عاشقة الفردوس
07-29-2015, 11:30 AM
إزالة اللبس عن قاعدة: ما أدى إلى الحرام فهو حرام
السؤال
من فترة قرأت عن قاعدة أن: كل ما أدى إلى حرام، فهو حرام. ومنذ أن قرأت تلك القاعدة وتأملتها، وأنا أعيش في حيرة، وأشعر بكراهية نحوها؛ لأني عندما جئت لأطبقها في حياتي وجدت أني سأخضع كل حركة وسكون في حياتي للحلال والحرام، وأني سوف أحرم على نفسي أمورا قد أباحها الله لي، بل هي أمورا مندوبة في الدين. مثلا لو أن شابا يهتم بمظهره وشكله، ويعامل الناس بوجه بشوش سواء كانوا رجالا أو نساء، ووجد أن هذا يؤدي إلى نظر الفتيات إليه، ومحاولة بعضهن للحديث معه. فهل يحرم عليه حينئذ أن يهتم بشكله، ويجب عليه أن يكف عن كل هذا، مع العلم أنه يغض بصره قدر المستطاع، ولا يكلم النساء إلا لضرورة أو حاجة؟ ولقد جئت لأطبق تلك القاعدة على أمثلة كثيرة في حياتي، ووجدت أنه ليس من المنطقي تنفيذها في كل شيء، وإني أعلم أن الحلال بين والحرام بين. والحلال ما أحله الله، والحرام ما حرمه الله في كتابه. وأما توسيع دائرة الحرام بهذا الشكل فقد جدته أمرا شاقا . وهل حكم كرهي لهذه القاعدة مثل حكم من كره شيئا في الدين فبذلك أخرج من الملة؟ جزاكم الله خيرا.
الإجابــة
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فقبل أن نخلص إلى ما سألت عنه، لا بدّ أن نبين أن أخذك لهذه القاعدة بهذا الفهم والإطلاق، هو ما سبب لك ما ذكرت عن نفسك، وكان ينبغي عليك التوجه إلى أهل العلم بالسؤال عنها قبل أن تضيق على نفسك، وتعيش هذه المعاناة التي تذكرها. وللتوضيح: فاعلم أن أصل هذه القاعدة التي ذكرت ثابت مسلَّم به.
جاء في قواعد الأحكام في مصالح الأنام: ما أدى إلى الحرام فهو حرام.
لكن قد نقحّ القرافي هذه المسألة وأزال عنها اللبس بما مخلصه: أن الأصل في الوسيلة المؤدية إلى الحرام أنها حرام مثله، لكن قد يعرض لهذه الوسيلة ما يرفع عنها حكم التحريم، ووجه ذلك أن تكون وسيلة لمباحات أقوى وأكثر مما تؤدي إليه من الحرام فيترجح الأقوى، فتأخذ الوسيلة حكمه، ويسقط اعتبار الأضعف.
وقال في تنقيح الفصول: تنقيح هذه المسألة أن نقول: قد يكون الشيء الواحد وسيلة لمتعددٍ مختلف الحكم، فينشأ في اعتبار بعض المقاصد منه دون بعض تعارض، فإما أن يرجح بشيء من المرجحات، وإما أن يتوقف فيه.
وقال في الفروق: قد تكون وسيلة المحرم غير محرمة إذا أفضت إلى مصلحة راجحة.
ويقول الشنقيطي في منهج التشريع الإسلامي وحكمته: وكمواطنة الرجال والنساء في بلد واحد، فإنه ذريعة لحصول الزنا من بعض الأفراد، ولكن تعاون النوعين الذكر والأنثى في ميادين الحياة مصلحة راجحة على تلك المفسدة المرجوحة، فلم يقل أحد من أهل العلم أنه يجب أن يعزل الإناث في محل لا يسكن فيه ذكر، وأن يجعل دونهن حصن عظيم أبوابه من حديد، وتكون المفاتيح عند أمين ذي شيبة لا إرب له في النساء، إلغاء للمفسدة المرجوحة بالمصلحة الراجحة.
وجاء في تيسير علم أصول الفقه لعبد الله العنزي: درجات المباحات التي تفضي إلى المفاسد ثلاث:
1ـ ما يكون إفضاؤه إلى المفسدة نادرا قليلا، فالحكم بالإباحة ثابت له بناء على الأصل. مثاله: زراعة العنب، فلا يمنع منها تذرعا بأن من الناس من يعصر منها الخمر، وتعليم الرجل النساء عند الحاجة، فلا يمنع منه تذرعا بالفتنة المفضية إلى الزنا، وكذا خروجهن من بيوتهن لمصالحهن، وشهودهن المساجد، ودور العلم. فتقاس المصالح والمفاسد، فإن كان جانب المصلحة راجحا -وهو الأصل في المباحات- فلا تمنع بدعوى (سد الذرائع) لمجرد ظن المفسدة، أو لورودها لكنها ضعيفة في مقابلة المصلحة.
2ـ ما يكون إفضاؤه إلى المفسدة كثيرا غالبا، فالرجحان في جانب المفسدة فيمنع منه (سدا للذريعة) وحسما لمادة الفساد. مثاله: بيع السلاح وقت وقوع الفتنة بين المسلمين بقتال بعضهم بعضا، وإجارة العقار لمن علم أنه يتخذه لمعصية الله. ويلاحظ في هذا أن (سد الذريعة) إلى المفسدة عارض حيث يكون المباح موصلا إلى المحظور؛ وإلا فإن بيع السلاح، وإجارة العقار لا يمتنعان في ظرف عادي.
3ـ ما يحتال به المكلف ليستبيح به المحرم، وظاهر تلك الحيلة الإباحة في الأصل. مثاله: الاحتيال على الربا ببيع العينة، وهو: أن يبيع من رجل سلعة بثمن معلوم إلى أجل مسمى، ثم يشتريها منه بأقل من الثمن الذي باعها به. فهذه الصورة من البيع حيلة محرمة بالنص، كما في قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا تبايعتم بالعينة، وأخذتم أذناب البقر، ورضيتم بالزرع، وتركتم الجهاد، سلط الله عليكم ذلا لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم)) [حديث صحيح أخرجه أبوداود وغيره من حديث ابن عمر].
ومن جملة ما تقدم تعلم أن المباحات المفضية إلى بعض المحرمات لا يرتفع عنها الحكم لمجرد ذلك - وإلا لشمل التحريم كل مباح - بل لا بد أن يكون وجه المفسدة فيها أقوى وأرجح من المصلحة، ومن هنا: فاعتناء المرء بمظهره مباح، بل مطلوب، وفيه من المقاصد والمنافع ما لا يوازي بمظنة افتتان النساء به إذا خرج.
أما عن الخروج من الملة بما حصل لك: فلا يحصل بمثل هذا، إذ ليس فيما ذكرت ردة، ولا إنكار لمعلوم من الدين بالضرورة، كما أنه ليس في حقيقته كراهية ولا نفور عن الإسلام، وإنما هو في الحقيقة جهل
السؤال
من فترة قرأت عن قاعدة أن: كل ما أدى إلى حرام، فهو حرام. ومنذ أن قرأت تلك القاعدة وتأملتها، وأنا أعيش في حيرة، وأشعر بكراهية نحوها؛ لأني عندما جئت لأطبقها في حياتي وجدت أني سأخضع كل حركة وسكون في حياتي للحلال والحرام، وأني سوف أحرم على نفسي أمورا قد أباحها الله لي، بل هي أمورا مندوبة في الدين. مثلا لو أن شابا يهتم بمظهره وشكله، ويعامل الناس بوجه بشوش سواء كانوا رجالا أو نساء، ووجد أن هذا يؤدي إلى نظر الفتيات إليه، ومحاولة بعضهن للحديث معه. فهل يحرم عليه حينئذ أن يهتم بشكله، ويجب عليه أن يكف عن كل هذا، مع العلم أنه يغض بصره قدر المستطاع، ولا يكلم النساء إلا لضرورة أو حاجة؟ ولقد جئت لأطبق تلك القاعدة على أمثلة كثيرة في حياتي، ووجدت أنه ليس من المنطقي تنفيذها في كل شيء، وإني أعلم أن الحلال بين والحرام بين. والحلال ما أحله الله، والحرام ما حرمه الله في كتابه. وأما توسيع دائرة الحرام بهذا الشكل فقد جدته أمرا شاقا . وهل حكم كرهي لهذه القاعدة مثل حكم من كره شيئا في الدين فبذلك أخرج من الملة؟ جزاكم الله خيرا.
الإجابــة
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فقبل أن نخلص إلى ما سألت عنه، لا بدّ أن نبين أن أخذك لهذه القاعدة بهذا الفهم والإطلاق، هو ما سبب لك ما ذكرت عن نفسك، وكان ينبغي عليك التوجه إلى أهل العلم بالسؤال عنها قبل أن تضيق على نفسك، وتعيش هذه المعاناة التي تذكرها. وللتوضيح: فاعلم أن أصل هذه القاعدة التي ذكرت ثابت مسلَّم به.
جاء في قواعد الأحكام في مصالح الأنام: ما أدى إلى الحرام فهو حرام.
لكن قد نقحّ القرافي هذه المسألة وأزال عنها اللبس بما مخلصه: أن الأصل في الوسيلة المؤدية إلى الحرام أنها حرام مثله، لكن قد يعرض لهذه الوسيلة ما يرفع عنها حكم التحريم، ووجه ذلك أن تكون وسيلة لمباحات أقوى وأكثر مما تؤدي إليه من الحرام فيترجح الأقوى، فتأخذ الوسيلة حكمه، ويسقط اعتبار الأضعف.
وقال في تنقيح الفصول: تنقيح هذه المسألة أن نقول: قد يكون الشيء الواحد وسيلة لمتعددٍ مختلف الحكم، فينشأ في اعتبار بعض المقاصد منه دون بعض تعارض، فإما أن يرجح بشيء من المرجحات، وإما أن يتوقف فيه.
وقال في الفروق: قد تكون وسيلة المحرم غير محرمة إذا أفضت إلى مصلحة راجحة.
ويقول الشنقيطي في منهج التشريع الإسلامي وحكمته: وكمواطنة الرجال والنساء في بلد واحد، فإنه ذريعة لحصول الزنا من بعض الأفراد، ولكن تعاون النوعين الذكر والأنثى في ميادين الحياة مصلحة راجحة على تلك المفسدة المرجوحة، فلم يقل أحد من أهل العلم أنه يجب أن يعزل الإناث في محل لا يسكن فيه ذكر، وأن يجعل دونهن حصن عظيم أبوابه من حديد، وتكون المفاتيح عند أمين ذي شيبة لا إرب له في النساء، إلغاء للمفسدة المرجوحة بالمصلحة الراجحة.
وجاء في تيسير علم أصول الفقه لعبد الله العنزي: درجات المباحات التي تفضي إلى المفاسد ثلاث:
1ـ ما يكون إفضاؤه إلى المفسدة نادرا قليلا، فالحكم بالإباحة ثابت له بناء على الأصل. مثاله: زراعة العنب، فلا يمنع منها تذرعا بأن من الناس من يعصر منها الخمر، وتعليم الرجل النساء عند الحاجة، فلا يمنع منه تذرعا بالفتنة المفضية إلى الزنا، وكذا خروجهن من بيوتهن لمصالحهن، وشهودهن المساجد، ودور العلم. فتقاس المصالح والمفاسد، فإن كان جانب المصلحة راجحا -وهو الأصل في المباحات- فلا تمنع بدعوى (سد الذرائع) لمجرد ظن المفسدة، أو لورودها لكنها ضعيفة في مقابلة المصلحة.
2ـ ما يكون إفضاؤه إلى المفسدة كثيرا غالبا، فالرجحان في جانب المفسدة فيمنع منه (سدا للذريعة) وحسما لمادة الفساد. مثاله: بيع السلاح وقت وقوع الفتنة بين المسلمين بقتال بعضهم بعضا، وإجارة العقار لمن علم أنه يتخذه لمعصية الله. ويلاحظ في هذا أن (سد الذريعة) إلى المفسدة عارض حيث يكون المباح موصلا إلى المحظور؛ وإلا فإن بيع السلاح، وإجارة العقار لا يمتنعان في ظرف عادي.
3ـ ما يحتال به المكلف ليستبيح به المحرم، وظاهر تلك الحيلة الإباحة في الأصل. مثاله: الاحتيال على الربا ببيع العينة، وهو: أن يبيع من رجل سلعة بثمن معلوم إلى أجل مسمى، ثم يشتريها منه بأقل من الثمن الذي باعها به. فهذه الصورة من البيع حيلة محرمة بالنص، كما في قوله - صلى الله عليه وسلم -: ((إذا تبايعتم بالعينة، وأخذتم أذناب البقر، ورضيتم بالزرع، وتركتم الجهاد، سلط الله عليكم ذلا لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم)) [حديث صحيح أخرجه أبوداود وغيره من حديث ابن عمر].
ومن جملة ما تقدم تعلم أن المباحات المفضية إلى بعض المحرمات لا يرتفع عنها الحكم لمجرد ذلك - وإلا لشمل التحريم كل مباح - بل لا بد أن يكون وجه المفسدة فيها أقوى وأرجح من المصلحة، ومن هنا: فاعتناء المرء بمظهره مباح، بل مطلوب، وفيه من المقاصد والمنافع ما لا يوازي بمظنة افتتان النساء به إذا خرج.
أما عن الخروج من الملة بما حصل لك: فلا يحصل بمثل هذا، إذ ليس فيما ذكرت ردة، ولا إنكار لمعلوم من الدين بالضرورة، كما أنه ليس في حقيقته كراهية ولا نفور عن الإسلام، وإنما هو في الحقيقة جهل