المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : الأديبة عبير محمد النحاس


سمر محمد
02-28-2010, 05:40 AM
-من مواليد سوريا – حمص
-مدرسة لمادة الرسم
-طالبة سنة ثانية في - جامعة الإمام الأوزاعي للدراسات الإسلامية
-حاصلة على شهادة المركز الكندي للتنمية عن دورات ( أسرار القوة الذاتية ) ( قوة التحكم في الذات )
-عضو عامل في رابطة أدباء الشام
-عضو رابطة الواحة الثقافية
-مشرفة أدب الطفل في منتدى القصيدة العربية

-نشرت قصصا و رسومات للأطفال في:
- المجلة العربية
- مجلة النبات الحسن
- مجلة أجراس الإعلانية

-من إصداراتها :
مجموعة قصصية بعنوان أبطال صغار من فلسطين - دار القمر الصغير

-قامت برسم :
سلسلة الأخلاق الإسلامية – دار الإرشاد
سلسلة الآداب الإسلامية – دار الإرشاد

- قيد النشر :
مجموعة قصصية بعنوان ( تلميذة الرومان )
سلسلة قصصية للأطفال بعنوان ( سلوكي القويم )
سلسلة قصصية للأطفال بعنوان ( مشكلتي مع )
مجموعة قصصية للأطفال مع الرسوم بعنوان ( مغامرات بنات )
السيناريو :قامت بكتابة فيلم كرتوني للأطفال
مسلسل السيرة النبوية( رسوم متحركة للأطفال) لصالح شركة ألاء للإنتاج الفني

- قيد الإنجاز :
رواية مصورة لليافعين بعنوان ( صيف لا ينسى )
موسوعة قصصية مصورة لتعليم قواعد النحو و الإملاء للأطفال
العديد من السيناريوهات الكرتونية الإسلامية

سمر محمد
12-09-2010, 09:14 AM
الكَوكَبُ الآخَر
دخَلت زينة غُرفة الَّصفِّ مبتسمة , وقف جميع الصِّغار احتراما لها كمَا اعتادوا , أشارت إليهم بيدها أن اجلسوا , و هي تَقول :
- استريحوا يا أولاد .
علَّقت حقيبتها على الكرسيِّ , و أبعدت وشاحها الصوفي الأبيض عن رقبتِها .. قامت بطيِّهِ ووضعَتْهُ على الطَّاولة مُسرعة لتَتَوجَّه نحوَ السبُّورة و تسجِّل التَّاريخِ و لِتَتْرك مكانَ موضوعِ الدَّرسِ - الذي ينتظِرُه الصِّغار- فارِغاً .
اسْتَدارت نحوَ العيونِ المُتلهِفَة , و ابتَسمت مجدَّدا لبَريقِها المُتَسائِل, و لمْ تَشَأ أنْ تُطيلَ انْتظارَها فقالت بصوتِها الهادِئ :
- كما خلقَنا الله بصورتِنا الجَميلةِ هذه على هذا الكوكبِ الَّذي نعرِفهُ جيداً و نحِبُّه كَثيراً أليسَ من الممكن أن يكونَ قد خلقَ غيرنا على كوكبٍ آخرٍ بعيدٍ لا نعرِفهُ ؟!
صَاح الجَميع :
- نعم مُمكن
ابتسمت و أكملت :
- جميل ٌجِداً , ألا يُمكنُ أنْ يكونَ لهذِه المخْلوقاتِ حَضاراتٌ و لغاتٌ و سياراتُ و أشجارٌ و بيوت ؟!
- نعم
- أليس من المُمكنِ أنْ نلتَقي بهم في يومٍ من الأيامِ و نزورُهُم و يزورُونَنَا ؟
ضَحِكَ الجَميع :
- نعم نعم
أشارتْ نحوَ سارِي :
- ألا يمكن أن يَعملِ سَاري طبيباً في مُستشفى من مُستشفياتِ ذلك الكَوكَب ؟
عَلَتْ ضَحِكاتِهم .
أشارتْ نحوَ أدهم صَاحِب اليدِ البلاستيكيَّة :
- و هل منَ الممكِن أن نتَلقى دعوة لحُضور حفلِ زفافِ أدهمَ فنجِد أنَّ نصفَ المدعوِّينَ قد حضروا مع العَروس منَ الكوكبِ الجَديد ؟
ضجَّ الأطفالُ بالضّحِك, و ابتَسم أدْهَم بِخَجل و هو يخفي يده الصِّناعية مجددا تحت طاوِلةِ مقعدهِ , سُرَّتْ بابْتِسامَتِه الأولى و أكمَلت قائِلة :
- فكيفَ تتخيَّلون شَكل الفَضَائيِّين ؟
أجابوا بمَرَح :
- لهم أربعَة عيون .
- خمسة .
- لهم ستة أرجل و ستَّة أذْرع .
- طوالٌ جِدا
- لهم قرون
أكملتْ :
- هذا رائع و كيفَ تتصوَّرونَ ألوانَهم ؟
علت صيحاتهم :
- لونُهم أخضر
- بل أحمر
- لا لا أزرق
بدأَت ترى لوحاتٍ جميلةٍ تلوحُ أمامَها :
- فكيف سيكون شَكل بيوتِهم ؟
قفز سامر قائلا :
- بيوتهم لها أجنحة
- بيوتهم مثل الصواريخ
- يبنونها على أعمدة ملوُّنة
أشارت بيديها ليجلسوا جميعا :
- فهل تختلف تربه كوكبهم عن تربة كوكبنا ؟
و جاءت الإجابات بسرعة :
- تربتهم حمراء
- برتقالية
- زرقاء
عادت نحو السبُّورة لتكتبَ عِنوانا لدرسِها ( الكوكبُ الآخر ) ثم لتعودَ أدراجَها و تقفَ قبالتَهم قائِلة :
- كلُّ ما ذَكرتُموه كانَ رائِعاً , هيَّا لترسُموا لنا هذا الكوكَب الجَديد .
شُغِفَ الجَميعُ برسْمِ لوحاتِهم , و اقتربَ أدهمُ مِنها حامِلاً عُلبة ألوانِه بيدهِ اليُمنى , و قد ثبَّتَ دفتَره على صدرِه بتِلك اليد الصَّلبة , ابتسمت لاقترابه , نظر نحوها مستأذنا بالرسم على طاولتِها , أبعَدت وشاحها عن المَكان , وضعَ العُلبة أولا ثمَّ سحَب الدَّفْترَ و قامَ بفَتحِهِ و بدأ بالرَسم , تركتهُ مطمئنة لتقوم بجولة بين المقاعِد و ترى انطلاقَة الخيالِ الجامِح في لوحاتِهم , اقتربتْ من أدهمَ بعدها لتمسَح على رأسهِ و هي تُتابعُ ما يرسُمه بيدهِ الصَّغيرة , رأتْ رجُلا صَغيراً أخضر اللَّونِ له أربعةُ عيونٍ و رجلان و يدٌ واحدةٌ , نظَرَ إليها أدْهم و قد فَهِم سرَّ صمتِها المُتَسائِل و قال مبتَسما :
- السُّكَّان على هذا الكَوكَبِ يمتلكونَ يداً واحدة .

سمر محمد
12-09-2010, 09:17 AM
لم أكن مضطرة لارتداء قطعة كبيرة من الحلي الذهبية أو الإكسسوارات المقلَّدة وأنا أستعد للذهاب إلى منزل صديقة طفولتي (غالية), قمت فقط بارتداء (جاكيت) من الكتان البني بقصَّة كلاسيكية, و(تنورة) بقصة مستقيمة, واكتفيت بقرط صغير, ولم يكن هناك داع لحمل أيٍّ من الحقائب التي تَظهر ماركة صانِعها عليها, فقد كانت عينا غالية تستطيعان تمييز كل ما هو ثمين دون أن ترى ذلك الشعار الصارخ.
في محل بيع الزهور انتَقيت بعض زهرات البنفسج, وطلبت نوعاً من الزهور الصغيرة ذات اللون الأصفر معها, واخترتُ شريطاً من الساتان البنفسجي لضم الباقة الملفوفة بقطعة من القنب الطبيعي الجميل, وحملت معي زجاجة من عطر(غالية) المفضَّل, ولم أجرؤ على شراء أي من أنواع الشوكولاته التي تعشقها, فسبب زيارتي هو خروجها من المستشفى بعد إصابتها بنوبة قلبية مفاجئة, وقد خشيت أن يكون الدسم والسكر من الأكلات المضرة لها.
في الطريق ابتسمتُ وأنا أتذكر آخر لقاء جمعني بها، وكنت قد اخترت –كعادتي- قطعة من الشوكولاته المستطيلة, وبعد تناولها قمت بطي ورقة السولوفان التي غُلِّفت بها, ومن ثم وضعتها في صحن الكريستال الموضوع على (الترابيزة) الموجودة أمامي، فلاحظتُ ابتسامتها ذات المغزى, ولاحَظَتْ تساؤلي.. فقالت:
“كما أنت دائما, تتهربين من المواجهة وتفضلين التكيُّف, وتمتلكين الكثير من الرومانسية وبعض الأفكار المنظمة”.
ضحكت كثيرا يومها, واعترضت على قولها بأنني أتهرب من المواجهة, وأخبرتها أنني فقط أمتلك بعض الصبر, وعندما ينفذ لا أجد ُبدَّاً من المواجهة، ومهما كانت النتائج, فوافقتْ بعد أن ذكَّرتها بعدَّة مواقف كانت قد شَهِدتها بنفسها.
كنت أعرف ولعها بالشوكولاته, وتناولها المفرط لكل المنتجات التي تتعلق بها, فقد كانت تفاجئ الجميع في المدرسة بكعكاتها المغطاة بالشوكولاته السائلة التي تجلبها لنا لنتناولها سراً قبل مجيء المدرِّسة, ثم تقوم بتقطيعها بنفسها, وتخصُّني بقطعة كبيرة في كل مرة, وكنت أرد لها الجميل وأخصُّها بأكبر قطعة(بيتزا) أقوم بصنعها وجلبها معي إلى المدرسة عندما يحين دَوري.
وكانت تدافع عن محبوبتها تلك, وتعتبر أن بشرتها الصافية أكبر دليل على براءة الشوكولاته من التسبب بظهور حب الشباب, وطالما استمتعت بتلك القصص اللذيذة التي كانت تحكيها لنا عن تاريخ تلك الأكلة منذ أن اعتبرها (الأزتيك والمايا) طعاما للآلهة, ومن ثم إهمال كولومبس لتلك الحبات التي أهداه إياها إمبراطور (الأزتيك), واهتمام ( هيرنان كوريتس) بها وحملها نحو إسبانية بعد سبعة عشر عاما, وحصوله على لقب مكتشف الذهب البني.
وقد نصحتني عندما كنت حاملا بطفلي الأول بتناول الكثير منها ليخرج طفلي إلى الحياة مرحا وهادئا كما هو طفلها، ففعلت وكان طفلي كطفلها تماما.
وفي ذلك اليوم الذي هاتفتْني فيه لتشكو لي تغيُّر زوجها معها, وذهبت مسرعة يسبقني خوفي عليها, ووجدتها جالسة على أريكتها البنية وقد احتضنت طبقا من الشوكولاتة المحشوة بالقهوة, وراحت تتناوله وهي دامعة, وأخبرتني أنها تحاول رفع معنوياتها المحطمة.
وقدمت لي بعض الحبات الداكنة المُرَّة -عندما كنا نمارس رياضة المشي الصباحي معا بعد ولادتنا بزمن متقارب- حرصا على (الريجيم) الجماعي الذي اتفقنا عليه, ودعما لتلك الشراكة.
واختارت قناع الشوكولاته عندما قمنا بزيارة صالون التجميل لعمل علاج لبشرتنا, واخترت لنفسي –وقتها- قناع الفاكهة, وبدأت جلسة التقشير والتنظيف بثقة, ثم ظهرت بشرتها صافية تماما, وأذكر يومها أنني قررت عمل ذلك القناع في المنزل, فأخبرتني أن علي إذابة قطعة كبيرة من الشوكولاته في حمام مائي ثم إضافة بعض الحليب وملعقة من الملح الخشن, ففعلت وكانت النتائج مرضية جدا, ولكن رائحة القناع لم تغادر وجهي ليومين بعدها.
وفي حفل يخصني حصلت منها على مستحضرات غالية لترطيب وتغذية البشرة بزبدة الكاكاو وبعض عناصر الشوكولاته.
دخلتُ غرفتها أخيرا، وقبَّلتها بعد أن أبديتُ إعجابي بثوبها المُترف والمزين (بالدانتيل) المطرز, وبتسريحتها الجميلة, ولم أنطق بشأن تلك الصفرة التي علت وجهها وصدمتني بشدة.
واستكمالا لرونقها قمت بفتح زجاجة العطر, ونثرت رذاذه على رقبتها وأنا أقاوم دمعة كادت تفضح خوفي عليها, ووضعت زهراتي على (الكومودينة) بجانبها, وابتسمت ابتسامة فهِمَتْها عندما رأيت طبقا من الشوكولاته عليها, فقالت وهي تناولني مجلة ملونة: “لقد أكدت دراسة أجراها أطباء في ألمانيا أن الشوكولاته مفيدة للقلب”.

سمر محمد
12-09-2010, 09:19 AM
لعبة الجيران
كانت التحضيرات لتلك اللعبة تبدأ قبل يوم كامل على الأقل من ساعة الصفر , فقد كنت في السابعة من عمري و أختي التي تكبرني بعام واحد , و خالتي التي تكبرها بعام أيضا نحتفظ بطقوس خاصة للعبتنا المفضلة , و التي كنا نسميها ( لعبة الجيران ) .
فقد كان يتمُّ تقسيم الغرفة الخاصة بنا إلى ثلاثة منازلَ مستقلة , و إلى سوق للخضروات و المأكولات و الملابس , و إلى أماكن للعمل الذي سنكون موظفات فيه , و قبل موعد اللعبة بيوم كامل كنا نقطّع الورق الأبيض إلى قطع متساوية , و نكتب عليها أرقاما تماثل نقود الكبار , و من ثم نودعها المصرف الذي سنأخذ منه أجرنا بعد العمل , و نقوم بترتيب المكعبات و الألعاب الصغيرة الحجم على طاولة الدراسة , و نكتب على كل مجموعة منها اسم الصنف الذي يشبهها, فيتوفر لدينا الكثير من الأنواع المختلفة من اللحوم و الخضراوات و المواد التي تلزم البيوت جميعا .
و كانت الخزائن تُفرغ من الملابس على آخرها و تكوم الملابس على الكراسي استعدادا لرحلات التسوق التي سنقوم بها .
و لم نكن ننسى أبدا أن نقطع أوراقا بحجم صغير للغاية و نتركها في طبق عميق مع القليل من الماء و نقص أوراقا بشكل مربعات لتكون لنا كما ورق العنب و الأوراق الصغيرة المنقوعة بالماء هي الحشو المعدّ لها .
و كنا نستيقظ قبل الفجر لنبدأ تلك الّلعبة الممتعة , و نمارس فيها حياتنا كما الكبار , فنستيقظ لنُنَظف و نُرتبّ بيوتنا الصغيرة جدا , و نشربُ قهوةَ الصباح, و نقوم بعدها بتبديل ملابس ألعابِنا أو أولادِنا الصغار كما نتخيّلهم و نوصِلهم للروضة و نحن نحمل حقائب تحتوي على فوط إخوتنا الصغار وأشيائهم الأخرى كالبودرة و زجاجات الرضاعة و الملابس المتنوعة , و نتوجه بعدها نحو أعمالنا لنضع نظاراتنا الشمسية الصغيرة على عيوننا كما يفعلون , و بالكاد كنا نرى ما نقوم به من أعمال كتوقيع الكثير من الأوراق بمتعة لا توصف و كما يفعل المُدراء في المسلسلات التلفزيونية تماما , و قد كنا نحتفِظ بتلك الأوراق خصّيصا لتحمِل تواقيعنا المحترمة , و من ثم لا نعلم من الذي يقرر نهاية الدوام, فنخرج لنتسلَّم رواتبنا من المصرف , و نقوم بالتسوق في طريق عودتنا فنشتري ما لذّ وطاب من المأكولات و الأغراض التي نحتاجها , و نأتي بالأولاد للمنزل , و نحضِّر طعام الغداء المكون من بعض المكعبات التي تجمعها أطباقنا الصغيرة الملونة, ثم نذهب بالألعاب إلى القيلولة حيث يمكننا وقتها غسل الملابس و نشرها على الحبال التي نشَكّلها من أحزمة ثيابنا و نربطها بأبواب الخزائن و من ثم نكويها بما نتخيله مكواة كهربائية , و نغسل أطباقنا الحلوة دون تذمر .
وقد نقوم بزياراتٍ بعد العصر – حسب توقيتنا طبعا – لبيوت بعضنا , و تعد من أجل الزيارة صاحبة البيت طعام الضيافة و القهوة, و من ثم نعود في المساء لنقوم بشُغل الصوف أو لف ورق العنب أمام التلفاز و نحن نتناول المكسرات و نشرب العصير من كؤوس لا تتجاوز عقلة الإصبع و كانت الأمور تجري بانسيابية و روعة و لم نكن نشعر بالوقت حتى تبدأ والدتي بطلب أدوات المطبخ التي افتقدتها, و التي تحتاجها لإعداد وجبة الفطور و كنا نشعر وقتها أننا فقدنا خصوصيتنا , و أن هناك من اقتحم علينا عالمنا السحري , فكنا نبدأ بإرجاع الأشياء إلى مكانها بتثاقل شديد و قد انتهى وقت لا يقدّر بثمن .

سمر محمد
12-09-2010, 09:20 AM
حفاظاً على العرش ..
لم تستطع تلك الدعوة التي تلقتها لحضور حفل العرس أن تسعدها هذه المرة , بل شعرت أنها في ورطة حقيقية , فظروف زوجها و ضائقته المالية في أوجها , و هذه الحفلات و ما يتبعها من ملابس باهظة الثمن و إكسسوارات و حليّ غالية تحتاج ما لا تملكه في هذه المحنة التي تعصف بها .
كانت أناقتها تحظى باهتمام كبير منها رغم أنها لم تكن تسعى إلى لفت الأنظار إليها , و لكنّ اهتمامها بالجميل و الجديد كان كفيلا بجذب أنظارهنّ نحوها , و دفعها مضطرة للاشتراك في تلك المنافسات المستعرة التي تدور حولها, فكان أن توِّجت ملكة عليهن دون منازع .
لم يكن ليسهل عليها التنازل عن عرشها الجميل عندما تذهب للحفل بفستان يعرفه الجميع هناك , و لم يكن الاعتذار عن الحضور بالفكرة الصائبة في هذا الوقت , فهو بمثابة إعلان صامت عن أزمة تمر بها , و ستكون حتما في مرمى ألسنتهن و مجال تندرهن و شفقتهن المخادعة .
وقفت حائرة أمام خزانتها المكتظة بما لم يرضها , و راحت تتمعن في ملابسها لتنتقي ما ينفع للحفاظ على مكانتها .
كان فستانها الأسود الكلاسيكي الهادئ و الموقع باسم مصمم معروف مستعدا لنجدتها كما في كل مرة تضيق بها السبل فلا تعرف ماذا ترتدي , و كان هو الصديق الوفي الذي لا يخيّبها, و هو السهل الممتنع , و الموضة السنوية الراسخة في عالم الأزياء الذي لا يكف عن التبدل و التغيّر , فقد اعتبر رمزا للأناقة النسائية منذ أن قامت ( كوكو شانيل ) بتصميمه في عام ألف و تسع مائة و ست و عشرين , و تربع دوما في أعلى قوائم المجموعات التي يطلقها المصممون العالميون .
و قد عملت هي بنصيحة قرأتها للمصمم الراحل( كريستيان ديور) قال فيها ” أنه أهم قطعة يجب أن تمتلكها المرأة ” فاختارت فستانا أسود بقماش فاخر و خياطة رفيعة و قصة تشبه إلى حد ما شكل فستان الشوال الإنكليزي المعروف , و ممهورا بتوقيع صاحبه الشهير , و تعمدت أن يكون بلا أكمام ليناسب أيام الحر, و اشترت شالاً أسود من الصوف الخفيف لتلبسه معه عندما يكون الجو باردا .
قضت يوما كاملا في التسوق بحثا عما تتحايل به على فستانها الناعم لتضفي عليه شكلا جديدا و متميزا . و عادت إلى المنزل بحزام جلدي عريض أسود لامع و متقنٌ جدا من محل راق تعرفه , و عقد ضخم من اللآلئ الكبيرة الحجم و التي لا يمكنها أن تعطي انطباعا بأنها أصلية , و كانت قد تعمّدت شراءها بهذا الحجم الكبير بعدما رأت مثلها معلقة على رقبة ( ميشيل أوباما ) زوجة الرئيس الأمريكي , و في فترة الانتخابات تحديدا , و قد أكد الجميع أن من المستبعد أن تكون تلك اللآلئ أصلية , و هذا ما أشارت إليه يوما المصممة ( شانيل )حين قالت : ” لا يفترض بالمجوهرات أن تجعلك تبدين ثرية , بل المطلوب منها أن تجمِّلك , و هما أمران مختلفان” و قد اقتنعت بالفكرة تماما و كان أن تجرأت على ركنِ ذهبها في علبة الموزاييك , و راحت تقتني ما يحلو لها من مجوهرات تقليدية بأحجام كبيرة و صغيرة و بمختلف الأشكال و الألوان التي تناسب ما لديها من ملابس .
منذ الصباح بدأت ببرنامج العناية المنزلية ببشرتها , فقامت بوضع قناع البيض و العسل و خليط من زيت الزيتون و زيت الجزر على وجهها لساعة كاملة, و بعد غسله راحت ترشه بماء الزهر كل حين , و من ثم وضعت مستحضرا من خلاصة الشاي الأخضر و زهر البابونج و تركته حتى المساء .
و قبل الموعد بساعة أكملت ماكياجها الخفيف و قد اختارت له اللون الرمادي الساحر , و تركت شعرها ينساب بحرية دون أن تفكر في الذهاب إلى صالون تجميل استكمالا لمظهرها الناعم .
ارتدت فستانها المحافظ و شدته بالحزام الجلدي اللامع , ثم تقلدت عقدها الضخم , و سوارا من الكريستال الأسود تتدلى منه بعض الأحجار من اللون نفسه و بأحجام مختلفة , و اختارت حذاء أسود بكعب عال رفيع , و وشاح من الساتان الطويل , وحملت حقيبتها السوداء الصغيرة المرصعة بماسات رقيقة و المغلفة بالدانتيل الأسود , وقرأت على نفسها آيات الحفظ و أذكار الحماية قبل أن تغادر نحو الغرفة التي يجلس فيها زوجها معلنة استعدادها للذهاب إلى الحفل .
ترك زوجها كتابا كان يتصفحه , و نظر بدهشة نحو الجمال الذي لم يكلفه شيئا مما كان يتكبده من أموال طائلة أيام الرخاء , ابتسم و قد أعجبه صمودها و قدرتها على تدبّر أمرها دون أن تذيقه الأمَرّين كما كانت تفعل عندما تستعد لمثل هذه المناسبات .
دخلت الحفل بثبات و ثقة , أحاطتها نيران العيون الكحيلة , ابتسمت و قد أدركت أنها أشعلت المنافسة بقوة , و أنها حصلت على العرش مرة أخرى و بجدارة لتميّز شكلها , و اختلافها الأنيق عن الأخريات .
لم تغرها أقمشة أثوابهن المهفهفة و المثقلة بالأحجار الساحرة , و لم تفتنها تسريحات شعورهن المعقدة التي ترزح تحت وطأتها رؤوسهن الجميلة .
فقط اكتفت بابتسامة ثقة أرسلتها للجميع , و راحت ترتشف قهوة العرس بهدوء ,و تشكر بحب صديقها الوفي الأنيق .

سمر محمد
12-09-2010, 09:21 AM
التشيؤ
كنت تستطيع بسهولة , أن ترى ذلك البريق في عينيها , و تلك الابتسامة المرسومة على شفتيها , و تدرك مقدار سعادتها , و هي ترتدي ملابسها بهدوء , كما أمرت والدتها , دون تذمرها المعتاد .
ارتدت بنطال الجينز المطرز بالخيوط الوردية , و تلك البلوزة الوردية القصيرة , و حذاءها الرياضي المزين بالورود الصغيرة , و تركت شعرها الكستنائي ينساب تحت قبعتها الواقية من الشمس , و التي طالما رفضت ارتداءها , في الأيام العادية , و لكنها اليوم لم تكن كعادتها مطلقا , لقد كانت تعيش لحظات استثنائية و هي تستعد للذهاب مع والدها إلى بيت منير ,
كانت الزيارة حلما يراودها منذ أن لمحت عيناها لوحته التي أهداها لوالدها , و التي يصور فيها عمودا من خشب له شكل امرأة تحمل طفلها .
كانت تجلس أمام اللوحة طويلا , و تعيش مع عالم الألوان الزيتية فيها , تحلم بامتلاكها تلك الألوان , وامتلاكها لمرسم خاص بها , و تشعر بلذة نشر اللون على القماش المشدود , و ربما تحلم بأن تهدي لأصدقائها لوحاتها البارعة .
و كم سألت والدها قائلة :
- ما اسم هذه اللوحة يا أبي ؟
فكان يجيبها بابتسامة , و هو يرى حنينها للألوان و شوقها لإنجاز يماثل لوحات منير :
- اسمها التشيؤ يا حلوتي .
لم تكن لتهتم للاسم , أو المعنى الذي لم تفهمه , كانت متأكدة أن لمنير كما لكل الناس فلسفتهم الخاصة , و لربما شعرت أنه كان يعاني وقتها من غربة عن البشر , فرأى الناس يومها كما الأشياء .
رغبة ملحة للقائه حلت بها , فكانت ترجو والدها أن تكون معه , في زيارته لبيت منير , وكاد الحلم أن يصبح حقيقة .
بضع دقائق فقط تفصلها عن رؤية منزل منير , أو مرسمه , كادت تطير من الفرحة , و هي تدخل تلك الحديقة الجميلة التي تسبق باب المرسم , و ترى كل تلك المنحوتات الرائعة التي زين بها منير حديقته , و قام بتوزيعها بين زهوره الساحرة , راحت تحدث نفسها :
- سيكون لمرسمي مثل هذه الحديقة , و سأنثر المنحوتات بين زهوري تماما كما تفعل أنت يا أستاذ منير .
دخلا على المرسم أخيرا , كان قلبها يخفق بشدة , و هي ترى تلك الكميات الكبيرة من اللوحات , الأطر الفارغة , الكثير الكثير من الفراشي , الألوان الزيتية , حوامل الألوان الخشبية الكبيرة و الصغيرة الممتلئة بالألوان , كانت كل تلك الصور في عينيها مع تلك الواجهة الزجاجية الكبيرة , أجمل من جميع مدن الأحلام , اقترب منير مصافحا والدها , و حياها بابتسامة , ابتسمت و هي تجلس حيث أشار لها , راحت تؤرجح قدميها الصغيرتين مستمتعة بكل ما حولها , و غير منتبهة لأي كلمة يقولها الرجلان .
دفع منير إليها بكأس كبيرة من ( الكوكا كولا ) , و داعبت أنفها رائحة قهوتيهما الرائعة , فعادت من رحلة خيالها إلى عالم الحقيقة بينهما .
سأله والدها معاتبا :
- ما عدنا نراك في جمعتنا يا منير ؟ فأين الغياب ؟
تنهد بأسى :
- ما عدت قادرا على رؤية البشر يا صديقي , و ما عادت حياتهم تغريني , فأصبحت أرسم ليلا , و أنام طول النهار .
أذهلها منطقه الغريب , لم تجد لشرابها بعده نكهته الأولى , و تخلت رائحة القهوة عن مداعبة أنفها الصغير , خرجت مع والدها صامتة واجمة , لم تلق على الزهور تحية من عينيها الشاردتين , ركبت السيارة بجانب والدها , سألها بود :
- هل سررت يا حبيبتي ؟
- لا يا أبي , أنا أحب الرسم و الألوان , و أحب أن أكون رسامة عندما أكبر , و لكن لن أكون مثل العم منير .
رفع الوالد حاجبيه دهشة , فاستمرت قائلة :
- أنا أحب نور الشمس يا والدي , و أحب الاستيقاظ في النهار , أحب الناس جميعا , و لا أريد أن أبتعد عنهم , أو أن أراهم كالأشياء

سمر محمد
12-09-2010, 09:22 AM
كانت لمسة

لمْ يكنْ اللقاء الأول الّذي جمعني بفراس _ في الصفِ الثاني الابتدائي _ مفرحاً لأيٍّ منا ,
مُدَرِّسة للرَسم , تَعني , دفترَ رسم ٍ , و علبة ألوانٍ , و التزام بإتمام الرسوم , و هو أمرٌ لا يكاد يطيقهُ الطالب المجتهدُ , فضلا عن طالب لا يبالي بالدراسة مثل فراس .
لمْ تكن تلك الندوبُ التي يحملها وجههُ تشجعكَ على التفاهمِ معه , و لم يكن صوتهُ القوي ُ , و صراخهُ في وجهِ رفاقه , يأذن لك بالحديث ِالناصح المنمق , كانَ فراس أمامي كتلةً صماء .
سبب لي وجوده بين زملائه مشكلة حقيقية , فهو لا يتوانى عن رَكل هذا , و ضربِ ذاك , و العبثِ بأقلامِهم و رسوماتهم , و رَبما رميَها بعيدا , لأجد الصف في لحظات و كأنه مستشفى للمجانين .
و لم أملك حلا لضمان مسير الدرس , إلا أن أقف بفراس على طاولتي , و أقدم له بعض أوراقي , و أستعير له أقلام التلوين , ثم آمُرهُ بالرَسم مع تقطيب الجبين ,و أحرص حينها على البحث عن مكان ما في لوحته , يحمل بصيص أمل , فأشجعه , و يبتسم هو بسرور .
و ما إن يلمح بصيص ابتسامتي , حتى ينطلق بحديثه الذي لا ينتهي , و كنت استمع بدهشة تارة , و أرغم نفسي على الاستماع تارة أخرى , في محاولة لجعله يفتح تلك الأبواب المغلقة بيننا .
شيئا فشيئا بدأت ملامح وجهي تتغير في مواجهة ذلك الوجه الصغير , و بدأت ألمح في زجاج عينيه ألوانا من البؤس , و من حديثه المتواصل أستشف الكثير من ألامه و معاناته , علمت أنه يتيم الأبِ منذ عامين و أن زوج والدته رجلٌ سكير , و رأيت بعضا من أثارِ غضبه على جسد الغلام الصغير .
أخبرني عن أولاد الحي و محاولاتهم المستمرة للشجار معه , و عن جوعه و إخوته الصغار ..
و لم أزد على تقديم قطعة سكر له , أو أكتفي بالاستماع دون تعليق ., كنت أريده رجلا فقط .
أكتفي بمسح شعره الإنصات إليه


دخلت الصف فوجدته قرب الطاولة , و دفتر رسم جديد ينتظرني , و ابتسامة , وعلبة تلوين , كنت أدرك جيدا أنه حرم نفسه من قطعة حلوى ليرضيني بما اشترى , وجدتني أشرح درس اليوم , و أسرع إليه , لأجده يرسم بتطور ملحوظ .
رفع رأسه نحوي مبتسما ينتظر كلمة مديح .
أحطت وجنتيه الصغيرتين بكلتا يديّ , ابتسمت , و قلت بفخر :
- أحسنت يا بطل
عاد يلون بسرعة , دون أن ينسى شروطي الصعبة , أقصد التي كانت يوما صعبة عليه.
- ألون باتجاه واحد و أملئ كامل الصفحة باللون ..
و كان نصيب اللوحة أن تعلق يومها في معرض المدرسة الدائم , وسط فرحة و بريق عيني الصغير.
في الصباح التالي دخلتُ المدرسة , و وجدته يقترب مني , رافعا يده مستعدا للمصافحة .
مددت يدي مبتسمة , فضرب بكفه على راحتي بقوة كما يفعل الأشداء , لاحظت شعرا مسرحا, ووجها يشع نظافة و ابتسامة عذبة .
قال و هو يساير خطواتي :
- كيفَ حالكِ اليوم يا آنسة ؟

سمر محمد
12-09-2010, 09:22 AM
غياب الوردة الحمراء
وردة حمراء , خلف الأذن اليسرى ، و فنجان قهوتها ، و فله بلدية في صحن الفنجان ..
و كأن ثلاثين سنة , لم تكن قد مرت من عمرها ، و هي تعيش حالة من ذكريات الصبا التي عادت إليها ، و هي تتابع حلقات مسلسل تلفزيوني يحكي سيرة العندليب ، و كأنها أمامه اليوم كما كان و كانت ..
تهيم به حبا ، و تقتني كل جديد له ، و تحتفظ بصوره على وريقات كراساتها , بعد أن تذيلها بأبيات غناها ، و عاشت معها ذهولا عن الدنيا…
سنين من عمرها قضتها , و هي تبكي شبابه الغائب ، و تذكر أيامها الحلوة ، و هي تعيش نجاحه ، و قلبها الفتي يخفق لصوته الأنيق .
و كم كانت تفخر , لأنها أورثت بناتها حب ما قال ، و غنى ، و ترفعت بذائقتهن عن الطرب الرخيص .
و حتى حينما حاولت أن تشق لها طريقا بين الصالحين ، و أن تعكف على تلاوة القرآن الكريم ,أمر واحد ما زالت تعاني ولعها به ، و حبها له ، و تسأل الله أن يكف يدها عن مكتبتها , التي جمعت فيها اسطوانات , و صور , و كتب تحكي سيرته ، و حبها له .
و بين الحين , و الحين كنت تراها مع صوته ، ووردة حمراء خلف الأذن اليسرى ، و فنجان قهوتها ، و فله في صحن الفنجان …
تابعت حلقات المسلسل بشغف ، و ألغت كل المواعيد ، و سرور وردتها الحمراء كبير بخروجها من صندوق الموزاييك ، و جلوسها مجددا مع رشة عطر خلف الأذن اليسرى ، رغم بعض التجاعيد ..
و كلما حان موعد العرض , عاد البريق إلى عينيها ، ووردة حمراء خلف الأذن اليسرى.. و فنجان قهوتها.. و فلّة بلدية في صحن الفنجان .
أَمرٌ ما في سيرتهِ أخفى ذاك البريق …
و تصرفٌ ما - قامَ به – غيّب الوردة الحزينة في صندوق الموزاييك…
و اكتشافها لصفاتٍ في شخصه ، رَحمَ الفل البلدي من الموتِ في صحن الفنجان …
أغلقت المكتبة حينها بإحكام …
و جاءت الحلقة الأخيرة , لتبحث ، و تسأل عنها ، و عن وردة حمراء خلف الأذن اليسرى ، و فنجان قهوتها ، و فلة بلدية في صحن الفنجان .

سمر محمد
12-09-2010, 09:23 AM
رسالة

كانت عقارب السّاعة تقترب من العاشرة مساءً، عندما جلست زينة إلى حاسوبها , و أدارت زرّ التشغيل مُسرعة ، لتشهد وصول تلك الرّسالة اليوميّة إلى بريدها الإلكتروني ، كانت تدهشها تلك الدّقة في وصولها اليومي .
لم تكن تعيرها اهتماما في البداية , و ربما حذفتها مرارا دون أن تفتحها ، و لكن عنوانها الموحد ووصولها في تمام العاشرة مساء كل يوم ، جعلها تتنبه لها , و قد كتبت في خانة المرسل (مجهول).
بضعة أبيات من شعر ابن زيدون ، و وردة ، كانت كل ما تحمله تلك الرسالة الالكترونية .
لم تعد تمتلك تلك التقطيبة التي قابلت بها الحرف و الصورة في البداية ، بل بدأت تلمح ابتسامة على محياها عندما يلتقي بصرها بما تحمله من حروف وورود .
و لم تحدّثها نفسها بالرد على (مجهول) هذا ، مرة واحدة فقط رأت أن تخبره أن رسائله تصل بريدها ربما من باب الخطأ , ثم تجاهلت الأمر .
- من هو هذا المجهول يا ترى ؟
أهو شاب أو فتاة أخطأ إلى بريدها الخطا ؟
أتراه سمج يريد اختبار قوة احتمالها ؟
لا بأس فلديها من القدرة على الصّبر و التّحمل فوق ما سيتخيل .

قرأت أبيات الشّعر ، ابتسمت للوردة ، أغلقت حاسوبها ، غادرت نحو المطبخ , لتعود بعد برهة , و هي تحمل طبق( الفتوش) الذي طلبه غسّان منها و الذي تَبرع هي في إعداده , فتقوم بتقطيع الخضار بدقة بالغة , ثم تعمل على طلاء الخبز( بصلصتها) المكونة من الليمون , و الزيت البلدي , و الثوم , و رشة من النعناع المجفف , وتزجه في الفرن بعد أن تقطعه إلى مربعات , أو مثلثات , تزين بها الطبق الملون بكل أناقة .
وضعته على الطاولة مع كأس من عصير البرتقال , و طبق من الفطائر المقلية , و سارعت ترتدي فستانها الجديد , و تضع قليلا من أحمر الشفاه , ثم تزيد من كثافة رموشها بقليل من (الماسكرا) ، و ترتدي قرطها الذي تعبت , و أتعبت البائع في البحث عن لونه الذي يطابق لون الفستان تماما .
أعلمها صوت مفتاحه بوصوله , فسارعت لترش عطرها الهادئ , خلف أذنيها , و عند مكان النبض في معصميها , و لتقترب من الباب مرحبة مسلمة ، كان قد وصل عند المائدة , يبتسم للأطباق , عندما دخلت الغرفة :
- كيف حالك ؟
- بخير ، سلمت يداك ، أطباق شهية .
- شكرا .
أسرع يستبدل ملابسه , و جلست مع كوب نعناعها ، و هي تتأمل سروره بأطباقها ، و تستمتع بمتعته , و هو يتناولها بشهية .
أمسك كعادته جهاز التّحكم , و بدأ بتقليب المحطات , مكتفيا بمصافحة بصره – لكل قناة – لثوان معدودات , ثم لينتقل إلى غيرها مسرعا،
مضى الوقت أمام محطّة للأخبار ، ثم غادر غسّان الغرفة ، دون أن يتنبه إلى تطابق لون قرطِها مع لون الفستان , و دون أن يستمع إلى قصة الغريب منها .
عادت إلى كرسيها أمام الحاسوب , فتحت صفحة بريدها الإلكتروني , فتحت الرسالة , ابتسمت للوردة .

سمر محمد
12-09-2010, 09:23 AM
شحوب


أغلقت الباب ، أسندت ظهرها إليه ،أغمضت عينيها ، أخذت تتمتم أدعية و أذكار الحفظ و الحماية.
جرت نفسها جرا إلى المقعد الذي سيحتويها حتى عودته .
منذ مدة و هي لا تقوى على الحراك , و هو في الخارج , تزورها الأوهام , و الخيالات في غيابه , فتقعدها , و تشل حركتها ..
خُيل إليها أن يعود يوما كما عاد قريب لهم , و قد ثقبت رصاصة صدره .
أو كما عاد ابن الجيران , و لون أحمر يصبغ جسده الناحل .
لم يعد الخروج آمنا وسط هذا الهول من النزف و الدمار …
-ما بالها بغداد ما عادت تلك الحبيبة ؟!
ما بالها أذنت للأفاعي أن تلدغ من كانوا يوما أحبابها ؟!
-اللهم أعده إلي سالما ..
و يزداد مع مرور الدقائق شحوب محياها , أطرافها الباردة تمنعها حتى من إعداد طعام , أو كنس منزل ما عاد أي من أركانه يغريها بتزيينه ..
عاد فخارت منها القوى ..
-لن أحتمل خوفي عليك ..لنهجر بغداد ..أو ستهجر الروح مني الجسد بلا شك
-أنغادر و فيها الأهل و الأحباب؟
-أنت الآن كل أهلي , و كل من لي من الأحباب , ما عدت أطيق ارتشاف الهم , كلما هممت بإغلاق الباب دونك..
-إنما هي الأقدار , و لا بد من أن يصيبنا قدرنا أينما كنا .
- لست أحتمل عيني , دون نور من عينيك , و لتقطع مني اليد , إن لم تحتويها يديك , أكاد لا أقوى هنا على الحياة .
- سنغادر .. أجل سنفعل.. ليست تقر عيني , و أنا أرى ما تعانين , و لست محتملا شحوب وجهك الجميل , و ذبول شبابك الغالي ، سأعد أوراق السفر .
قطرات من الحياة , بدأت تسري في حنايا القلب ..
أن يبقى لها , فذاك جل ما تصلح به حياتها.. و إلا فما معنى البقاء من دونه.
أعدت ما يلزم بخفة
سيعود في أمان.. و لن تخشى ظلام الليل أن يطول..
كان السفر ليلا , و مع إشراق الشمس في أرض الشام ,عاد لون الورود إلى خديها , و كأنها تنسمت رياح الحياة .
أيام قليلة مضت , تنعم فيها بالأمان و السرور .
طيف الأهل هناك , بدأ ينادي قلب المحبين , أن ما زلنا ببغداد , و الأفاعي هناك تجول .
- كم ذا يعلوا نداؤك يا بغداد ؟
بجسده فقط كان معها , و الروح منه تهيم في شوارع الحبيبة .
انتقل حزنها إلى عينيه , و تلك أثار الشحوب في خديه .
أيشقى , و تسعد بامتلاكه .. و كيف لقلبها أن يرضى له العذاب.. ذاك هو المحال
- لنعد إلى بغداد ..
ابتسم .. أكملت :
- لنواجه العقارب , و الأفاعي بصدورنا هناك , لأقرأ لك كل يوم أذكار الحماية , و لأضع بعض المساحيق على شحوبي , في أرضك الحبيبة

سمر محمد
12-09-2010, 09:24 AM
تلميذة الرومان



لم يتصور مصعب الخير يوما , أن تهواه تلميذة لأوفيد ، لم يكن ليعلم و هو من طلق الدنيا أن ابنة الدنيا.. تلميذة الروماني … ستكون مع حبه على موعد , بعد ألف , و مئات من السنين .
كنت تقرأ اسم أوفيد محفورا على حركاتها ، و سكناتها ، و ابتسامتها..
كل ما فيها يشير إلى صانعها ، و أستاذها ..
كم أجادت دروسه , و أتقنتها ، كم أمالت عن الصواب قلوبا ..
و عرفت الفتى العَطِر ، تنشقت ، أدركت , و هي الخبيرة سحره ، و كم يفوق جودة ما كانت تعرفه , و يجلب لها .
أحبت الفتى أصيلا منعّما ، بدأت تتبعه في طرقات مكة ، غير آبهة للهيب الحجارة تحت قدميها .
تتنسم عطره البديع ، تتنعم بأصله النبيل ، و جمال طلعته .
دخل مصعب دار الأرقم ، و دخلت معه ..
جلس بخشوع أمام معلم الخير عليه الصلاة و السلام , و جلست تلميذة الروماني .
بكى مصعب حبا ، و بكت توبة ..
أسلم مصعب في دار الأرقم ، و أسلمت .
طلق الدنيا هناك ، و طلقت أوفيد .
أرسله المصطفى داعيا إلى المدينة ، فأعدت حقيبتها مسرعة .
تركت زجاجات باريسية ، كل الأصباغ , و الحلي ، كل أثواب الفتنة ..
و ديوان أوفيد ملقى , يستعر غيظا .
في بيوت المدينة , أسلمت مع كل قلب هداه مصعب ، و عاشت معه تتعلم فن الدعوة .
يوم الهجرة , كان قلبها مع الواقفين يحلق عاليا , تنظر إلى فرحة مصعب ، و تبكي فرحا .
عاشت رومانية الطباع في المدينة مع مصعب ، تزور بيت عمر , و تتهيبه ، تتعلم فنون الحرب من خالد ، و أصول الإنفاق من عثمان .
عاشت مع أهل الصفة سعيدة ، و عاد أوفيد إلى بلاده يائسا .
في أحد كانت هناك ، تنظر إلى فتاها الشهيد ، تحاول تغطيه قدميه و رأسه معهم فلا تفلح .
و دمعت لدمع الحبيب على مصعب .
نادت
- لمن تتركني ؟
أشار الفتى المعطر بريح أهل الجنة :
- إلى معلم الناس الخير .
أسرعت تقبل من تحت قدميه الشريفتين التراب ، تعيش قربه , و تحفظ الكتاب الكريم .
و لأنها تحب العطور , فقد احتفظت لنفسها بزجاجة , جمعتها من جراح الشهيد .
و ما تزال تأمل لقياه يوما ، و تأمل بعطر الشهادة , من جرحها هي , كما فعل مصعب .

سمر محمد
12-09-2010, 09:24 AM
حلوى و قهوة و ياسمين
كانت ترفل في ثوبها الأزرق ، و حذائها الأنيق ، تسير نحو الجمع ، وهي تحمل الصينيّة المذهبة المفضلة لديها ، و بين الفناجين تنثر زهرات الياسمين .
كما هي عادتها منذ ثلاثين سنة ، لم تقدم القهوة يوما إلا مع أزهار الياسمين .
لعل في شكلها نوعا من التغيير ، و لكنها ما تزال تحمل تلك الروح المرحة ، و تعتني ببشرتها و شعرها ، تشتري لنفسها و لبناتها العطور المترفة ، و الكل يعجبه ذوقها الفريد .
كُثر هم أحبابها ، هو ، و الأولاد ، و الزهور ،و منزلها .. و الكل يشتاق لمساتها اليومية .
أقبل الجمع على القهوة , دارت معها أحاديث الذكريات , و فاحت عطور ياسميناتها بين كلماتهم .
علت أصوات ضحكاتهم ، بحثوا عن أنفسهم بين طيات الزمان هنا , و بحثت عينها عنه .
مسحة الحزن في عينيه , تلهب نار قلبها ، و تعرف , و يعرف نفسه في حديث الذكريات .
كان في قلوبهم السند , و الملجأ الآمن الحصين ، و لكن أسوار الحصن وهنت كوهن العظم , و برد الحصن .
ما عادت يده القوية تعرف وحدها كيف تثبت قبعة أميرته الصغيرة ،
و ما عادت حكايته الممتعة , تخفف بأس الحمى أيام المرض .
حتى قطعة الحلوى التي اشتراها للأميرة أمس أخافتها ، ثم قدمتها لطفلتها .
- لعلها تخشى على رشاقتها !؟
كبر من كانوا أفراخه , و غادروا المكان .
وحدها من بقيت تسقي الحب للجميع بكوبها المغزول من نسيج قلبها الفاخر .
طعامها اللذيذ .. قهوتها مع الياسمين .. ذوقها الرفيع .. و قلبها الكبير .
ما وجد له مكانا بينهم , غادر إلى غرفته تشيعه أصوات صخبهم ، و أطفالهم , و حزن عينيها .
استلقى في سريره ، وغرق مجددا في كتبه .
اقتربت حفيدته من السرير..
أسندت خديها بيديها الصغيرتين ، و ابتسمت له , أزاح النظّارة عن عينيه ، و ابتسم لوجهها الجميل .
- تماما كابتسامة الأميرة !
مسح شعرها اللامع بيده , ابتسمت , قبلت وجنته بحب .
سألته بلهفة :
- جدي ؟
- نعم يا حبيبتي ؟
- هل تعطيني الحلوى , كما أعطيت أمي ؟

سمر محمد
12-09-2010, 09:26 AM
حصة فراغ

لم يكن خبر غياب( هدى) مدرِّسة الصف الثاني الابتدائي أسعد خبر تلقيته في هذا اليوم, فغيابها يعني أن تطلب المديرة مني الدخول إلى صفها لأقوم بإشغال الأولاد بدلا منها.
كنت قد وصلت إلى المدرسة قبل حصة كاملة من موعد بداية حصصي، ولم أكن متلهفة للخروج من المنزل والتوجه نحو المدرسة بالتأكيد, ولكنني آثرت القدوم مع زوجي في سيارتنا أثناء توصيله للأولاد قبل ساعة كاملة بدلا من المشي الصباحي, أو الوقوف طويلا بانتظار سيارة أجرة.
لم أفكر في رفض طلب المديرة، فقد كانت تستحق أن نؤدي لها خدمات كثيرة ولو على حساب راحتنا, فهي صاحبة خلق رفيع وطبع نبيل حسن, وقد أشاعت في المدرسة جوا ساحرا من الأُلفة بفضل معدنها الأصيل, ولم تكن ترفض لنا طلبا، بل وتبذل ما في وسعها لحل مشكلاتنا ومشكلات الأولاد وأسرهم, وكان الكثير من الفقراء يأتون إلى المدرسة لطلب مساعدتها وخدماتها ولم تكن تضن بها, فحملت حقيبتي وتوجهت بتثاقل نحو الصف، فقد كنت أرغب البقاء في الإدارة وتناول فنجان قهوة ساخن.
نقرتان على الباب كانتا كفيلتين بإنهاء حالة الفوضى وإخماد الأصوات العالية, وبدا الصف لوهلة هادئا بعد أن عاد التلاميذ إلى أماكنهم ووقفوا احتراما للمدرِّسة القادمة كما علموهم أن يفعلوا.
لم أكن أدرس الرسم في هذا الصف رغم تدريسي لأغلب الصفوف في المدرسة، وقد فسر لي هذا سبب تلك النظرات الفضولية المتسائلة, أشرت إليهم أن يجلسوا فقلت مبتسمة:
- استريحوا يا أولاد.
جلس الجميع بصمت كنت أدرك أنه لن يطول إذا لم أسارع بعمل أشغلهم به, وكان قد خطر لي أن أطلب منهم كتابة شيء ما لعلمي المسبق بأن أيا منهم لا يحمل دفتر رسم أو علبة تلوين أمارس من خلالها اختصاصي, فاتخذت قرارا بأن أطلب منهم أن يكتبوا جداول الضرب مع عمل مسابقة للسرعة بينهم, ومن ثم يتبادل كل طالبين أوراقهما, ويقوم كل منهما بتصحيح أوراق الآخر بقلم أحمر ليشعروا بالمتعة وبأنهم يقومون بأعمال المعلمة التي يتمنونها، فسألتهم:
- ما هي جداول الضرب التي تعلمتموها؟
فقامت تلميذة ذات شعر له لون البرتقال الجميل وقد بدت على وجهها حبات النمش الحلوة والتي لم تخف ملامحها الجميلة ونباهتها الواضحة فقالت:
- تعلمنا الجداول من واحد إلى خمسة وتعلمنا جدول العشرة.
- ممتاز شكرا يا حلوة, هيا أخرجوا دفاتر المسودة واكتبوا فيها الجداول بخط واضح مرتب، وسيفوز من ينتهي أولا وتكون ورقته بلا أخطاء, وسيقوم كل واحد منكم بتصحيح ورقة جاره في المقعد وبقلم أحمر، وسيضع العلامة وسيكتب عبارات تشجيع.
ابتسم الصغار وبحماس أخرجوا دفاترهم وأقلامهم، واقترب مني طفل أشقر ممتلئ تبدو عليه علامات الذكاء وترتسم على وجهه ابتسامة مشرقة، وقد حمل دفتره بيده ثم قدمه لي قائلا:
- هل “تمزقين” لي ورقة من هذا الدفتر.
ابتسمت للطلب وحملت الدفتر وفتحته ثم نزعت ورقتين متلاصقتين من منتصفه وقدمت الجميع للصغير الذي رفع حاجبه دهشة، وقدرت أنه استغرب ولم يعجبه نزعي لورقتين وقد طلب مني واحدة فقط .
غادر إلى مقعده وأخرجت هاتفي المحمول من الحقيبة لأقوم بترتيب بعض القوائم وإجراء بعض عمليات التنظيم المتراكمة.
اقتربت تلميذة ذات شعر فاحم ووجه يشبه القمر وابتسامة تشع دفئا وقد أمسكت بيدها ربطة للشعر ووقفت أمامي ثم مدت يدها بها نحوي قائلة:
- هل من الممكن أن تساعديني بربط شعري؟
أخذت ربطة الشعر منها مبتسمة فاستدارت وأولتني ظهرها فقمت بربط شعرها كذيل الحصان، وكنت أستطيع أن أتنسم عطر صابون شعرها الفاخر عندما تمر بي نسماته كل حين.
أنهيت المهمة، وكافأتني الصغيرة بابتسامة رائعة في طريق عودتها إلى مقعدها, فعدت لهاتفي وقوائمي وانشغلت بها وانشغل الأولاد بجداولهم حتى علا صوت عبد الرزاق قائلا:
- آنسة.. كان عندنا كلـب كلما رأى حية هجم عليها
- أنتم عندكم كلــب؟ أين يسكن؟
- في المزرعة.. يحرس المزرعة.
- هل تخاف منه؟
- لا .. أنا لا أخاف.. عندما ولدت أمي دخلت الغرفة وقلت له تعال فلم يقبل!
- لماذا؟
- لا أعرف.. نعم نعم.. كان هناك قطة تخيفه.
- الكلــب يخاف من القطة ولا يخاف من الحية؟
- أنا أمسكت الحية من ذيلها.. وضربتها.. وضربتها.. وضربتها.
- أنت أم الكلــب؟
- الكلــب موتها نصف موتة.. ولكنها لم تكن ميتة على الأخر فضربتها على الشوك وماتت وهي تفتح فمها.
- بطل.
كان عبد الرزاق فتى نحيلا أسمر اللون له وجه نحيل وعينان صغيرتان، وكان يرتدي قميصا أبيض تحت مريلة المدرسة وقد أحكم إقفال زر قميصه الأخير, وأخرج ياقته البيضاء فوق المريلة.
عاد لدفتره, وعدت لهاتفي ولقوائمي الطويلة.
علا صوته مجددا:
- تعالي عندنا الخميس عندنا درس رسم.
- من يدرسكم الرسم؟
- أنستنا تدرسنا وفي كل مرة نرسم الموضوع نفسه عن تلوث الهواء.
- في السنة القادمة إن شاء الله سأقوم بتدريسكم الرسم طوال العام.
- طيب, ولكن يوم الخميس هذا تعالي.
- إن شاء الله أفعل.
ابتسمت للدعوة, فقد كان أمرا رائعا أن أتلقى مثل هذه الدعوة من تلميذ في الصف الثاني، وهذا يعني أنه يستمتع بما يرى من رسوم معلقة في أنحاء المدرسة ويتمنى وجودي ليرسم مثلها.
بدأت الدفاتر تتقدم نحوي وقد انتهى أصحابها من كتابة الجداول, فقمت بعمل مبادلات ثنائية وعاد الأولاد إلى أماكنهم ليقوموا بمهمة التصحيح مسرورين.
قال عبد الرزاق وهو يكتب:
- آنسة.. آنسة،
- نعم،
- نحن كان عندنا خروف دخل إلى الحمام.
ضحكت, فقال مؤكدا:
- هذه حقيقة.. اقترب من القاظان فاشتعل صوفه واحترق.
- وماذا فعلتم؟!
- ذبحناه وأكلناه.
لم أرد، فقد تجمع حولي حشد كبير من أصحاب الأقلام الحمراء الصغار، واضطررت للعمل معهم بسرعة وإجراء التبديل المطلوب بين دفاترهم, وعندما ابتعدوا وجدت عبد الرزاق أمامي وقد ترك مقعده فسألته:
- هل انتهيت؟
- لا.. ولكن مرة الذئب قتل كلبنا.. ووجدته ميتا.. وكنت وحدي.
- وماذا فعلت؟
أشار بيده قائلا:
- سحبت البندقية وضربت الذئب على بطنه فمات.
أدركت أن خيال عبد الرزاق قد توهج، وأنه لا بد من إيقاف جموحه ولو بكلمة أو نصيحة مقابل المتعة التي أمدتني بها قصصه الحلوة، فاقتربت منه ووضعت يدي على كتفه كما يفعل الصديق الصدوق، وقبل أن أنبس بكلمة رن الجرس واختفى عبد الرزاق من أمامي .

سمر محمد
12-09-2010, 09:27 AM
سر اللوحة الصفراء
حَمَلَتْ لوحة هادي من جديد نحو غرفة الصفِّ وهي تقول لنفسها:
- لن يكشف السرَّ غيركَ يا صغيري.
كانت اللوحة تصوِّر شمساً تُطِلُّ على بحيرة زرقاء صغيرة، وتحيط بالبحيرة ورود صفراء كثيرة، ويسبح فيها سمك أصفر مبهج, وقد أثار استغرابها وفضولها كثرة استخدامه لهذا اللون في لوحته تلك.
ابتسمت طويلاً وهي تراه يقفز معبِّراً لها عن سعادته بكلماتها التي أثنت بها على اللوحة يومها، فالقفز هو طريقته الوحيدة التي تعرفها في التعبير عن فرحه, فقد كان هادي طفلا تَوَحُّديَّاً, ولم يكن يعرف كيف يرسم ابتسامةً ما على وجهه, وكان كل ما يفعله عندما تطلب إليه أن يبتسم لكاميراتها؛ لتلتقط له صوراً مع لوحاته، هو أن يكشف لها عن أسنانه.
حملت اللوحة يومها إلى منزلها, وهناك أسرعت إلى المطبخ لتُعِذَّ طعاماً خفيفاً, ولتتنقل بين الغرف ترتبها بسرعة قبل أن يصل زوجها, ثمَّ فاجأته بإعدادها المبكِّر لكوب الشاي، وكأنها تستعجل قيلولته, فابتسم وغادر نحو غرفة النوم تاركاً إياها تُبحِر وحيدة في الشبكة العنكبوتية؛ لتكشف سرَّ لوحة هادي.
كانت متأكدة أنَّ هناك ارتباطاً ما بين لون اللوحة الأصفر، وبين مرض الصغير, وكانت تدرك أنَّ ارتباط اللون الأصفر بالسرور في آيات الكتاب الحكيم -وفي سورة البقرة بالتحديد- هو بداية كشف ما سيساعد تلميذها المسكين.
راحت تُسجِّل ما في المواقع الإلكترونية من معلومات؛ لتقوم بتنسيقها فيما بعد, فكتبت على دفترها ما وجدته في أحد المواقع:
- “الذين يفضِّلون اللون الأصفر هم أشخاص مثاليُّون، متفائلون سُعداء، وحكماء، إذ تتناغم صفاتهم مع صفات هذا اللون الذي يعتبر رمزاً للضوء والثراء, وقادراً على شحن صاحبه بالحيوية، والقدرة على الإبداع”.
- “اللون الأصفر يُؤثر تأثيراً إيجابيَّاً على عمل الكبد والطحَّال والبنكرياس والغدة الدرقيَّة والشُعب، ويقوِّي الجهاز العضلي والعصبي للجسم، ويُنصحُ باستخدامه بشكل خاص للشخصيات التي تعاني من عُسر في الهضم، أو إمساك مستمرٍّ، أو صداعٍ نصفي، وكذلك لمن لديهم استعداد للاكتئاب أو التشاؤم”.
- “إنَّ طول الموجة اللونية للون الأصفر تنشِّط عمل الدماغ؛ فيبقي عليه في حالةٍ يقِظةٍ تامةٍ، وصفاءٍ ذهنيٍ كاملٍ، كما يقوِّي هذا اللون الجهاز العصبي عموماً، وبناء الطاقة العضلية، وينشِّط عمل الغدد اللمفاوية، وينقِّي القنوات الهضمية، ويُحفِّز نشاط البنكرياس والمرارة”.
- “هو الأقرب للون شعاع الشمس، فهو لون الفرح والبهجة.
ومن الخواصِّ الإيجابية لهذا اللون: أنه يُحفِّز النشاط الفكري، ويبقي الذهن في حالة من التنبُّه والصفاء”.
استيقظ زوجها من غفوته, فسارعت لإعداد فنجان قهوته التركيَّة، وحرصت على جمع القشدة البنيَّة الفاتحة من الركوة، ووضعها في الفنجان قبل أن تُعيد الركوة لتغلي مرة ثانية, سكبتْها وحملت نحوه فنجان القهوة البنيِّ ذو الحافة الرقيقة، وقد عَلَتْهُ القشدة.
وفي الغرفة وَجَدَتْهُ يُحَدِّقُ في حاسوبها، وفي تلك الصفحات التي كتبتها مستفسراً عن سرِّ اهتمامها المفاجئ باللون الأصفر.
وضعت الفنجان أمامه على الطاولة، ثمَّ أخرجت له لوحة هادي، وراحت تشرح له بحماس عن حالته وما لفت نظرها في لوحته، وما تَأْمَلُ أن تجده في بحثها الطويل المضني.*
ابْتَسَمَ دون تعليق، وغادر الغرفة حاملاً فنجانه ليتناوله وهو يرتدي ملابسه وحده دون مساعدتها؛ ليتركها وما يشغلها، ثمَّ غادر المنزل بهدوء.
قرأت طويلاً عن الأطفال التوَحُّدِيِّين، وفوجئت بأنَّ البعض منهم تمَّ شفاؤه بمجرد حمية، واستغربت أن لا تصبر والدة هادي على متابعة حمية التوَحُّد، وهو وحيدها وحبيبها ومحطُّ اهتمامها.
عاد زوجها بعد ساعات ليجد عينان حمراوان تحت زجاج نظارتها ذات الإطار الأزرق، والمحلَّاة بخيوط من الفِضَّة, ابتسم مشفقاً وقال بحنان:
- هل لي بإبداء رأيي؟
- نعم بالتأكيد.
- لم لا تسألين الصغير عن سبب استخدامه لهذا اللون؟
استغربت لسهولة الفكرة وبراعتها، وأعجبها منطقه؛ فعليها أن تسأل صاحب اللوحة أولاً؛ لعلها تجد طريقها في البحث بعد جوابه بسهولة أكبر؛ فاستجابت مبتسمة وأغلقت حاسوبها؛ لتقوم بإعداد مائدة العشاء، وقامت قبلها بإرسال الصورة إلى موقع إلكتروني يقوم بتحليل الرسوم؛ لكشف أسرار صاحبها، معتمداً على علم النفس وعلم اللون والخطوط.
في الصباح استيقظ زوجها ليجدها وقد ارتدت ملابسها، وبدأت في شرب فنجان قهوتها قبله، ولمح في وجهها تلك النظرة التي يعرفها جيِّداً عندما يَسْكُنُ الحماس قلبها.
دخلت الصفَّ، وسرعان ما وضعت اللوحة على الطاولة، ونادت هادي، وسألته عندما راح ينظر إلى اللوحة:
- أي لون تُحِبُّ يا هادي؟
أجاب دون تردُّدٍ ودون ابتسامة:
- الأصفر.
- وهل لأجل هذا جعلت لون الورود والأسماك صفراء هنا؟
- نعم.
- ولماذا تحب هذا اللون يا صغيري؟
- لأنني رأيت رونالدينيو يلبسه وهو يلعب مع فريق البرازيل.

سمر محمد
12-09-2010, 09:28 AM
الكَوكَبُ الآخَر
دخَلت زينة غُرفة الَّصفِّ مبتسمة , وقف جميع الصِّغار احتراما لها كمَا اعتادوا , أشارت إليهم بيدها أن اجلسوا , و هي تَقول :
- استريحوا يا أولاد .
علَّقت حقيبتها على الكرسيِّ , و أبعدت وشاحها الصوفي الأبيض عن رقبتِها .. قامت بطيِّهِ ووضعَتْهُ على الطَّاولة مُسرعة لتَتَوجَّه نحوَ السبُّورة و تسجِّل التَّاريخِ و لِتَتْرك مكانَ موضوعِ الدَّرسِ – الذي ينتظِرُه الصِّغار- فارِغاً .
اسْتَدارت نحوَ العيونِ المُتلهِفَة , و ابتَسمت مجدَّدا لبَريقِها المُتَسائِل, و لمْ تَشَأ أنْ تُطيلَ انْتظارَها فقالت بصوتِها الهادِئ :
- كما خلقَنا الله بصورتِنا الجَميلةِ هذه على هذا الكوكبِ الَّذي نعرِفهُ جيداً و نحِبُّه كَثيراً أليسَ من الممكن أن يكونَ قد خلقَ غيرنا على كوكبٍ آخرٍ بعيدٍ لا نعرِفهُ ؟!
صَاح الجَميع :
- نعم مُمكن
ابتسمت و أكملت :
- جميل ٌجِداً , ألا يُمكنُ أنْ يكونَ لهذِه المخْلوقاتِ حَضاراتٌ و لغاتٌ و سياراتُ و أشجارٌ و بيوت ؟!
- نعم
- أليس من المُمكنِ أنْ نلتَقي بهم في يومٍ من الأيامِ و نزورُهُم و يزورُونَنَا ؟
ضَحِكَ الجَميع :
- نعم نعم
أشارتْ نحوَ سارِي :
- ألا يمكن أن يَعملِ سَاري طبيباً في مُستشفى من مُستشفياتِ ذلك الكَوكَب ؟
عَلَتْ ضَحِكاتِهم .
أشارتْ نحوَ أدهم صَاحِب اليدِ البلاستيكيَّة :
- و هل منَ الممكِن أن نتَلقى دعوة لحُضور حفلِ زفافِ أدهمَ فنجِد أنَّ نصفَ المدعوِّينَ قد حضروا مع العَروس منَ الكوكبِ الجَديد ؟
ضجَّ الأطفالُ بالضّحِك, و ابتَسم أدْهَم بِخَجل و هو يخفي يده الصِّناعية مجددا تحت طاوِلةِ مقعدهِ , سُرَّتْ بابْتِسامَتِه الأولى و أكمَلت قائِلة :
- فكيفَ تتخيَّلون شَكل الفَضَائيِّين ؟
أجابوا بمَرَح :
- لهم أربعَة عيون .
- خمسة .
- لهم ستة أرجل و ستَّة أذْرع .
- طوالٌ جِدا
- لهم قرون
أكملتْ :
- هذا رائع و كيفَ تتصوَّرونَ ألوانَهم ؟
علت صيحاتهم :
- لونُهم أخضر
- بل أحمر
- لا لا أزرق
بدأَت ترى لوحاتٍ جميلةٍ تلوحُ أمامَها :
- فكيف سيكون شَكل بيوتِهم ؟
قفز سامر قائلا :
- بيوتهم لها أجنحة
- بيوتهم مثل الصواريخ
- يبنونها على أعمدة ملوُّنة
أشارت بيديها ليجلسوا جميعا :
- فهل تختلف تربه كوكبهم عن تربة كوكبنا ؟
و جاءت الإجابات بسرعة :
- تربتهم حمراء
- برتقالية
- زرقاء
عادت نحو السبُّورة لتكتبَ عِنوانا لدرسِها ( الكوكبُ الآخر ) ثم لتعودَ أدراجَها و تقفَ قبالتَهم قائِلة :
- كلُّ ما ذَكرتُموه كانَ رائِعاً , هيَّا لترسُموا لنا هذا الكوكَب الجَديد .
شُغِفَ الجَميعُ برسْمِ لوحاتِهم , و اقتربَ أدهمُ مِنها حامِلاً عُلبة ألوانِه بيدهِ اليُمنى , و قد ثبَّتَ دفتَره على صدرِه بتِلك اليد الصَّلبة , ابتسمت لاقترابه , نظر نحوها مستأذنا بالرسم على طاولتِها , أبعَدت وشاحها عن المَكان , وضعَ العُلبة أولا ثمَّ سحَب الدَّفْترَ و قامَ بفَتحِهِ و بدأ بالرَسم , تركتهُ مطمئنة لتقوم بجولة بين المقاعِد و ترى انطلاقَة الخيالِ الجامِح في لوحاتِهم , اقتربتْ من أدهمَ بعدها لتمسَح على رأسهِ و هي تُتابعُ ما يرسُمه بيدهِ الصَّغيرة , رأتْ رجُلا صَغيراً أخضر اللَّونِ له أربعةُ عيونٍ و رجلان و يدٌ واحدةٌ , نظَرَ إليها أدْهم و قد فَهِم سرَّ صمتِها المُتَسائِل و قال مبتَسما :
- السُّكَّان على هذا الكَوكَبِ يمتلكونَ يداً واحدة .

سمر محمد
12-09-2010, 09:28 AM
قصة قصيرة

طال بحث ساري باهتمام بين الملابس الكثيرة المعلقة على الحوامل المعدنية الملونة في المتجر الكبير , كانت عيناه تتجوَّلان بحثا عن شيء ما داخل المحل لم تعرفه والدته و لم تفهمه , كان يقرأ البطاقات الملصقة على الملابس بدقة ثم يغادر نحو حامل آخر للملابس , و غلب الفضول والدته أخيرا , فسألته و هي تحمل كومة من الملابس :
- هل تعجبك هذه السترة يا ساري ؟
أجاب دون ابتسام :
- نعم
سألت مجددا :
- هل أشتري لك هذا البنطال أم هذا ؟
أجاب دون اكتراث :
- هذا .
قطبت جبينها مستغربة و هي تسأل :
- هل هناك ما يزعجك يا صغيري ؟
- لا
- هل تريد شيئا آخر ؟
- أريد قميصا .
ضحكت الأم من بساطة الطلب و غرابته , فلم تكن تتوقع من ابنها أن يهتم لشراء قميص يوما , و قد كانت نظراته و بحثه الغريب قد أدهشتها و أخافتها أيضا .
أخرجت له قميصا سماويا من أحد الحوامل و قرَّبته منه بابتسامة و هي تقول :
- هل يعجبك هذا القميص .. سيكون رائعا مع بنطال الجينز الأزرق الجديد ؟
أمسكه بحزن :
- و لكنها( بلوزة) و ليست قميصا ؟
ضحكت مجددا :
- نعم نعم يا صغيري يقولون عنها بلوزة و يقولون عنها قميصا أيضا .
بحث عن البطاقة و قرأ ما كتب عليها و هو يتهجى ببطء :
- ق ..قم ..قمي…قميص
ابتسم ابتسامة كبيرة و اقترب يقبل وجنة والدته و هو يقول :
- نعم هذا قميص ..هيا لنذهب .
- انتظر يا حبيبي ما زلت أبحث لك عن بعض الأشياء .
انصاع ساري لرغبة والدته و سار معها و هو يمسك قميصه رافضا وضعه بين بقية الأشياء , و قد تخلى بعد الحصول عليه عن بحثه وعن قراءته للبطاقات , ثم وافق على كل ما اختارته له من ملابس و أحذية, و قد تناول القميص مباشرة بعد إدخال ثمنه في قائمتهم , فابتسم البائع ودهشت عندما رفض أن يجعله في الحقيبة الورقية الكبيرة التي قدمها لهم البائع . خرجا معا من المتجر ففتحت له أمه الحقيبة الورقية مجددا و هي تقول بحزم :
- ضع القميص هنا فليس من اللائق أن تحمله في الطريق هكذا دون حقيبة .
استجاب ساري ووضعه بحزن ثم سار بجانبها و عيناه ترمقان ما ابتعد عنه مضطرا, و قد غابت عن وجهه تلك الابتسامة التي رسمها لقاؤه بقميصه السماوي الجميل .
بعد مدة بدأ الندم يتسرب مسرعا نحو قلب الأم و قد رأت تلك الاستجابة الهادئة الحزينة ,و رأت طفلها يسير بجانبها ساهما مطرقا و عيناه لا تفارق الحقيبة الورقية التي تحملها فقالت معتذرة :
- لا تحزن يا حبيبي .. ستأخذ قميصك حال وصولنا إلى المنزل و لن يأخذه منك أحد بعدها .
- أريد أن أخذه معي إلى المدرسة يا أمي .
نظرت الأم نحو طفلها باستغراب و سألته :
- هل تعني أنك تريد ارتداءه بدلا من ملابس المدرسة ؟
- لا سأضعه في الحقيبة .
- لماذا ؟
- أريد أن ألقيه على وجه عامر ليعود له بصره ..لقد أخبرنا المعلم أن أولاد النبي يعقوب عليه السلام ألقوا على وجهه قميصا فعاد له بصره و عامر صديقي مسكين أيضا لا يرى الأشياء و قد تعثر البارحة و شج رأسه وقد بكى و بكيت معه كثيرا .
تركت الأم يد ساري فنظر نحوها ليجدها تمسح دمعتها هي الأخرى .

سمر محمد
12-09-2010, 09:34 AM
الزائرة الثقيلة

لم تر سارة من وجهها عندما وقفت أمام المرآة سوى تلك الحبة المزعجة , وقد شعرت بالكثير من الغيظ لأن الزائرة التي لا تعرف الاستئذان أبدا تربعت هذه المرة في منتصف جبينها الجميل, و لم يكن هناك طريقة لإخفائها عن العيون المتطفلة .
راحت ترفع حاجبيها ثم تعيدهما و تتلمس تلك الحبة بيدها و تضغط عليها بقوة , و لكن لا أمل فقد كانت متأكدة أنها لن تغادر قبل أسبوع كامل .

كانت سارة مضطرة للذهاب لزيارة صديقتها زينة هذا اليوم , و كانت شديدة الحرص على أناقة مظهرها و جمال شكلها أمام صديقاتها , فقد كانت تقضي الساعات حزنا على شعرة سقطت من رموش عينيها , و تلزم المنزل لأيام بانتظار أن تغادر وجهها حبة كهذه الحبة التي زارتها اليوم , و تقوم بإحصاء الشعرات العالقة بالفرشاة بشكل يومي , و تكاد تقيم مجلس عزاء لو ارتدت إحدى صديقاتها أو قريباتها ملابس تشبه ما تملكه , وكانت ترفض بشدة مساعدة والدتها في تقشير حبات الثوم لأن رائحتها ستبقى عالقة بيديها لفترة طويلة , و من ثم تسرع نحو علبة (الكريم المطري) كلما غسلت بعض الأطباق .

و لكنّ هذه الحبة العنيدة و التي تقبع في مكان واضح جدا من وجهها كانت مقلقة , ولم يكن في وسعها أن تعتذر عن تلبية دعوة زينة لها , و لم تكن بالقادرة على تأجيل موعد الزيارة في هذا اليوم , و قد استعّدت زينة و الأخريات , و من المؤكد أنها أعدت أطباق الضّيافة التي تصْنعها بنفسها كما في كل مرة .

ارتدت ملابسها بتثاقل شديد, و هي ترى غمز أعينهن و سخريتهن من وجهها, و تستمع لقصتها على لسان جميع سكان المدينة , و تشعر بالسكينة تفارقها لسنوات , بينما تؤرقها ذكريات تلك الحبّة أياما طويلة .

رن جرس الباب .. تسارعت دقات قلبها و هي تسمع صوت والدتها :

- أسرعي يا سارة , ريم هنا .

حملت حقيبتها مسرعة و توجهت خارج الغرفة :

- قادمة يا أمي

اقتربت من الباب , ابتسمت لها ريم و صافحتها و طبعت على جبينها قبلات ودودة , ثم استدارت نحو الباب لتخرج قائلة :

- وداعا يا خالتي …هيا أسرعي يا سارة سنتأخر و تفوتنا أطباق زينة الشهية .

رفعت سارة حاجبيها دهشة و قد رأت ريم غير مكترثة بتلك الحبة الملتصقة بجبينها , ثم سارت بقربها تستمع لحديثها المرح دون أن تقْدر على الابتسام , لاحظت ريم شرودها فسألتها :

- ما بك يا سارة ؟

- لا شيء .

- و لكنك حزينة يا عزيزتي.

- إنها حبّتي يا ريم .

نظرت ريم بدهشة نحو وجه سارة :

- أي ّحبة ؟

أشارت إليها :

- إنها هنا

نظرت ريم ثم ابتسمت قائلة :

- إنها حمراء و جميلة

- هل تسخرين مني يا ريم

- لا يا عزيزتي و لكنها تبدو جميلة حقا و هي ما تزال حمراء , لو رأيت تلك الحبة التي زارتني أخيرا لقد كانت بلون أبيض مقزز , و لكن لم الحزن و كلنا نتعرض في هذه السن لمثل هذه الزيارات المزعجة ؟

نظرت سارة مستغربة , فأكملت ريم :

- اسمعي .. حاولي نسيان أمر الحبة , و لا تفكري فيها ..و سترين أن الجميع لن يلحظنها كذلك .

تلمست سارة جبينها فأمسكت ريم يدها و أبعدتها برفق

- هيا جربي دعيها عنك يا سارة .

- سأحاول .

وصلت الصديقتان إلى منزل زينة , وقرعت ريم الباب , فتحت زينة الباب و استقبلتهنّ بابتسامتها الجميلة المعهودة , و صافحت أيديهن بمحبة , ابتسمت سارة و هي ترى صديقاتها جالسات بمرح و جلست بينهن تستمع و تحكي لهن أخبارها الممتعة , و نسيت أمر الحبة دون أن تتعمد نسيانها , و بعد تناول الحلوى اللذيذة التي صنعتها زينة و العصير الرائع اللذيذ , قرّرت ريم و سارة المغادرة , فودعتا الصديقات و غادرتا منزل زينة .

في الطريق ابتسمت سارة و نظرت نحو ريم قائلة :

- أشكرك يا ريم , لقد كانت نصيحتك رائعة حقا .

أجابت ريم مبتسمة

- و لكنني ما زلت أقول أن تلك الحبة الحمراء جميلة .

ضحكت الصديقتان و أكملتا سيرهما بسعادة , و في المنزل وقفت سارة بشجاعة أمام تلك المرآة و ابتسمت للحبة ابتسامة كبيرة جدا .

سمر محمد
12-09-2010, 09:35 AM
قلبٌ فريد

أخرجت فِنجانَها المصنوعِ من الخزفِ البني , و ظرفاً من الشاي الأخضر بنكهة الزنجبيل و القرفة من حقيبتها الجلديَّة , و توجَّهت نحوَ إبريق الماء المغلي المتربِّع على المدفأةِ بوقار , سكَبت الماء بحذرٍ في الفنجانِ ثمَّ أعادت الإبريق إلى مكانهِ , و غادرَت غرفة المدرِّسين نحو باحةِ المدرسَة .
في الباحة اتَّخذت لها مكانا مُرتفعا اعتادَت على الوُقوف فيهِ في أوقاتِ مناوبتِها , لتُراقب الأولادَ و هي مطمئنَّة لأنَّهم في مَأمَن من شرابِها الساخن , أمسكت بالفنجان بكلتي يديها في محاولة لنقل حرارته إلى أطراف أصابِعها التي يكشِف عنها قفازَها الصوفي الأبيض , تناولت بضْعَ رشفات و هي تردُّ على تحياتِ الصغار بابتسامتها حينا , و بتلويحِها لهم عندما يلوِّحون .
كانت المناوبةُ تعني للكثير من المدرِّسين نوعاً من العقوبة , فقد كانت الفسحة القصيرة تمدُّ الجميع ببعض الراحة , فيتناولون فيها الطعام الخَفيف و الشراب الساخن ,و يستمتعون بدقائق من الهدوء , و في يوم ( المناوبة ) لا بدَّ من البقاءِ مع الأولادِ في باحةِ المدرسةِ لفسحتينِ كاملتين , ومن ثمَّ الإصابةَ بالتَّعب و الإعياءِ بسبب الوقوفِ و البرد بدلا من تلك الراحة التي يتوق لها المدرِّس بين الحصص , و لكنها روضت نفسَها على قبول هذه المهمة الصَّعبة و تقبُّل الأمر بروحٍ مرحة ٍ, فكان أن اتَّخذت لنفسِها مكانا على الدَّرجة و تحت شجرةِ الليمونِ في أقصى زاوية منْ زوايا الباحةِ , و راحَت تلتقِط من وجوه الأولاد حكايات حلوة و سعيدة ,و تتناول فنجانا من الشاي الأخضَر الممزوجِ بالزنجبيلِ , أو فنجاناً من القهوة التركيَّة .
ابتسم فريد عندَ رؤيته لها ثم راح يقترب منها ببطء اعتادته عضلاته الضَّعيفةِ , لمْ تحرك ساكِنا و تعمَّدت تجاهلهُ كنوعٍ من المداعبة المحبَّبة لديها , فأسند نفسه عليها , و مد يده متلمِّسا جيب مِعطفِها , ابتسمت و هي تَنظر نحوه , و أمسكت فنجانَها بيد واحدة بينما مسحت رأسه بيدها الثانية لتخبره أنَّها قد رأته و فهمت مَقصده , ثمَّ مدَّت يدها نحوَ جيبِها لتُخرجَ منه قِطعة السُّكر و تُقدِّمها له , نظر نحوها , فأعادت القِطعة مُسرعة نحو فَمِها .. لتُمسك طرف غلافِ النايلون بأسنانِها ..ثم تشدَّ القطعة بيدِها ..و تفتَحها .. و تقدَّمها له دون غلافها هذه المرَّة , فأخذها ووضَعها في فمه و مدَّ يدهُ إليها فأمسكتها و حاولت أن تنثر بعض الدفء فيها , وقفا معاً حتى دقَّ الجرسُ معلنا ضرورة العودة نحو الصفوف فدَخلا.
كان فريد طِفلا من ذوي الاحتياجات الخاصَّة , و كان يعاني من صُعوبات بالِغة في التعلُّمِ, و من ضَعفٍ في عضلاتِ جِسمه يجعلُ حركتهُ صعبة و بطيئة , و كان في الصَّفِّ الأوَّل مُسالماً ودوداً وسيماً و نظيفاً , و تحكي عيناهُ قَلبا طاهِرا و براءَة لا تقدَّر , أشفقت عليه بدايَة ثمَّ شعرَت أنَّ حبهُ قدْ ملأَ عليها قلبها و فِكرها , وقد اعتادت أن تحمِل له في كل يوم قِطعة سُكر و شطيرة صَغيرة , فكانَ اسمُه حاضِرا في الصباح و هي تعدُّ الشطائر لأولادها , و صاروا يضحكون و هم يعدُّونها و يجدوا أنَّها لم تنس شطيرة فريد .
و كانت البداية عندَما كان يأتيها بدفترِ رسمِه و ألوانِه ِو يقف على طاولتها طالبا منها أن ترسُم له شيئا ليقومَ بتلوينه , فترسُم له أشياء صغيرة و تتركه واقفا بجانبها ليلوِّن ما خطتْه , و صار يبتسِم لها كلَّما لوَّن قليلا و يضحك سعيدا عندما تقول بسرور :
- رائع أيها الفنان .
و اعتاد فريد على المكان و اعتادت هي على وجوده و راحت تتعمَّدُ أن تداعبه و هو يرسم فتمسك أذينه تارة و تلصق له صورا على جبينه و دفتره تارة أخرى و تسعدها سعادته و بهجته .
و في أحد الأيام و بينما كانت تُخرج صوراً من حقيبتها تسمرت عيناه الصغيرتان على حقيبتها المفتوحة على الطاولة و تنبهت لنظره نحو شطيرتِها فسألته :
- هل أنت جائع ؟
- نعم
- هات شطيرتك و كُلها الآن
- ليس معي شطيرة .
- هل معك نقود لتشتري بها ؟
- لا لم تعطني أمي .
- لم لم تعطك شطيرة ؟
- لا أعرف ؟ لم تعطني شيئا .
و قدمت له يومها شطيرتَها و أطعمتهُ إياها بيدِها و لاحظَت أنَّه يأكُل ببطء شديد , فطلبت من معلمتِه أن ترسِل ملاحظة بالأمر لوالدتِه فردت قائلة :
- لقد فعلت يا عزيزتي و لكنها ترفُض أن ترسِل معه أي طعام لأنه سيقوم بتوسيخ نفسه و ملابسه .
لقد كانت الأم تخشى أن يكره الناس ابنها , و أدركت هي حساسية الأمر و حزن الوالدة العميق , و لكنَّها حرصَت على تقديم ما لا يترك أثرا , و بكمية قليلة تتأكد من أنها لن تبقى معه أكثر من دقائق الفسحة رحمة بمعدته الصغيرة الفارغة و بأمِّه المسكينة .
خرجت إلى الباحة في الفسحة الثانية و هي تضع الشطيرة في جيبها و قد وضَعتها في كيسٍ من النايلون الشَّفاف , و اقترب منها مجددا , ابتسمت له , فأخفى وجهه بيديه خجلا , سألته :
- هل تريد الشطيرة ؟
أخفض رأسه بحياء و ابتسامة .. ثم نظر نحوها ..فرفعت حاجبيها مؤكدة على السؤال فقال :
- هل أُحضر لكِ حقيبتكِ من الإدارة ؟ .

سمر محمد
12-09-2010, 09:36 AM
دِفاعاً عن الخَريف ..

لمْ أكنْ قدْ فَكرت في تطْوير مهاراتي الدّفاعية مِن قبل , ولمْ تكُن عباءة المحامين تسْتهويني أبدا , فلم تكُن تلك المهْنة و ما أحاطَها من أقاويل و اتِّهامات تعني لي شَيئا , و لم يعْنيني التّحقق من صِحة ما يشاع حولها و لو لمرّة واحدة , و قدْ استمرّ هذا الحال حتى وجدّت نفسي مضطرّة للوقوف أمام ثلاثين قاضيا دفعةً واحدة , و من ثم الدّفاع عن مظلوم طالما نالتْه الاتِّهامات .
في صباح ذلك اليومِ الخريفيِّ الجَميل ,وقفتُ أمام نافِذة المطْبخ لأستمتع بتلك النّسمات الباردة , و أتنسَّم عِطر حبَّاتِ المطر الليليّة , بينما أنتظر ركوَة القهوةِ أن تعلن الغَليان , و كنتُ قد اتخذت قرارا بالخُروج مبكرةً عن موعدي لأنْعم بالمشْي في تلك الأجواءَ السّاحرة , فرائحةُ ما بعد المَطر , و الغيوم الجميلة التي تحمينا بحنانِها من لسعاتِ أشعّة الشّمس , و تلك النّسمات المنْعِشة الّساحرة .. كانت تغْريني و تدفَعني لشُرب قهوتي سَريعا, و التّوجّه نحو المدْرسة سيراً على الأقدام .
ووصلت مبكِّرة , فجَلستُ في غرفة المدرِّسين أستمتِع بدقائق من الهدوء و الرّاحة قبل أن تبدَأ الرّحلة الحُلوة المتْعِبة مع الصّغار , و دخَلت رانية خلْفي لتتوجَّه نحو دفْتر التَّوقيع لتُسجِّل اسمها فيهِ , و من ثم تُلقي بحَقيبتها على الأريكة و تجلِس بعصبيّة و تقول بِضيق :
- لا أحبُّ هذا الجوَّ الغائم .. لا أدري لمَ أشعُر معه بالضّيق و الاكتِئاب .
هالني ما وصَفت به رانية يومي الجَميل , فكيف لمْ تلمح حَنان الغيوم و عطرَ المطر و براعة النَّسمات , و ما الذي يدعوها للضّيق في هذا الجو السّاحر , ووجدتني أغوص في مقعدي ساهِمة حزينة , فقدْ كنت أدرك أن هذا الفصل الرَّائق في نظري.. متّهم في نظرِ الكثيرين .
وامتدَّت يدي نحو دفتر التَّحضير , و قمت بتسْجيل عنوان درسيَّ الجَديد , و كنت قد اتَّخذت قرارا بأن أطلب إلى التَّلاميذ رسم هذا الفصل في لوحاتهم طوال أسبوع كامل لعلي أحقق انجازا يذكر, و كتبت مرافعتي في كراسة التحضير خاصتي , و توجهت نحو الحصة , و بدأ الدرس .
كنت قد شعرت أن معطفي المصنوع من قماش الجوخ الأسود قد تحوّل إلى عباءة للمحامين , فطَلبت من تلامذتي أن يقدموا لي صوَر الخَريف الّتي يعرفون , وتأكَّدت لديّ الظُّنون , لقد انهالت الاتّهامات على فصلي الحبيب متَمَثْلة في أجوبتهم المحزِنة فقالوا بحماس :
- أشجار عارية .
- مطر .
- أولاد يذْهبون إلى مدارِسهم.
- حقولٌ جرداء.
- أوراق صفراء على الأرض .
و بدأت الدفاع عن هذا المظلوم يصاحبني ألمي الشّديد , و قد كانت مخيّلة قضاتي ممتلئة عن أخرها بصوَّر سوداء عن المتهم البريء , ووجدتني أحكي دفاعي بحبٍ و شفقة :
- فما كلُّ أشجارِ الخريف عاريَّة ,و من كان لا بدّ لها من فراق أوراقها كانت ترتدي في الخريف ثوبا بلون أصفر أو برتقالي أو أحمر جميل, فتُبهجُ قلوبنا بلوحاتِها النَّارية الرّائعة قبل الغياب , و من الأشجار من لا تفارقها الخضرة أبدا, بل تزداد جمالاً و بريقاً و انتعاشاً و تشعُّ بحبّات المطر .
و هل هناك ألذّ من فاكهة الخريف .. فالتّفاح بألوانهِ الثّلاثة.. الأخضر والأصفر و الأحمر البارع , و الرمان بأنواعه الثلاثة .. الحلو و الحامض و اللفَّان , و البرتقالُ و اليوسفيُّ و الليمونُ و الكبّاد و النّارنج و العِنَبُ الجَميل الأخَّاذ , وتجتمع في الخَريف خُضار الصّيف مع خُضار الشّتاء , و تتربّع جميعا في الأسْواق بدلال .
و الطّيور التي تزورنا في طريق السّفر فتسرُّ النَّاظرين بذاك الجَمال , و الغيماتُ النَّاصعات الحانيات , و النَّسمات المنعشةُ التي تطرد عنا كسل الحرِّ , و الدوام المدْرَسيّ الّذي ينسِينا مللَ الفراغ .
و أُرهقتُ دِفاعاً , و جَلسْت تاركة قُضاتي ليسجلوا على دفاتِرهم الأحكام .. و رأيتها مُتعجِّبة مَسرورة , فقد انسَكبت ألوان اللوحاتِ سحرا و دِفئا و بَهجة و جَمالا , و كان للمطرِ أيضا بعضُ الجَمال و للأشجارِ ذاك الجلالْ , و كانت أحكامُهم الرّائعة تقول بقوّة و ثِقة :
- رائِعٌ و ساحِرٌ أنتَ أيها الخَريف .

سمر محمد
12-09-2010, 09:37 AM
الحجاب وهدية الأمان
كنت قد شعرت بالأمان بعد أن وضعت لُصاقة على كاميرا الحاسوب الخاص بي خوفا من أي اختراق, وعاد بي هذا الشعور زمنا إلى الوراء, وتذكرت إحساسا جميلا بالأمان غمرني يوم ارتديت الحجاب. كان ذلك في السنة الأولى من دراستي في معهد الفنون, وكان قرارا لا رجعة فيه أيضا بعد أن رأيت من أحوال صديقات لي محجبات ما أعجبني وأغراني بارتدائه بلا تردد. في مجتمعي الذي نشأت فيه لم يكن أمر الحجاب مألوفا, وأذكر أنني بحثت طويلا عن حجاب طلبته مدرسة التربية الدينية عندما كنت في الصف الرابع الابتدائي ولم أجد, واضطررنا يومها للذهاب إلى بيت جدتي ووجدت هناك “إيشارباً” حريرياً ملونا وصغير الحجم كما كانت الموضة في تلك الأيام, وكان أن اتخذت قراري بعد أن تم قبولي في المعهد، وبالفعل تم لي ما أردته. بالطبع كنت أبدو بين الجميع طفرةً, وعانيت من كلمات السخرية طويلا، وقالوا إنني بت أشبه الجدات, ثم أُخبرت بأنني لن أتزوج بعد ما فعلته بنفسي، وأن أيا من الشبان لن يفكر في دفن نفسه مع مثلي, وكنت أناقش حينا وأصمت ترفعا في كثير من الأحيان. وكانت أكبر الحروب على الإطلاق تلك التي خضتها مع نفسي, وكانت قد شنتها علي بقوة وامتلكت الكثير من الأسلحة التي أشهرتها في وجه صمودي, فأذكر أنها أخبرتني أن أحدا لن يتذكر تلك الحسناء, وأنني إن تزوجت فكيف سيكون حفل زفاف لا يزينه شباب وصبايا العائلة معا, وأكدت لي أنني سأبقى وحيدة هكذا دون صديقات بعد أن غدوت في هذا المجتمع كواحدة من عجائب الزمان. وكدت أرفع راية الهزيمة تحت تلك الضغوط, وتلك الحرب التي شنتها عليَّ روحي, وصمت أهلي وقرارهم بترك الأمر برمته لي وحدي. وفي الناحية الأخرى كانت تهب نسمات عليلة منعشة, كنت أرى في عيون البعض شيئا من إعجاب، وفي عيونهن كثيرا من الانكسار, وكانت كلمات أحدهم وقد صارحته برغبتي في ترك الحجاب فقال: “سيضحك الجميع عليك, وسيشمتون بك, فكلهن يتمنين لأنفسهن ما فعلت, ولكنهن ضعيفات”. وكأن كلماته كانت جرعة الدواء, وكأن الله أرسله بها ليداوي تلك العلة, فكان الثبات. بدأت بعدها ألمح في العيون احتراما وتقديرا, وكنت أول من تزوج من أولئك الفتيات, وكان زوجا أستطيع أن أفخر بارتباطي به, ولم يفسد غياب الشبان حفل زفافي مطلقا, فكان أن فقدت أسلحة الجميع أنصالها وخاب سلاح نفسي معهم. وبدأ السرور يتبدى لعيني بعد حين فرأيت الحجاب يزين رأس والدتي وأخواتي وخالاتي وصار وجود الحجاب أمرا عاديا بعد سنوات عدة, وقد تذكرت تلك الأيام السعيدة بعد أن أعادت إليَّ لصاقتي ذلك الشعور اللذيذ بالأمان, وحمدت الله أن هداني وأهداني هذا الثبات، وسألته تعالى حسن الختام.

سمر محمد
12-09-2010, 09:38 AM
اتركوني وحدي
كنت قد أصبت بنوبة غضب شديد من أولادي عندما زادت مشاحناتهم في أيام العيد , و رغم أنه كان من المفروض أن تكون أيام سعادة لنا جميعا , و لكنني أعلنت يومها الخصام على الجميع بما فيهم والدهم والذي كانت تهمته أنه لم يوقف تلك المشاحنات بنظرة عتاب قاسية كما كان يفعل من قبل , و قد كانت تكفي برأيي لجعل المنزل أكثر راحة و سكينة .
و اعتزلت الجميع و غادرت نحو غرفتي و أغلقت الباب دونهم , و لم يعنيني حزنهم العميق أبدا , فقد كانت ثورة الغضب في أوجها آنذاك .
و هناك بدأ الندم و الحزن يتسرب نحوي و يعلو منسوبه في قلبي , و بدأت مشاعر الإشفاق و الحنان تغزو المكان و تشدني رحمتي بهم نحوهم , فقد كانت مشاحناتهم كما هي العادة لا تتعدى ثوانيها و يعودون بعدها أصدقاء أحبة , و كنت من قبل أبتسم لرؤيتهم يتعاركون و أقول في نفسي ليتعلموا هذا الفن هنا في المنزل و ليخرجوا بعدها لمواجهة الحياة أشداء , و لم يزد الأولاد عن هذا في العيد .. فما الذي دفعني لهذا الغضب ؟!
كنت أدرك أنها أعصابي أنا التي باتت مشدودة و أنني افتقدت الكثير من مرونتي في التعامل معهم في هذه الأيام , و قد باتت أقل الأعمال و الأقوال تغضبني .
و قدَّرت أن السبب في هذا يعود لفقداني لتلك الساعة التي كنت أقضيها بمفردي و مع نفسي فقط بعد أن ينام الأولاد , و قبل أن يصل والدهم مساءا, و قد كنت أحرص على تلك الساعة فأجدني أشحن بها طاقاتي و أقوم بترتيب أولوياتي و أراجع و أحاسب نفسي و أتدارك مواضع التقصير في يومي و ليلتي و كنت أناجي فيها خالقي و أقرأ بعض القرآن أبتغي به رضا الله عني .
و لكن في أيام العيد كنا نتواجد أغلب الأوقات خارج المنزل , وكان الأولاد يرفضون الذهاب نحو غرفهم مبكرين لأنها أيام عطلة ,و لهذا فقد اختفت ساعتي و ضاعت في زحمة الزيارات و السهرات و اللهو , فكان أن أرهقت و لم أجد ما أستعيد به شعوري بنفسي و أجدد به طاقاتي .
و أدركت قيمة تلك الساعة و ما كانت تمنحني إياه من هدوء و طمأنينة و استرخاء و قدرة على تحمل الضغوط اليومية,
و كان أن فتحت باب غرفتي و جلست بينهم مبتسمة أستمتع بالعصير الطازج , و قد كان شرطي لقبول الصلح معهم أن يتركوني لوحدي ساعة في اليوم , و لم أكن شديدة الطمع فقد كنت أستيقظ مبكرة قبل الجميع عندما لا تكون الظروف مواتية للحصول على ساعتي في المساء , و قد فهمت و فهم الجميع أنها ساعتي الحبيبة و التي تجعل بقية الساعات أجمل .
فحريا بك أيتها الأم و الزوجة و الفتاة أن تكون لك مع نفسك ساعة , تخططين و تتدارسين فيها شؤون حياتك و تستعيدين بها قدرتك على التحمل, و ستكون ساعة السعادة لو استمرت و كانت ساعة حساب تجددين فيها علاقتك مع الله تعالى و تبنين بها دنياك و آخرتك فكم نحتاج للسفر عبر أروقة نفوسنا لنكتشفها و نعيش معها و نحاسبها و نحبها أيضا .