شجون الليل
04-10-2010, 07:27 PM
من نوادر الجاحظ
عرف الجاحظ بحبه للفكاهة والنوادر، وتأتي خبرته بطبائع الناس وإلمامه بأخبارهم وأحاديثهم كمادة لعدد من مؤلفاته مثل البخلاء، والحيوان وغيرها وما ضمته من الفكاهات والنوادر بالإضافة للمعلومة والحكمة، ونذكر هنا إحدى نوادره والتي رواها عن أحد معلمي الكتاتيب، وكيف أنهم لطول معاشرتهم للصبية الصغار، تطيش عقولهم، ويفقدون صوابهم وينتهون إلى الجنون، ويقابل الجاحظ واحداً منهم، ولكنه يغير فكرته عنهم لِما رآه منه من سَمت ووقار وعلم ورجاحة عقل، فيصاحبه ويتقرب إليه، ولكن الحال ينقلب بعد ذلك على نحو هزلي..
يقول الجاحظ:
كنت ألفتُ كتاباً في نوادر المعلمين وما هم عليه من الغفلة، ثم رجعت عن ذلك وعزمت على تقطيع الكتاب، فدخلت يوماً قرية فوجدت فيها معلماً في هيئة حسنة، فسلمت عليه فرد عليّ أحسن رد، ورحّب بي فجلست عنده، وباحثته في القرآن فإذا هو ماهر، ثم فاتحته في الفقه والنحو وعلم المعقول وأشعار العرب، فإذا هو كامل الأدوات، فقلت: هذا واللّه مما يُقـوي عزمي على تقطيع الكتاب.
وكنت أختلف إليه وأزوره، فجئت يوماً لزيارته، وطرقت الباب، فخرجتْ إليّ جارية وقالت: ما تريد؟ قلت: سيدك، فدخلت وخرجت وقالت: باسم اللّه، فدخلت إليه، وإذا به جالساً كئيباً، فقلت عظم اللّه أجرك، "لقد كان لكم في رسول اللّه أسوة حسنة".. "كل نفس ذائقة الموت" فعليك بالصبر! ثم قلت له: هذا الذي توفى ولدك؟ قال: لا، قلت: فوالدك؟، قال: لا، قلت: فأخوك؟ قال: لا، قلت: فزوجتك؟ قال: لا، فقلت: وما هو منك؟ قال: حبيبتي! فقلت: في نفسي هذه أول المناحس، فقلت: سبحان اللّه، النساء كثير، وستجد غيرها، فقال: أتظن أني رأيتها؟ قلت: هذه منحسة ثانية، ثم قلت: وكيف عشقت من لم تر؟ فقال: اعلم أني كنت جالساً في هذا المكان، وأنا أنظر من الطاقة (نافذة صغيرة) إذ رأيت رجـلاً عليه بُـرد وهو يقول:
يا أم عمرو جزاك اللّه مكرمة
ردِّي عـلـيّ فـؤادي أيـنـما iiكانا
لا تـأخـذيـن فـؤادي تـلـعبين به
وكـيـف يـلعب بالإنسان iiإنسانا
فقلت في نفسي: لولا أنّ أم عمرو هذه ما في الدنيا أحسن منها ما قيل فيها هذا الشعر، فعشقتها، فلما كان منذ يومين مَرَ ذلك الرجل بعينه وهو يقول:
لقد ذهب الحمار بأمِّ iiعمرو فلا رجعت ولا رجع الحمار
فعلمت أنها ماتت! فحزنت عليها، وأغلقت المكتب، وجلست في الدار.
فقلت: يا هذا، إني ألفت كتاباً في نوادركم معشر المعلمين، وكنت حين صاحبتك عزمت على تقطيعه، والآن قد قويت عزمي على إبقائه، وأول ما أبدأ فيه بك إن شاء اللّه!.
أبو دُلامَة الماكر ينجو بلسانه
للشعراء الكثير من الطرائف والأخبار، ومنها نذكر احد المواقف الذي وقع بين كل من الشاعر أبو دلامة، والخليفة المهدي.
وأبو دلامة هو زند بن الجون الأسدي وهو شاعر من أهل الظرف والدعابة، أسود اللون، جسيم وسيم كان أبوه عبداً لرجل من أسد وأعتقه، نشأ في الكوفة واتصل بالخلفاء من بني العباس، فكانوا يستلطفونه ويغدِقون عليه العطايا، وله في بعضهم مدائح، وللشاعر أخبار كثيرة ومتفرقة.
من مواقفه الطريفة أنه دخل يوماً على الخليفة المهدي في مجلسه وعنده جماعة من بني هاشم فبادره الخليفة بقوله: إن لم تهج أحداً ممن في هذا المجلس يا أبا دلامة لأقطعن لسانك.
فجال أبو دلامة ببصره في القوم وحار في أمره، فصار كلما نظر إلى واحد غمزه وأفهمه أن عليه إرضاءه, فما كان ذلك إلا ليزيد في حيرته, ثم رأى أبو دلامة أن أسلم ما يفعله هو أن يهجو نفسه فقال:
ألا أبــلـغ لَـدَيـكَ أبَــا دُلامَــه
فَلَيسَ مِنَ الكِرامِ وَلا كَرَامَه
إذا لَـبِسَ الـعِمَامَةَ كانَ قِرداً
وَخِـنزِيراً إذا نَـزَعَ iiالـعِمَامَه
جَـمَعتَ دَمَامةً وجَمَعتَ لُؤماً
كَـذَاكَ الـلُّومُ تَـتبَعُهُ الـدَّمَامَه
فـإن تَـكُ قَد أصَبتَ نَعِيمَ iiدُنيَا
فـلا تَـفرَح فَـقَد دَنَـتِ القِيامَه
وبما أن أبو دلامة كان أحد الموجودين في المجلس فقد أفلت من المأزق الذي وضعه فيه الخليفة، بذكائه ومكره.
عرف الجاحظ بحبه للفكاهة والنوادر، وتأتي خبرته بطبائع الناس وإلمامه بأخبارهم وأحاديثهم كمادة لعدد من مؤلفاته مثل البخلاء، والحيوان وغيرها وما ضمته من الفكاهات والنوادر بالإضافة للمعلومة والحكمة، ونذكر هنا إحدى نوادره والتي رواها عن أحد معلمي الكتاتيب، وكيف أنهم لطول معاشرتهم للصبية الصغار، تطيش عقولهم، ويفقدون صوابهم وينتهون إلى الجنون، ويقابل الجاحظ واحداً منهم، ولكنه يغير فكرته عنهم لِما رآه منه من سَمت ووقار وعلم ورجاحة عقل، فيصاحبه ويتقرب إليه، ولكن الحال ينقلب بعد ذلك على نحو هزلي..
يقول الجاحظ:
كنت ألفتُ كتاباً في نوادر المعلمين وما هم عليه من الغفلة، ثم رجعت عن ذلك وعزمت على تقطيع الكتاب، فدخلت يوماً قرية فوجدت فيها معلماً في هيئة حسنة، فسلمت عليه فرد عليّ أحسن رد، ورحّب بي فجلست عنده، وباحثته في القرآن فإذا هو ماهر، ثم فاتحته في الفقه والنحو وعلم المعقول وأشعار العرب، فإذا هو كامل الأدوات، فقلت: هذا واللّه مما يُقـوي عزمي على تقطيع الكتاب.
وكنت أختلف إليه وأزوره، فجئت يوماً لزيارته، وطرقت الباب، فخرجتْ إليّ جارية وقالت: ما تريد؟ قلت: سيدك، فدخلت وخرجت وقالت: باسم اللّه، فدخلت إليه، وإذا به جالساً كئيباً، فقلت عظم اللّه أجرك، "لقد كان لكم في رسول اللّه أسوة حسنة".. "كل نفس ذائقة الموت" فعليك بالصبر! ثم قلت له: هذا الذي توفى ولدك؟ قال: لا، قلت: فوالدك؟، قال: لا، قلت: فأخوك؟ قال: لا، قلت: فزوجتك؟ قال: لا، فقلت: وما هو منك؟ قال: حبيبتي! فقلت: في نفسي هذه أول المناحس، فقلت: سبحان اللّه، النساء كثير، وستجد غيرها، فقال: أتظن أني رأيتها؟ قلت: هذه منحسة ثانية، ثم قلت: وكيف عشقت من لم تر؟ فقال: اعلم أني كنت جالساً في هذا المكان، وأنا أنظر من الطاقة (نافذة صغيرة) إذ رأيت رجـلاً عليه بُـرد وهو يقول:
يا أم عمرو جزاك اللّه مكرمة
ردِّي عـلـيّ فـؤادي أيـنـما iiكانا
لا تـأخـذيـن فـؤادي تـلـعبين به
وكـيـف يـلعب بالإنسان iiإنسانا
فقلت في نفسي: لولا أنّ أم عمرو هذه ما في الدنيا أحسن منها ما قيل فيها هذا الشعر، فعشقتها، فلما كان منذ يومين مَرَ ذلك الرجل بعينه وهو يقول:
لقد ذهب الحمار بأمِّ iiعمرو فلا رجعت ولا رجع الحمار
فعلمت أنها ماتت! فحزنت عليها، وأغلقت المكتب، وجلست في الدار.
فقلت: يا هذا، إني ألفت كتاباً في نوادركم معشر المعلمين، وكنت حين صاحبتك عزمت على تقطيعه، والآن قد قويت عزمي على إبقائه، وأول ما أبدأ فيه بك إن شاء اللّه!.
أبو دُلامَة الماكر ينجو بلسانه
للشعراء الكثير من الطرائف والأخبار، ومنها نذكر احد المواقف الذي وقع بين كل من الشاعر أبو دلامة، والخليفة المهدي.
وأبو دلامة هو زند بن الجون الأسدي وهو شاعر من أهل الظرف والدعابة، أسود اللون، جسيم وسيم كان أبوه عبداً لرجل من أسد وأعتقه، نشأ في الكوفة واتصل بالخلفاء من بني العباس، فكانوا يستلطفونه ويغدِقون عليه العطايا، وله في بعضهم مدائح، وللشاعر أخبار كثيرة ومتفرقة.
من مواقفه الطريفة أنه دخل يوماً على الخليفة المهدي في مجلسه وعنده جماعة من بني هاشم فبادره الخليفة بقوله: إن لم تهج أحداً ممن في هذا المجلس يا أبا دلامة لأقطعن لسانك.
فجال أبو دلامة ببصره في القوم وحار في أمره، فصار كلما نظر إلى واحد غمزه وأفهمه أن عليه إرضاءه, فما كان ذلك إلا ليزيد في حيرته, ثم رأى أبو دلامة أن أسلم ما يفعله هو أن يهجو نفسه فقال:
ألا أبــلـغ لَـدَيـكَ أبَــا دُلامَــه
فَلَيسَ مِنَ الكِرامِ وَلا كَرَامَه
إذا لَـبِسَ الـعِمَامَةَ كانَ قِرداً
وَخِـنزِيراً إذا نَـزَعَ iiالـعِمَامَه
جَـمَعتَ دَمَامةً وجَمَعتَ لُؤماً
كَـذَاكَ الـلُّومُ تَـتبَعُهُ الـدَّمَامَه
فـإن تَـكُ قَد أصَبتَ نَعِيمَ iiدُنيَا
فـلا تَـفرَح فَـقَد دَنَـتِ القِيامَه
وبما أن أبو دلامة كان أحد الموجودين في المجلس فقد أفلت من المأزق الذي وضعه فيه الخليفة، بذكائه ومكره.