في يوم فاز فيه السابقون، وخاب فيه المتخلِّفون، أمَا والله لو كُشِفَ الغطاء، لشَغلَ محسنًا إحسانُه، ومسيئًا إساءتُه.
ولست أقصد أن يعمر المرء أوقاته كلَّها بالجد والنشاط، فإن للقلوب مللاً، وللنفوس سآمة، وللأرواح آلامًا، إذا عرتْ كانت الحياة ثقيلةً مريرةً أشدَّ ما تكون محتاجة إلى دعابة تُسرِّي عنها الهمَّ، وتكشف الغمَّ، غير أنه لا ينبغي أن يطغى المزاحُ فيخرج عن حدِّه، وإلا انقلب شرًّا ووبالاً، وما مثلُ الفُكاهة والمزحِ إلا كمثل الملح للطعام، والدواء للسقام، قال سعيد بن العاص لابنه: اقتَصِدْ في مزحِك؛ فإن الإفراط فيه يَفضُّ عنك المؤانسين، ويُوحِشُ منك المصاحبين.
وإننا لنرى في الشمائل المحمدية أنه صلى الله عليه وسلم كان يمزحُ ويَقتصِدُ في المزاح، ولا يقول إلا حقًّا، وإليك بعضَ الشواهد في هذا الباب؛ عسى أن تكون نبراسًا منيرًا، وعلمًا هاديًا لمن فرَّط وغلا فانقبض صدره، وكثُرُ همُّه، فلم يجد له فرجًا، ولمن اشتَطَّ وأسرف فخسر وقته وكرامته ثم لم يجدْ منهما عوضًا.
جاء في الصحيح عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: إن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليُخالِطُنا حتى يقول لأخ لي صغير: ((يا أبا عمير، ما فعل النُّغَيْرُ؟)) (والنُّغَيْرُ طائر صغير أحمر المنقار)، وفي الشمائل أنه صلى الله عليه وسلم قال لأنس: ((يا ذا الأذنين)) يمازحه، وأن رجلاً جاء يستحمله فقال له صلى الله عليه وسلم: ((إني حاملُك على ولد الناقة؟))، فقال: يا رسول الله، ما أصنع بولد الناقة؟! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((وهل تلد الإبلَ إلا النُّوقُ؟))، وفي الشمائل أيضًا أن رجلاً من أهل البادية كان اسمه زاهرًا، وكان يُهدِي إلى النبي صلى الله عليه وسلم هَديَّةً من البادية، فيجهزه النبي صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يخرج، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إن زاهرًا باديتُنا، ونحن حاضروه))، وكان يحبه، وكان رجلاً دميمًا، فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم يومًا وهو يبيع متاعَه، فاحتضنه من خلفه - وهو لا يبصره - فقال: من هذا؟ أرسلني، فالتفت فعرف النبيَّ صلى الله عليه وسلم، فجعل لا يألو ما ألصق ظهره بصدر النبي صلى الله عليه وسلم حين عرَفَه، فجعل النبيُّ صلى الله عليه وسلم يقول: ((مَن يشتري هذا العبد؟))، فقال: يا رسول الله، إذًا والله تجدُني كاسدًا، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لكن عندَ الله لست بكاسدٍ))، أو قال: ((أنت عند الله غالٍ)).
وهذا مسلم يروي في صحيحه عن حنظلة بن ربيع، قال: لَقِيني أبو بكر رضي الله عنه فقال: كيف أنت يا حنظلة؟ فقلت: نافَقَ حنظلة! قال: سبحان الله! ما تقول؟ قلت: نكون عند رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكِّرُنا بالجنة والنار كأنا رأي عين، فإذا خرجنا من عنده عافسْنا (لاعبنا) الأزواجَ والأولاد والضَّيْعات (المعايش)؛ نسينا كثيرًا، قال أبو بكر: فوالله إنا لنلقى مثل هذا، فانطلقت أنا وأبو بكر حتى دخلنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: نافق حنظلةُ يا رسول الله! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((وما ذاك؟))، قلت: يا رسول الله، نكون عندك تذكِّرُنا بالنار والجنة كأنا رأي العين، فإذا خرجنا من عندك عافسنا الأزواج والأولاد والضَّيْعاتِ؛ نسينا كثيرًا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((والذي نفسي بيده، أن لو تدومون على ما تكونون عليه عندي وفي الذِّكر، لصافحتكم الملائكة على فُرُشِكم وفي طرقكم، ولكن يا حنظلةُ، ساعة وساعة)) ثلاث مرات.
ففي هذه الأحاديث أدلة واضحة على جواز المزاح والملاطفة في حدود الأدب والاعتدال، فعسى أن يثوب قوم إلى رشدهم، ويهتدوا بهدي نبيهم صلوات الله وسلامه عليه، في حسن أدبه، وكرم شمائله، وجميل معاملته؛ ? لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا ? [الأحزاب: 21].
عن مالك، بلغه أن عيسى ابن مريم عليه السلام قال: "لا تكثروا الكلام بغير ذكر الله، فتقسو قلوبكم، وإن القلب القاسي بعيد من الله، ولكن لا تعلمون، ولا تنظروا في ذنوب الناس كأنكم أربابٌ، وانظروا في ذنوبكم كأنكم عبيدٌ، فإنما الناس مبتلًى ومعافًى؛ فارحموا أهل البلاء، واحمدوا الله على العافية".
إنه لمن الاستخفاف بالمروءة، والاستهانة بالكرامة: إفراط المرء في اللَّغْو والضحك، وإضاعة الوقت في سفاسف الأمور ومحقرات النوادر والأقاصيص، وإنه لخُلقٌ سخيف قد عمَّ كثيرًا من طوائف لا ترعى للكرامة حرمةً، ولا للوقت ذمة، ولا للمجالس حقًّا، وأسخفُ من السُّخْفِ أن يكون ذلك الهراءُ من القول والفعل في موسم الخيرات، وميقات البر والبركات، وميدان السباق لقوم يعقلون، في شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدًى للناس، وبينات من الهدى والفرقان.
مر الحسنُ بقوم يضحكون في شهر رمضان، فقال: يا قوم، إن الله جعل رمضان مضمارًا لخلقه، يتسابقون فيه إلى رحمته، فسبق أقوام ففازوا، وتخلَّف أقوام فخابوا، فالعجب من الضاحك اللاهي في يوم فاز فيه السابقون، وخاب فيه المتخلِّفون، أمَا والله لو كُشِفَ الغطاء، لشَغلَ محسنًا إحسانُه، ومسيئًا إساءتُه.
ولست أقصد أن يعمر المرء أوقاته كلَّها بالجد والنشاط، فإن للقلوب مللاً، وللنفوس سآمة، وللأرواح آلامًا، إذا عرتْ كانت الحياة ثقيلةً مريرةً أشدَّ ما تكون محتاجة إلى دعابة تُسرِّي عنها الهمَّ، وتكشف الغمَّ، غير أنه لا ينبغي أن يطغى المزاحُ فيخرج عن حدِّه، وإلا انقلب شرًّا ووبالاً، وما مثلُ الفُكاهة والمزحِ إلا كمثل الملح للطعام، والدواء للسقام، قال سعيد بن العاص لابنه: اقتَصِدْ في مزحِك؛ فإن الإفراط فيه يَفضُّ عنك المؤانسين، ويُوحِشُ منك المصاحبين.
وإننا لنرى في الشمائل المحمدية أنه صلى الله عليه وسلم كان يمزحُ ويَقتصِدُ في المزاح، ولا يقول إلا حقًّا، وإليك بعضَ الشواهد في هذا الباب؛ عسى أن تكون نبراسًا منيرًا، وعلمًا هاديًا لمن فرَّط وغلا فانقبض صدره، وكثُرُ همُّه، فلم يجد له فرجًا، ولمن اشتَطَّ وأسرف فخسر وقته وكرامته ثم لم يجدْ منهما عوضًا.
جاء في الصحيح عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: إن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليُخالِطُنا حتى يقول لأخ لي صغير: ((يا أبا عمير، ما فعل النُّغَيْرُ؟)) (والنُّغَيْرُ طائر صغير أحمر المنقار)، وفي الشمائل أنه صلى الله عليه وسلم قال لأنس: ((يا ذا الأذنين)) يمازحه، وأن رجلاً جاء يستحمله فقال له صلى الله عليه وسلم: ((إني حاملُك على ولد الناقة؟))، فقال: يا رسول الله، ما أصنع بولد الناقة؟! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((وهل تلد الإبلَ إلا النُّوقُ؟))، وفي الشمائل أيضًا أن رجلاً من أهل البادية كان اسمه زاهرًا، وكان يُهدِي إلى النبي صلى الله عليه وسلم هَديَّةً من البادية، فيجهزه النبي صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يخرج، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إن زاهرًا باديتُنا، ونحن حاضروه))، وكان يحبه، وكان رجلاً دميمًا، فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم يومًا وهو يبيع متاعَه، فاحتضنه من خلفه - وهو لا يبصره - فقال: من هذا؟ أرسلني، فالتفت فعرف النبيَّ صلى الله عليه وسلم، فجعل لا يألو ما ألصق ظهره بصدر النبي صلى الله عليه وسلم حين عرَفَه، فجعل النبيُّ صلى الله عليه وسلم يقول: ((مَن يشتري هذا العبد؟))، فقال: يا رسول الله، إذًا والله تجدُني كاسدًا، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لكن عندَ الله لست بكاسدٍ))، أو قال: ((أنت عند الله غالٍ)).
وهذا مسلم يروي في صحيحه عن حنظلة بن ربيع، قال: لَقِيني أبو بكر رضي الله عنه فقال: كيف أنت يا حنظلة؟ فقلت: نافَقَ حنظلة! قال: سبحان الله! ما تقول؟ قلت: نكون عند رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكِّرُنا بالجنة والنار كأنا رأي عين، فإذا خرجنا من عنده عافسْنا (لاعبنا) الأزواجَ والأولاد والضَّيْعات (المعايش)؛ نسينا كثيرًا، قال أبو بكر: فوالله إنا لنلقى مثل هذا، فانطلقت أنا وأبو بكر حتى دخلنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: نافق حنظلةُ يا رسول الله! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((وما ذاك؟))، قلت: يا رسول الله، نكون عندك تذكِّرُنا بالنار والجنة كأنا رأي العين، فإذا خرجنا من عندك عافسنا الأزواج والأولاد والضَّيْعاتِ؛ نسينا كثيرًا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((والذي نفسي بيده، أن لو تدومون على ما تكونون عليه عندي وفي الذِّكر، لصافحتكم الملائكة على فُرُشِكم وفي طرقكم، ولكن يا حنظلةُ، ساعة وساعة)) ثلاث مرات.
ففي هذه الأحاديث أدلة واضحة على جواز المزاح والملاطفة في حدود الأدب والاعتدال، فعسى أن يثوب قوم إلى رشدهم، ويهتدوا بهدي نبيهم صلوات الله وسلامه عليه، في حسن أدبه، وكرم شمائله، وجميل معاملته؛ ? لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا ? [الأحزاب: 21].