علي الحزمي
10-25-2010, 09:06 PM
<h2>ترغيب الكرام في حج البيت الحرام
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد..
في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل أي العمل أفضل؟، فقال: "إيمان بالله ورسوله"، قيل: "ثم ماذا؟"، قال: "الجهاد في سبيل الله"، قيل: "ثم ماذا؟"، قال: "حج مبرور"» [رواه البخاري ومسلم واللفظ للبخاري].
وقد دل هذا الحديث على أن أفضل الأعمال بعد الجهاد في سبيل الله: جنس عمارة المساجد، بذكرا له وطاعته، فيدخل في ذلك الصلاة والذكر والتلاوة والاعتكاف، وتعليم العلم النافع واستماعه وأفضل من ذلك عمارة أفضل المساجد وأشرفها وهو المسجد الحرام بالزيارة والطواف فلهذا خصه بالذكر، وجعل قصده للحج أفضل الأعمال بعد الجهاد.
فضل البيت الحرام:
وقد ذكر الله تعالى هذا البيت في كتابه بأعظم ذكر وأفخم تعظيم وثناء.
• قال تعالى: {وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى ۖ وَعَهِدْنَا إِلَىٰ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ}[سورة البقرة: 125].
• وقال تعالى: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ ﴿٩٦﴾ فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ ۖ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا}[سورة آل عمران: 96-97].
• وقال تعالى: {وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَن لَّا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ ﴿٢٦﴾ وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَىٰ كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ}[سورة الحج: 26-27].
فعمارة سائر المساجد -سوى المسجد الحرام- وقصدها للصلاة فيها وأنواع العبادات من الرباط في سبيل الله، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «"ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات؟"، قالوا : "بلى، يا رسول الله"، قال: "إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخطا إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، فذلكم الرباط»[رواه مسلم].
فأما المسجد الحرام بخصوصه فقصده لزيارته وعمارته بالطواف الذي خصه الله به من نوع الجهاد في سبيل الله عز وجل.
الحج جهاد لا قتال فيه:
وفي صحيح البخاري عن عائشة رضي الله عنها قالت: «"يا رسول الله، ترى الجهاد أفضل العمل، أفلا نجاهد؟"، قال: "لكن أفضل الجهاد حج مبرور"»يعني أفضل جهاد النساء.
ورواه بعضهم: «لَكُّنَ أفضلُ الجهاد حج مبرور»فيكون صريحا في هذا المعنى. وقد خرجه البخاري بلفظ آخر وهو: «استأذنت النبي صلى الله عليه وسلم في الجهاد، فقال: "جهادكن الحج"»وهو كذلك.
وفي المسند وسنن ابن ماجة عن أم سلمة رضي الله عنها ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الحج جهاد كل ضعيف»[رواه ابن ماجه وحسنه الألباني].
وخرج البيهقي وغيره من حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعا: «جهاد الكبير والضعيف والمرأة الحج والعمرة»[قال الألباني حسن لغيره].
وعن عمر أنه قال: إذا وضعتم السروج -يعني من سفر الجهاد- فشدوا الرحال إلى الحج وعمرة، فإنه أحد الجهادين، وذكره البخاري تعليقا.
وقال ابن مسعود رضي الله عنه : إنما هو سُرُج ورحل فالسرج في سبيل الله والرحل الحج.
وإنما كان الحج والعمرة جهادا لأنه يجهد المال والنفس والبدن، كما قال أبو الشعثاء: "نظرت في أعمال البر، فإذا الصلاة تجهد البدن دون المال، والصيام كذلك، والحج يجهدهما فرأيته أفضل".
- وعن طاووس أنه سئل: "هل الحج بعد الفريضة أفضل أم الصدقة؟"، قال: فأين الحلّ والرحيل، والسهر ، والنصب والطواف بالبيت، والصلاة عنده، والوقوف بعرفة وجمع (المزدلفة) ، ورمي الجمار؟"، كأنه يقول: "الحج أفضل".
فضل النفقة في الحج:
ويدل عليه قوله تعالى: {وَأَنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّـهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ ۛ وَأَحْسِنُوا ۛ إِنَّ اللَّـهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ﴿١٩٥﴾ وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّـهِ}[سورة البقرة: 195-196]؛ ففيه دليل على أن النفقة في الحج تدخل في جملة النفقة في سبيل الله.
وقد كان بعض الصحابة جعل بعيره في سبيل الله فأرادت امرأته أن تحج عليه فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: «فهلا خرجت عليه؛ فإن الحج في سبيل الله»[رواه ابن خزيمة وصححه الألباني].
فضل الحج المبرور:
وفي المسند أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل: «أفضل الأعمال الإيمان بالله وحده، ثم الجهاد، ثم حجة برة تفضل سائر الأعمال كما بين مطلع الشمس إلى مغربها»[صححه الألباني].
وثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من حج هذا البيت، فلم يرفث، ولم يفسق، رجع كيوم ولدته أمه»[رواه البخاري]؛ فمغفرة الذنوب بالحج ودخول الجنة مرتب على كون الحج مبرورا.
علامات الحج المبرور:
إنما يكون الحج مبرورا باجتماع أمرين فيه:
- أحدهما: الإتيان فيه بأعمال البر. والبر يطلق بمعنيين أحدهما: بمعنى الإحسان إلى الناس ، كما يقال: البر والصلة. وضده العقوق.
وفي صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن البر فقال: «البر حسن الخلق».
وكان ابن عمر يقول: إن البر شيء هين؛ وجه طليق وكلام لين. وهذا يحتاج إليه في الحج كثيرا، أعني معاملة الناس بالإحسان بالقول والفعل.
قال بعضهم: إنما سمي السفر سفرا، لأنه يسفر عن اخلاق الرجال.
وفي المسند عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «بر الحج إطعام الطعام، وطيب الكلام»[حسنه الألباني].
وسئل سعيد بن جبير: "أي الحاج أفضل؟"، قال: "من أطعم الطعام، وكف لسانه"، قال الثوري: "سمعت أنه من بر الحج".
وقال أبو جعفر الباقر: "ما يعبأ بمن يؤم هذا البيت إذا لم يأتِ بثلاثة: ورع يحجزه عن معاصي الله، وحلم يكف به غضبه، وحسن الصحبة لمن يصحبه من المسلمين"؛ فهذه الثلاثة يحتاج إليها في الأسفار، خصوصا في سفر الحج فمن كملها فقد كمل حجه وبر.
خدمة الحجيج:
ومن أجمع خصال البر التي يحتاج إليها الحاج: ما وصى به النبي صلى الله لعيه وسلام أبا جري الهجيمي فقال: «لا تحقرن من المعروف شيئا أن تأتيه ولو أن تهب صلة الحبل، ولو أن تفرغ من دلوك في إناء المستقي، ولو أن تلقى أخاك المسلم ووجهك بسط إليه، ولو أن تؤنس الوحشان بنفسك، ولو أن تهب الشسع»[قال الألباني صحيح لغيره].
وفي الجملة فخير الناس أنفعهم للناس، وأصبرهم على أذى الناس، كما وصف الله المتقين بذلك في قوله: {الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ ۗ وَاللَّـهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}[سورة آل عمران: 134].
والحاج يحتاج إلى مخالطة الناس، والمؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم أفضل ممن لا يخالطهم ولا يصبر على أذاهم.
قال ربيعة المروءة في السفر: "بذل الزاد، وقلة الحلاف على الأصحاب، وكثرة المزاح في غير مساخط الله عز وجل" (1).
وجاء رجلان إلى ابن عون يودعانه، وسألانه أن يوصيهما، فقال لهما: "عليكما بكظم الغيظ وبذل الزاد".
الإحسان إلى رفقة السفر:
والإحسان إلى الرفقة في السفر أفضل من العبادة القاصرة لاسيما إن احتاج العابد إلى خدمة إخوانه وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم في سفر في حر شديد ومعه من هو صائم ومفطر، فسقط الصوام وقام المفطرون، فضربوا الأبنية وسقوا الركاب، فقال النبي صلى الله عليه وسلم «ذهب المفطرون اليوم بالأجر» [متفق عليه].
وقال مجاهد: "صحبت ابن عمر في السفر لأخدمه فكان يخدمني".
وكان كثير من السلف يشترط على أصحابه في السفر الخدمة والأذان.
وكان أبن المبارك يطعم أصحابه في الأسفار أطيب الطعام وهو صائم.
والمعنى الثاني مما يراد بالبر فعل الطاعات كلها وضده الإثم.
وقد فسر الله تعالى البر بذلك في قوله: {وَلَـٰكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّـهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَىٰ حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا ۖ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ ۗ أُولَـٰئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا ۖ وَأُولَـٰئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ}[سورة البقرة: 177].
فتضمنت الأية أن أنواع البر ستة أنوا ع من استكملها فقد استكمل البر وكلها يحتاج الحاج إليها فإنه لا يصح حجه بدون الإيمان ولا يكمل حجه ويكون مبرورا بدون إقام الصلاة وإيتاء الزكاة؛ فإن أركان الإسلام بعضها مرتبطة ببعض؛ فلا يكمل الإيمان والإسلام حتى يؤتى بها كلها، ولا يكمل بر الحج بدون الوفاء بالعهود في المعاقدات والمشاركات المحتاج إليها في السفر الحج، وإيتاء المال المحبوب لمن يحب الله إيتاءه ويحتاج مع ذلك إلى الصبر على ما يصيبه من المشاق في السفر، وهاك أخي الحاج بعضا من خصال البر المرجو من الحج.
المحافظة على الصلاة:
فأقام الصلاة أهم خصال البر، فمن حج من غير إقام الصلاة، لاسيما إن كان حجه تطوعا كان بمنزلة من سعى في ربح درهم، وضيع رأس ماله وهو ألوف كثيرة.
وقد كان السلف يواظبون على قيام الليل على راحلته في أسفاره كلها ويتر عليها.
وحج مسروق فما نام إلا ساجدا!!
وكان محمد بن واسع يصلي في طريق مكة ليلة أجمع في محمله، يومئ إيماء.
فنحن ما نأمر إلا بالمحافظة على الصلاة في أوقاتها فإنه لا يرخص لأحد أن يصلي صلاة الليل في النهار ولا صلة النهار في الليل ولا أن يصلي المكتوبة على ظهر راحلته، إلا من خاف الانقطاع عن رفقته، أو نحو ذلك مما يخاف على نفسه.
كثرة ذكر الله:
ومن أعظم أنواع بر الحج: كثرة ذكر الله فيه، وقد أمر الله بكثرة ذكره في إقامة مناسك الحج مرة بعد أخرى وخصوصا كثرة الذكر في حال الإحرام بالتلبية والتكبير وفي الترمذي وغيره «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل: "أي الحج أفضل؟"، قال: "العج والثج"»[صححه الألباني].
فالعج: رفع الصوت بالتكبير والتلبية.
والثج: إراقة دماء الهدايا والنسك.
ذبح الهدي:
والهدي من أفضل الأعمال. قال تعالى: {وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُم مِّن شَعَائِرِ اللَّـهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ}[سورة الحج: 36]، وقال تعلى: {وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّـهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ}[سورة الحج: 32]، وأهدى النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع مائة بدنة.
اجتناب الإثم:
الأمر الثاني مما يكمل بر الحج: "اجتناب أفعال الإثم فيه من الرفث والفسوق والمعاصي".
قال تعالى: {فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ ۗ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّـهُ ۗ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَىٰ}[سورة البقرة: 197].
وفي الحديث الصحيح: «من حج هذا البيت، فلم يرفث، ولم يفسق، رجع كيوم ولدته أمه» [رواه البخاري].
خيرا الزاد التقوى:
فما تزود حاج ولا غيره أفضل من زاد التقوى، ولا دُعي للحاج عند توديعه لأفضل من التقوى.
قال بعض السلف لمن ودعه للحج: "أوصيك بما وصى به النبي صلى الله عليه وسلم معاذا حين ودعه: «اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها ، وخالق الناس بخلق حسن»[قال الألباني حسن لغيره]".
طيب النفقة:
ومن أعظم ما يجب على الحاج اتقاؤه من الحرام، وأن يطيب نفقته في الحج، وألا يجعلها من كسب حرام.
الحذر من الرياء:
ومما يجب اجتنابه على الحاج وبه يتم بر حجه؛ ألا يقصد بحجه رياء ولا سمعة ولا مباهاة ولا فخرا، ولا خيلاء، ولا يقصد به إلا وجه الله ورضوانه، ويتواضع في حجه ويستكين ويخشع لربه.
وروي عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم حج على رحل رث وقطيفة ما تساوي أربعة دراهم وقال: «اللهم اجعلها حجة لا رياء فيها ولا سمعة»[قال الألباني صحيح لغيره].
قال رجل لابن عمر: "ما أكثر الحاج"!، فقال ابن عمر: "ما أقلهم!".
وقال شريح: "الحاج قليل والركبان كثير، ما أكثر من يعمل الخير، ولكن ما أقل الذين يريدون وجهه".
____________
(1) لأن السفر مظنة الوحشة والكآبة، فيحتاج فيه إلى نوع من المزاح والبسط بما لا يخرج عن حدود الشريعة.
-بتصرف يسير-
من كلام الإمام الحافظ
ابن رجب الحنبلي
</h2>
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد..
في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل أي العمل أفضل؟، فقال: "إيمان بالله ورسوله"، قيل: "ثم ماذا؟"، قال: "الجهاد في سبيل الله"، قيل: "ثم ماذا؟"، قال: "حج مبرور"» [رواه البخاري ومسلم واللفظ للبخاري].
وقد دل هذا الحديث على أن أفضل الأعمال بعد الجهاد في سبيل الله: جنس عمارة المساجد، بذكرا له وطاعته، فيدخل في ذلك الصلاة والذكر والتلاوة والاعتكاف، وتعليم العلم النافع واستماعه وأفضل من ذلك عمارة أفضل المساجد وأشرفها وهو المسجد الحرام بالزيارة والطواف فلهذا خصه بالذكر، وجعل قصده للحج أفضل الأعمال بعد الجهاد.
فضل البيت الحرام:
وقد ذكر الله تعالى هذا البيت في كتابه بأعظم ذكر وأفخم تعظيم وثناء.
• قال تعالى: {وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى ۖ وَعَهِدْنَا إِلَىٰ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ}[سورة البقرة: 125].
• وقال تعالى: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ ﴿٩٦﴾ فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ ۖ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا}[سورة آل عمران: 96-97].
• وقال تعالى: {وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَن لَّا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ ﴿٢٦﴾ وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَىٰ كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ}[سورة الحج: 26-27].
فعمارة سائر المساجد -سوى المسجد الحرام- وقصدها للصلاة فيها وأنواع العبادات من الرباط في سبيل الله، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «"ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا ويرفع به الدرجات؟"، قالوا : "بلى، يا رسول الله"، قال: "إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخطا إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة، فذلكم الرباط»[رواه مسلم].
فأما المسجد الحرام بخصوصه فقصده لزيارته وعمارته بالطواف الذي خصه الله به من نوع الجهاد في سبيل الله عز وجل.
الحج جهاد لا قتال فيه:
وفي صحيح البخاري عن عائشة رضي الله عنها قالت: «"يا رسول الله، ترى الجهاد أفضل العمل، أفلا نجاهد؟"، قال: "لكن أفضل الجهاد حج مبرور"»يعني أفضل جهاد النساء.
ورواه بعضهم: «لَكُّنَ أفضلُ الجهاد حج مبرور»فيكون صريحا في هذا المعنى. وقد خرجه البخاري بلفظ آخر وهو: «استأذنت النبي صلى الله عليه وسلم في الجهاد، فقال: "جهادكن الحج"»وهو كذلك.
وفي المسند وسنن ابن ماجة عن أم سلمة رضي الله عنها ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «الحج جهاد كل ضعيف»[رواه ابن ماجه وحسنه الألباني].
وخرج البيهقي وغيره من حديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعا: «جهاد الكبير والضعيف والمرأة الحج والعمرة»[قال الألباني حسن لغيره].
وعن عمر أنه قال: إذا وضعتم السروج -يعني من سفر الجهاد- فشدوا الرحال إلى الحج وعمرة، فإنه أحد الجهادين، وذكره البخاري تعليقا.
وقال ابن مسعود رضي الله عنه : إنما هو سُرُج ورحل فالسرج في سبيل الله والرحل الحج.
وإنما كان الحج والعمرة جهادا لأنه يجهد المال والنفس والبدن، كما قال أبو الشعثاء: "نظرت في أعمال البر، فإذا الصلاة تجهد البدن دون المال، والصيام كذلك، والحج يجهدهما فرأيته أفضل".
- وعن طاووس أنه سئل: "هل الحج بعد الفريضة أفضل أم الصدقة؟"، قال: فأين الحلّ والرحيل، والسهر ، والنصب والطواف بالبيت، والصلاة عنده، والوقوف بعرفة وجمع (المزدلفة) ، ورمي الجمار؟"، كأنه يقول: "الحج أفضل".
فضل النفقة في الحج:
ويدل عليه قوله تعالى: {وَأَنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّـهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ ۛ وَأَحْسِنُوا ۛ إِنَّ اللَّـهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ﴿١٩٥﴾ وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّـهِ}[سورة البقرة: 195-196]؛ ففيه دليل على أن النفقة في الحج تدخل في جملة النفقة في سبيل الله.
وقد كان بعض الصحابة جعل بعيره في سبيل الله فأرادت امرأته أن تحج عليه فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: «فهلا خرجت عليه؛ فإن الحج في سبيل الله»[رواه ابن خزيمة وصححه الألباني].
فضل الحج المبرور:
وفي المسند أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل: «أفضل الأعمال الإيمان بالله وحده، ثم الجهاد، ثم حجة برة تفضل سائر الأعمال كما بين مطلع الشمس إلى مغربها»[صححه الألباني].
وثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من حج هذا البيت، فلم يرفث، ولم يفسق، رجع كيوم ولدته أمه»[رواه البخاري]؛ فمغفرة الذنوب بالحج ودخول الجنة مرتب على كون الحج مبرورا.
علامات الحج المبرور:
إنما يكون الحج مبرورا باجتماع أمرين فيه:
- أحدهما: الإتيان فيه بأعمال البر. والبر يطلق بمعنيين أحدهما: بمعنى الإحسان إلى الناس ، كما يقال: البر والصلة. وضده العقوق.
وفي صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن البر فقال: «البر حسن الخلق».
وكان ابن عمر يقول: إن البر شيء هين؛ وجه طليق وكلام لين. وهذا يحتاج إليه في الحج كثيرا، أعني معاملة الناس بالإحسان بالقول والفعل.
قال بعضهم: إنما سمي السفر سفرا، لأنه يسفر عن اخلاق الرجال.
وفي المسند عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «بر الحج إطعام الطعام، وطيب الكلام»[حسنه الألباني].
وسئل سعيد بن جبير: "أي الحاج أفضل؟"، قال: "من أطعم الطعام، وكف لسانه"، قال الثوري: "سمعت أنه من بر الحج".
وقال أبو جعفر الباقر: "ما يعبأ بمن يؤم هذا البيت إذا لم يأتِ بثلاثة: ورع يحجزه عن معاصي الله، وحلم يكف به غضبه، وحسن الصحبة لمن يصحبه من المسلمين"؛ فهذه الثلاثة يحتاج إليها في الأسفار، خصوصا في سفر الحج فمن كملها فقد كمل حجه وبر.
خدمة الحجيج:
ومن أجمع خصال البر التي يحتاج إليها الحاج: ما وصى به النبي صلى الله لعيه وسلام أبا جري الهجيمي فقال: «لا تحقرن من المعروف شيئا أن تأتيه ولو أن تهب صلة الحبل، ولو أن تفرغ من دلوك في إناء المستقي، ولو أن تلقى أخاك المسلم ووجهك بسط إليه، ولو أن تؤنس الوحشان بنفسك، ولو أن تهب الشسع»[قال الألباني صحيح لغيره].
وفي الجملة فخير الناس أنفعهم للناس، وأصبرهم على أذى الناس، كما وصف الله المتقين بذلك في قوله: {الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ ۗ وَاللَّـهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}[سورة آل عمران: 134].
والحاج يحتاج إلى مخالطة الناس، والمؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم أفضل ممن لا يخالطهم ولا يصبر على أذاهم.
قال ربيعة المروءة في السفر: "بذل الزاد، وقلة الحلاف على الأصحاب، وكثرة المزاح في غير مساخط الله عز وجل" (1).
وجاء رجلان إلى ابن عون يودعانه، وسألانه أن يوصيهما، فقال لهما: "عليكما بكظم الغيظ وبذل الزاد".
الإحسان إلى رفقة السفر:
والإحسان إلى الرفقة في السفر أفضل من العبادة القاصرة لاسيما إن احتاج العابد إلى خدمة إخوانه وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم في سفر في حر شديد ومعه من هو صائم ومفطر، فسقط الصوام وقام المفطرون، فضربوا الأبنية وسقوا الركاب، فقال النبي صلى الله عليه وسلم «ذهب المفطرون اليوم بالأجر» [متفق عليه].
وقال مجاهد: "صحبت ابن عمر في السفر لأخدمه فكان يخدمني".
وكان كثير من السلف يشترط على أصحابه في السفر الخدمة والأذان.
وكان أبن المبارك يطعم أصحابه في الأسفار أطيب الطعام وهو صائم.
والمعنى الثاني مما يراد بالبر فعل الطاعات كلها وضده الإثم.
وقد فسر الله تعالى البر بذلك في قوله: {وَلَـٰكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّـهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَىٰ حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا ۖ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ ۗ أُولَـٰئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا ۖ وَأُولَـٰئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ}[سورة البقرة: 177].
فتضمنت الأية أن أنواع البر ستة أنوا ع من استكملها فقد استكمل البر وكلها يحتاج الحاج إليها فإنه لا يصح حجه بدون الإيمان ولا يكمل حجه ويكون مبرورا بدون إقام الصلاة وإيتاء الزكاة؛ فإن أركان الإسلام بعضها مرتبطة ببعض؛ فلا يكمل الإيمان والإسلام حتى يؤتى بها كلها، ولا يكمل بر الحج بدون الوفاء بالعهود في المعاقدات والمشاركات المحتاج إليها في السفر الحج، وإيتاء المال المحبوب لمن يحب الله إيتاءه ويحتاج مع ذلك إلى الصبر على ما يصيبه من المشاق في السفر، وهاك أخي الحاج بعضا من خصال البر المرجو من الحج.
المحافظة على الصلاة:
فأقام الصلاة أهم خصال البر، فمن حج من غير إقام الصلاة، لاسيما إن كان حجه تطوعا كان بمنزلة من سعى في ربح درهم، وضيع رأس ماله وهو ألوف كثيرة.
وقد كان السلف يواظبون على قيام الليل على راحلته في أسفاره كلها ويتر عليها.
وحج مسروق فما نام إلا ساجدا!!
وكان محمد بن واسع يصلي في طريق مكة ليلة أجمع في محمله، يومئ إيماء.
فنحن ما نأمر إلا بالمحافظة على الصلاة في أوقاتها فإنه لا يرخص لأحد أن يصلي صلاة الليل في النهار ولا صلة النهار في الليل ولا أن يصلي المكتوبة على ظهر راحلته، إلا من خاف الانقطاع عن رفقته، أو نحو ذلك مما يخاف على نفسه.
كثرة ذكر الله:
ومن أعظم أنواع بر الحج: كثرة ذكر الله فيه، وقد أمر الله بكثرة ذكره في إقامة مناسك الحج مرة بعد أخرى وخصوصا كثرة الذكر في حال الإحرام بالتلبية والتكبير وفي الترمذي وغيره «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل: "أي الحج أفضل؟"، قال: "العج والثج"»[صححه الألباني].
فالعج: رفع الصوت بالتكبير والتلبية.
والثج: إراقة دماء الهدايا والنسك.
ذبح الهدي:
والهدي من أفضل الأعمال. قال تعالى: {وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُم مِّن شَعَائِرِ اللَّـهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ}[سورة الحج: 36]، وقال تعلى: {وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّـهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ}[سورة الحج: 32]، وأهدى النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع مائة بدنة.
اجتناب الإثم:
الأمر الثاني مما يكمل بر الحج: "اجتناب أفعال الإثم فيه من الرفث والفسوق والمعاصي".
قال تعالى: {فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ ۗ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّـهُ ۗ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَىٰ}[سورة البقرة: 197].
وفي الحديث الصحيح: «من حج هذا البيت، فلم يرفث، ولم يفسق، رجع كيوم ولدته أمه» [رواه البخاري].
خيرا الزاد التقوى:
فما تزود حاج ولا غيره أفضل من زاد التقوى، ولا دُعي للحاج عند توديعه لأفضل من التقوى.
قال بعض السلف لمن ودعه للحج: "أوصيك بما وصى به النبي صلى الله عليه وسلم معاذا حين ودعه: «اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها ، وخالق الناس بخلق حسن»[قال الألباني حسن لغيره]".
طيب النفقة:
ومن أعظم ما يجب على الحاج اتقاؤه من الحرام، وأن يطيب نفقته في الحج، وألا يجعلها من كسب حرام.
الحذر من الرياء:
ومما يجب اجتنابه على الحاج وبه يتم بر حجه؛ ألا يقصد بحجه رياء ولا سمعة ولا مباهاة ولا فخرا، ولا خيلاء، ولا يقصد به إلا وجه الله ورضوانه، ويتواضع في حجه ويستكين ويخشع لربه.
وروي عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم حج على رحل رث وقطيفة ما تساوي أربعة دراهم وقال: «اللهم اجعلها حجة لا رياء فيها ولا سمعة»[قال الألباني صحيح لغيره].
قال رجل لابن عمر: "ما أكثر الحاج"!، فقال ابن عمر: "ما أقلهم!".
وقال شريح: "الحاج قليل والركبان كثير، ما أكثر من يعمل الخير، ولكن ما أقل الذين يريدون وجهه".
____________
(1) لأن السفر مظنة الوحشة والكآبة، فيحتاج فيه إلى نوع من المزاح والبسط بما لا يخرج عن حدود الشريعة.
-بتصرف يسير-
من كلام الإمام الحافظ
ابن رجب الحنبلي
</h2>