المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : غصون رمضانية


منتهى
06-19-2016, 11:43 AM
هلالُ الفرح
غصون رمضانية (1)


متى يهل حبيب القلوب من الآفاق؛ ليرسل إلى الأرواح أنوارَ السرور بدخول خير الشهور، وتنزل هدايا الرحمن التي تجلو العقول، وتهذب النفوس، وتطهر الجوارح؟


لقد طال انتظار المحبين على شواطئ الشوق، وهم يرقبون طلوع مؤذِنِ السعادة، وبشير موسم العبادة، فمتى تضيء السماء بطلعته، ويُهتك سترُ الظلام ببسمته، وتهبط الرحمات بميلاد شهره؟
الشوقُ بين ضلوعنا يتوقّدُ
والعينُ في أفق السما تتردّدُ
فمتى سيشرق شهرُنا ويهلّ مِن
وسط الظلام هلالُه والمولِدُ؟


حتى إذا بدت من المطالع بشائرُ المنتظر الحبيب، وأطلّت على نواحي السماء إشراقة الحبور؛ استبشر المؤمنون، وعمهم الفرح، فأزهرت الوجوه، وانشرحت الصدور، وربما دمعت على الخدود العيون، فراحوا يفرشون طريق رمضان بالعزم الصادق على العمل الصالح، ويطلقون لجوارحهم العنانَ لتستبق في ميدان الصيام الصحيح، والقيام الخاشع، والتلاوة المتأملة، والأخلاق الحسنة، والكرم والجود، وغير ذلك من مجالات الخير والبر.


فأهلاً بهلال تمتلئ به المساجد، ويمتد إلى المعوزين فيه سخاء الأماجد، ويغلب فيه على عموم المسلمين الإقبال إلى الخير المتنوع.
وأهلاً بهلال تهل معه البركات، وتكثر فيه الخيرات، وتقضى فيه الحاجات، وينعم فيه ذوو الطاعات.
وأهلاً بهلال يشير على المسلمين بجمع الكلمة، وتوحيد الصف، والانتصار على أمراض النفس، وصبغ المجتمع بصبغة الطهر.


فيا من أدركه هلال رمضان حيًا صحيحًا اشكرِ الله على نعمة البقاء؛ لتدرك فضائله، وتنال نوائله، فكم من قريب أو بعيد أو صديق أو جار قد سبقوك إلى الآخرة فانقطعت أعمال جوارحهم، وربما يتمنى متمنيهم أن يرجع إلى الدنيا لينال بركة رمضان، فأنت الآن في مُنَاهم، وما أقرب أن يلحق آخر العباد بأولاهم.


قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لرجل وهو يعظه: (اغتنم خمسًا قبل خمس: شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك)[1].


وقال الشاعر:
إذا هبّتْ رياحك فاغتنمها
فعقبى كل خافقةٍ سكونُ
ولا تغفلْ عن الإحسان فيها
فلا تدري السكون متى يكونُ[2].


[1] رواه الحاكم والبيهقي، وهو صحيح.
[2] البيتان لابن هندو، غرر الخصائص الواضحة، للوطواط (ص: 131).

منتهى
06-19-2016, 11:43 AM
غصون رمضانية (2)
منازلُ رمضان

رمضان ضيف العام، ينزل على المسلمين أيامًا معدودة، فيختلف الناس في استقباله، ويتفاوتون في العيش معه أيام حلوله إلى وقت ارتحاله، فهو ضيف ينزل منازل شتى، فمن المنازل: منازل تظل مترقبة بحبٍّ وصولَه، وتعد الشهور والأيام والليالي شوقًا لاستقباله، فقد برح بها الانتظار، وكادت أن تذوب شوقًا؛ حرصًا على لقاء حبيب منتظر، ألفت في نزوله الراحةَ والسعادة تحت دوحة الطاعة الظليلة، حينما قضت حقَّ قِراه، وقامت بواجب الضيافة ومستحبه، فلسان حالها ومقالها لرمضان:
فقلتُ له أهلاً وسهلاً ومرحبًا ♦♦♦ فهذا مبيتٌ صالح وصديق[1].

فهذه المنازل الكريمة تملك قلوبًا حية، وأرواحًا مشرقة، فرأت في نزول رمضان عليها غنيمة باردة، تتزود منها مغانم ليوم المغارم، وسحابة هتانة تهمي عليها بوابل من الطاعات، إلى ما لديها من طاعات فتكون: ï´؟ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ ï´¾ [البقرة: 265]؛ فلهذا تحيا منازلها مع هذا الضيف الكريم حياة طيبة، تغمرها البسمة واللذة، فإذا دنت ساعاتُ الرحيل رسمت ذكراها على القلوب الألم، وعلى الوجوه الحزن، وربما أرسلت على الخدود دموع الولَهِ، والحال كما قال ابن المعذل:
إن السرور تصرّمتْ أيامُه
منِّي وفارقني الحبيب المؤنسُ
حالانِ لا أنفك من إحداهما
مستعبراً أو باكيًا أتنفس
ولمثله بكت العيون صبابةً
ولمثله حزنتْ عليه الأنفس[2]
ومن منازل رمضان: منازل قوم يستعدون لاستقبال ضيف العام بإعداد قائمة طويلة من مطعومات رمضان ومشروباته، فإذا اقترب الوعد الحق خرجوا إلى الأسواق، فآبوا بالأسواق إلى بيوتهم، فحملوا من الطعام والشراب ما اتفق واختلف في اللون والطعم والحجم، فمن أصنافه: صنوفٌ بيض وحمر مختلف ألوانها وغرابيب سود، ما إنّ جملة ذلك لتنوء بالعصبة أولي القوة، كأن رمضان هبط وحشًا كاسراً أُجيعَ سنة كاملة فجاء إليهم يذيب الشحم، ويأكل اللحم، وينقي العظم، فإذا نزل بهم مدّوا الموائد، وأوسعوا البطون، وأتعبوا النساء في المطابخ، وعانى عمّال النظافة بقايا أخوِنة[3] طعامهم وشرابهم؛ ولهذا يفرح تجار الأغذية بدخول رمضان فرحًا شديداً، لا بفضائله ونوائله، ولكن لأرباحهم المالية فيه؛ بسبب هذا الصنف من الناس.

فأهل هذه المنازل يعدون رمضان للأجساد لا للأرواح، وللبطون لا للقلوب؛ ولهذا يُرَون بِطاءً في مسالك القربات، سِراعًا إلى طرق اللهو والملذات، فيثقل عليهم الصيام، وتطول عليهم الأيام، ويخرج رمضان ضيفًا ثقيلاً، ونازلاً مكروهًا، وراحلاً محبوب الرحيل، فكان الحال:
ولما قضينا بالغِذا كلَّ حاجةٍ
وأوسعَ في الإسراف من هو آكلُ
فَتَرْنا عن الطاعات وامتدّ شهرنا
وفاتت ذوي التبذيرَ تلك الفضائلُ

ومن منازل رمضان: منازل قوم لا يأذنون لرمضان بدخولها، ولا يقبلون بنزوله عليهم؛ فهم ليسوا من أهل الطاعة، بل هم من هواة الخطيئة؛ ولذلك يفطرون رمضان معلنين بين الناس، أو غير معلنين، فرمضان عندهم كشعبان وشوال، فيمضي عنهم الشهر الكريم شاكيًا إلى ربه ما لقي من لؤمهم وتعديهم، أفلا يظن هؤلاء أنهم مبعوثون ليوم عظيم، يوم يقوم الناس لرب العالمين، فماذا سيقولون لله تعالى إذا قابلوه ولم يكرموا ضيفه، وقد جاءهم ليكرمهم؟!، وما موقفهم يوم القيامة وهم يرون كرمَ العطاء لمن نزل عليهم رمضان فأكرموه؟

قال الأَصمعي: أَنشَدَني رجل من أهل البصرة:
فما لَك يوم الحشر شيءٌ سوى الذي
تزوّدته قبل الحساب إلى الحشر
إذا أنتَ لم تزرع وأبصرت حاصداً
ندمتَ على التضييع في زمن البذر[4]

[1] البيت لعمرو بن الاهتم، البيان والتبيين، للجاحظ (ص: 21).
[2] ديوان عبد الصمد بن المعذل (ص: 76).
[3] ( الخوان ): ما يؤكل عليه ( ج ) أخونة وخون وأخاوين، المعجم الوسيط (1/ 263).
[4] أمالي ابن دريد (ص: 25).

منتهى
06-19-2016, 11:44 AM
رحلةٌ سعيدة
غصون رمضانية (3)

نزل الضيف الكريم فاهتز الكون فرحًا وطربًا، ومادت أغصانُ الإيمان نشوة وسروراً، وابتسمت أرض الطاعات استبشاراً وجذَلاً؛ فقد آن للكون أن يرى جموعَ المسلمين بين أعطافه يلبسون حلية الطاعة العامة؛ فتبرق جوانب الحياة صلاحًا وتقى، ويتثنون سعداء بين أكناف عبادة لا تزورهم إلا مرة واحدة في العام؛ فيعانقونها عناق الحبيب للحبيب.
ولِدَ (الهلالُ فللحياةِ) ضياءُ
وفم الزمان تبسّمٌ وثناء
وتعطّر الكونُ الفسيح بنوره
وتوالت الأنوار والأنداء[1]

وحان للإيمان أن يعلو بنيانه، وتقوى أركانه، وتُجلا قسماته، وتمشي في المجتمع براهينه وآياته، فلعله في الشهور الأحد عشر الماضية قد أصيب بجروح المعاصي وصدوعها، ووهنِ المخالفات وقتَرها.

ونزل برياض الطاعات موعدٌ تنبض فيه بالحياة الكاملة، فتورق أشجارها، وتمتد فروعها، وتشرق غصونها، وتفوح أطياب أزهارها، وتتهدل ثمراتها، فلعل أيامها السابقة قد جلبت لها الذبول والعبوس.

فجاء رمضان لينطلق ركبُ الطاعة إلى مسالك العمل الصالح نشِطًا مكثِراً، مبيّتًا نية الصيام من الليل، قاصداً بالأعمال التي عزم عليها وجهَ الله تعالى وحده، غير مشركٍ لأحد فيها- سوى الله - توجهًا وتقربًا، متابعًا فيها رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، مقتديًا بقوله وفعله وحاله في رمضان.
قال تعالى: ï´؟ قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا ï´¾ [الكهف: 110].

وقال تعالى: ï´؟ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا ï´¾ [الأحزاب: 21].

وقال رسول الله صلى الله عليه و سلم: (من لم يبيّت الصيام قبل الفجر فلا صيام له)[2].

فإذا هبّ على المسلم نسيمُ السحر فليشم أريجه وهو مبادرٌ إلى ثلاثة أعمال عظيمة، إلى صلاة - ولو ركعتين - يتلذذ بين قيامها وركوعها وسجودها، ï´؟ أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ ï´¾ [الزمر: 9]، وإلى دعاء يحمل على مدارجه الصاعدة رجاءَ آمال يبغيها، واستعاذةً من شرور يخشاها، مع استغفار يمسح به مدادَ خطايا صحيفته، ï´؟ كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ï´¾ [الذاريات: 17، 18]، والعمل الثالث تزوّده ليوم صيامه بلقيمات تشد بدنه، وتعينه على الاجتهاد في أعمال يومه الآتي، ولو تمراتٍ، أو جرعةَ ماء، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (تسحروا؛ فإن في السحور بركة)[3]، وقال صلى الله عليه وسلم: (السحور كله بركة، فلا تدعوه، ولو أن يجرع أحدكم جرعة من ماء؛ فإن الله عز وجل وملائكته يصلون على المتسحرين) [4].

إن هذه الرحلة السعيدة في جنان رمضان ستمتد شهراً كاملاً فلابد أن يأخذ المسلم أهبته، ويعد لها عدته، فقد قالت العرب: "قَبْلَ الرِّمَاءِ تُمْلأ الكَنَائِنُ" يعني: تؤخذ أُهبَةَ الأمر قبل وُقوعه[5].

فهي ليست يومًا ولا أسبوعًا فيفوته الخير إن دهمه التقصير والفتور، وليست عامًا فيملّها، أو يسوّف العمل فيها إلى قابل الأيام، بل هي شهر واحد فقط من عام كامل، وهبةٌ إلهية تستحق أن يستعد المسلم لها استعداداً خاصًا يقوم على ركنين:
الأول: العزيمة الداخلية الصادقة التي تُعدّ المحركَ والوقود للعمل، فينبغي إذكاؤها وشحذها بالتأمل فيما أعده الله تعالى للمسابقين إلى الخيرات، المنتهزين فرصَ الباقيات الصالحات، والنظر في فجأة المنية، وورود قواطع العمل، وبلوغ الأمنية:
اغتنمْ في الفراغ فضلَ ركوع
فعسى أن يكون موتك بغته
كم صحيحٍ رأيتَ من غير سقم
ذهبتْ نفسه الصحيحة فلته[6]

والركن الثاني: الجد في سَوْق الجوارح إلى الإكثار المتقن من العمل الصالح المتنوع-لازمًا ومتعديًا- ليلاً ونهاراً، سراً وجهاراً، ولو استطاع المسلم المسابق في مضمار القربات الانعتاقَ من أعمال الدنيا الصادة عن المسابقة من غير ضرر على ضرورة ليتفرغ لعبادة الله تعالى في رمضان فقد رزق خيراً كثيراً، وفي بقية الشهور تعويض ما فات من شؤون الدنيا في شهر رمضان، فإذا لقي الله تعالى وهو على مطية الجد فما أحسن وأعظم ما ينتظره عند الرب الكريم!:
و(عِنْدَ الصَّبَاح يَحْمَدُ القَوْمُ السُّرَى ♦♦♦ وَتَنْجَلِي عَنهُمُ غَيَابَاتُ الْكَرَى)"[7].

[1] البيتان لشوقي دون ما بين القوسين.
[2] رواه البيهقي والنسائي والدارقطني، وهو صحيح
[3] متفق عليه.
[4] رواه أحمد، وإسناده قوي.
[5] مجمع الأمثال، للميداني (2/ 101).
[6] بيتان منسوبان للإمام البخاري، مقدمة فتح الباري (ص: 482).
[7] مثل يضرب للرجل يحتمل الَشَّقةَ رَجَاءَ الراحة، مجمع الأمثال، للميداني، للميداني (2/ 3).

منتهى
06-19-2016, 11:45 AM
رحلةٌ سعيدة
غصون رمضانية (3)

نزل الضيف الكريم فاهتز الكون فرحًا وطربًا، ومادت أغصانُ الإيمان نشوة وسروراً، وابتسمت أرض الطاعات استبشاراً وجذَلاً؛ فقد آن للكون أن يرى جموعَ المسلمين بين أعطافه يلبسون حلية الطاعة العامة؛ فتبرق جوانب الحياة صلاحًا وتقى، ويتثنون سعداء بين أكناف عبادة لا تزورهم إلا مرة واحدة في العام؛ فيعانقونها عناق الحبيب للحبيب.
ولِدَ (الهلالُ فللحياةِ) ضياءُ
وفم الزمان تبسّمٌ وثناء
وتعطّر الكونُ الفسيح بنوره
وتوالت الأنوار والأنداء[1]

وحان للإيمان أن يعلو بنيانه، وتقوى أركانه، وتُجلا قسماته، وتمشي في المجتمع براهينه وآياته، فلعله في الشهور الأحد عشر الماضية قد أصيب بجروح المعاصي وصدوعها، ووهنِ المخالفات وقتَرها.

ونزل برياض الطاعات موعدٌ تنبض فيه بالحياة الكاملة، فتورق أشجارها، وتمتد فروعها، وتشرق غصونها، وتفوح أطياب أزهارها، وتتهدل ثمراتها، فلعل أيامها السابقة قد جلبت لها الذبول والعبوس.

فجاء رمضان لينطلق ركبُ الطاعة إلى مسالك العمل الصالح نشِطًا مكثِراً، مبيّتًا نية الصيام من الليل، قاصداً بالأعمال التي عزم عليها وجهَ الله تعالى وحده، غير مشركٍ لأحد فيها- سوى الله - توجهًا وتقربًا، متابعًا فيها رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، مقتديًا بقوله وفعله وحاله في رمضان.
قال تعالى: ﴿ قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا ﴾ [الكهف: 110].

وقال تعالى: ﴿ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا ﴾ [الأحزاب: 21].

وقال رسول الله صلى الله عليه و سلم: (من لم يبيّت الصيام قبل الفجر فلا صيام له)[2].

فإذا هبّ على المسلم نسيمُ السحر فليشم أريجه وهو مبادرٌ إلى ثلاثة أعمال عظيمة، إلى صلاة - ولو ركعتين - يتلذذ بين قيامها وركوعها وسجودها، ﴿ أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ ﴾ [الزمر: 9]، وإلى دعاء يحمل على مدارجه الصاعدة رجاءَ آمال يبغيها، واستعاذةً من شرور يخشاها، مع استغفار يمسح به مدادَ خطايا صحيفته، ﴿ كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ﴾ [الذاريات: 17، 18]، والعمل الثالث تزوّده ليوم صيامه بلقيمات تشد بدنه، وتعينه على الاجتهاد في أعمال يومه الآتي، ولو تمراتٍ، أو جرعةَ ماء، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (تسحروا؛ فإن في السحور بركة)[3]، وقال صلى الله عليه وسلم: (السحور كله بركة، فلا تدعوه، ولو أن يجرع أحدكم جرعة من ماء؛ فإن الله عز وجل وملائكته يصلون على المتسحرين) [4].

إن هذه الرحلة السعيدة في جنان رمضان ستمتد شهراً كاملاً فلابد أن يأخذ المسلم أهبته، ويعد لها عدته، فقد قالت العرب: "قَبْلَ الرِّمَاءِ تُمْلأ الكَنَائِنُ" يعني: تؤخذ أُهبَةَ الأمر قبل وُقوعه[5].

فهي ليست يومًا ولا أسبوعًا فيفوته الخير إن دهمه التقصير والفتور، وليست عامًا فيملّها، أو يسوّف العمل فيها إلى قابل الأيام، بل هي شهر واحد فقط من عام كامل، وهبةٌ إلهية تستحق أن يستعد المسلم لها استعداداً خاصًا يقوم على ركنين:
الأول: العزيمة الداخلية الصادقة التي تُعدّ المحركَ والوقود للعمل، فينبغي إذكاؤها وشحذها بالتأمل فيما أعده الله تعالى للمسابقين إلى الخيرات، المنتهزين فرصَ الباقيات الصالحات، والنظر في فجأة المنية، وورود قواطع العمل، وبلوغ الأمنية:
اغتنمْ في الفراغ فضلَ ركوع
فعسى أن يكون موتك بغته
كم صحيحٍ رأيتَ من غير سقم
ذهبتْ نفسه الصحيحة فلته[6]

والركن الثاني: الجد في سَوْق الجوارح إلى الإكثار المتقن من العمل الصالح المتنوع-لازمًا ومتعديًا- ليلاً ونهاراً، سراً وجهاراً، ولو استطاع المسلم المسابق في مضمار القربات الانعتاقَ من أعمال الدنيا الصادة عن المسابقة من غير ضرر على ضرورة ليتفرغ لعبادة الله تعالى في رمضان فقد رزق خيراً كثيراً، وفي بقية الشهور تعويض ما فات من شؤون الدنيا في شهر رمضان، فإذا لقي الله تعالى وهو على مطية الجد فما أحسن وأعظم ما ينتظره عند الرب الكريم!:
و(عِنْدَ الصَّبَاح يَحْمَدُ القَوْمُ السُّرَى ♦♦♦ وَتَنْجَلِي عَنهُمُ غَيَابَاتُ الْكَرَى)"[7].

[1] البيتان لشوقي دون ما بين القوسين.
[2] رواه البيهقي والنسائي والدارقطني، وهو صحيح
[3] متفق عليه.
[4] رواه أحمد، وإسناده قوي.
[5] مجمع الأمثال، للميداني (2/ 101).
[6] بيتان منسوبان للإمام البخاري، مقدمة فتح الباري (ص: 482).
[7] مثل يضرب للرجل يحتمل الَشَّقةَ رَجَاءَ الراحة، مجمع الأمثال، للميداني، للميداني (2/ 3).

منتهى
06-19-2016, 11:45 AM
ربان السفينة
غصون رمضانية (4)

تنطلق الرحلة السعيدة بالله مجراها ومرساها تمخر عباب الزمن القصير، وعلى مقود سفينتها ربان القيادة الذي يزجيها إلى شطآن الأمان، ويلقي على رفقاء الركوب تعاليمَ السلامة، ومفرداتِ خطة الاستقامة.

إن على كاهله مهمة عظيمة، وأمانة كبيرة؛ فهو النور الذي يشق سجوف الظلام ليعبِّد طريقًا منيراً للسائرين، وهو القبلة التي يتجه إليها الحيارى؛ ليعرفوا السبيل السالكة، والوجهة الصحيحة.
إذا نحن أدلجنا وأنتَ إمامُنا
كفى بالمطايا طِيبُ ذكراك حاديا
وإن نحن أضللنا الطريقَ ولم نجد
دليلاً كفانا نورُ وجهك هاديا[1].

وهو الذي يرقب أحوال رفقاء الطريق فيكون الطبيبَ لمدنَفهم، والواعظَ لمسيئهم، والمذكِّر لغافلهم، والمعلِّم لجاهلهم، والدليل لضالهم، والقدوة لهم في أقواله وأعماله، وهم يردون نهر أحواله يستعذبون ماء النجاة من قوله ومن فعله، وينظرون إليه نظرة إكبار وإجلال، ويسلمون له أسماعهم وقلوبهم، وينقلون ما رأوه عليه، وما سمعوه منه إلى الواقع العملي. فـ" كُلُّ الصَّيْدِ في جَوْفِ الفَرَا"[2].

فيا إمام المسجد، أنت ربان السفينة التي يفد إليها المصلون، وحادي القافلة الذي قدَّمه المتطهرون، وكبش الكتيبة الذي سوّده المتوضئون، والشامة التي يشرئب إليها الناظرون، وأنت في نعمة عظيمة، ووظيفة شريفة، إذا قمتَ بحقها، وأديت أمانة الله عليك فيها.
قد رشحوك لأمر لو فطنتَ له ♦♦♦ فاربأ بنفسك أن ترعى مع الهمل[3].

فإذا جاء رمضان عظم الخَطب، وزادت التكاليف، وكثرت الحاجة إلى جهدك، والتفت الناس إلى بضاعتك، وانتظروا ما تقدمه لهم من عطايا الآخرة، فكنْ في أسنمة الثناء، ولا ترضَ لنفسك معرّةَ الهجاء.
عليك بأرباب الصدور، فمن غدا
مضافاً لأرباب الصدور تصدّراً
وإياك أن ترضى (لنفسك سُبَّة)
فتنحطَ قدراً من عُلاك وتُحقرا[4]

فقُبيل مجيء رمضان أعدّ البرنامجَ الدعوي النافع المتنوع الذي تسير عليه في زمان الشهر الكريم، وليكن هذا البرنامج مما ترى أن الناس محتاجون إليه-فيمكن أن يكون فيه: مجالس تفسيرية وتدبرية للقرآن الكريم، وأحكام الصيام والزكاة، وشيء من رقائق، وسيرة وتاريخ إسلامي، وغير ذلك مما ينفع الناس.

كما أنها نعمة عظيمة أن يأتي رمضان فيسوق جموعَ الناس إلى سفينتك التي تنجي الغرقى، وتصل بأهلها إلى بر السلامة، فبعض الذين تلاطمت بهم أمواج الغفلة واللهو أحد عشر شهراً لجأوا – راغبين - إلى مركبك، فأحسن استقبالهم، وأكرم قدومهم بحسن تعاملك، وبذوخ أخلاقك، وسعة صدرك، وقوة تحملك جهلَهم وضجيجهم ونقدهم واعتراضهم؛ فهم من مؤلفة رمضان؛ فابذل لهم زكاة رِفْقك، وصدقة صبرك.

وحبّب إليهم المسجد وروَّاده بحسن تعليمك، وطيب تربيتك، ولين جانبك، وصدق نصحك، وحكمة معالجتك للأخطاء، وجمال ما تلقي عليهم من المعلومات والقالب الذي يوصلها إليهم.
وهيّء الجوَّ المريح في أرجاء مسجدك، وأزلْ أسباب النفور عنه بقدر استطاعتك.
وزيّن الصلاة بإتقانك للقرآن، وحسن صوتك، وهدوء قراءتك، وتخفيفك عن الناس إلى حد مقبول.

ونحن نعلم وأنت تعلم أن الحِمل ثقيل، والعبء جليل، وقد تلقى من الناس مَن لا يقدرك حق قدرك، ولا يشكر لك فضلك وبَذْلك، بل قد تجد من يسيء إليك، ويلقي متواترَ اللوم عليك، وأنت سائر على الجادة، قائم بحق المهمة، فدع ذاك الجفاء والإساءة خلف ظهرك، ويمم نحوَ ثناء الله وثوابه، على بساط الإخلاص، غير ملتفت إلى مدح المادحين، وإعجاب المعجبين، ï´؟ فَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ï´¾ [الشورى: 36].

[1] الفوائد (ص: 41)، لابن القيم.
[2] مثل يضرب لمن يُفَضَّلُ على أقرانه، مجمع الأمثال، للميداني (2/ 136).
[3] البيت من لامية الطغرائي، الكشكول، للعاملي (1/ 303).
[4] البيتان في نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب، للتلمساني (5/ 190)، دون ما بين القوسين.

منتهى
06-19-2016, 11:46 AM
ربان السفينة
غصون رمضانية (4)

تنطلق الرحلة السعيدة بالله مجراها ومرساها تمخر عباب الزمن القصير، وعلى مقود سفينتها ربان القيادة الذي يزجيها إلى شطآن الأمان، ويلقي على رفقاء الركوب تعاليمَ السلامة، ومفرداتِ خطة الاستقامة.

إن على كاهله مهمة عظيمة، وأمانة كبيرة؛ فهو النور الذي يشق سجوف الظلام ليعبِّد طريقًا منيراً للسائرين، وهو القبلة التي يتجه إليها الحيارى؛ ليعرفوا السبيل السالكة، والوجهة الصحيحة.
إذا نحن أدلجنا وأنتَ إمامُنا
كفى بالمطايا طِيبُ ذكراك حاديا
وإن نحن أضللنا الطريقَ ولم نجد
دليلاً كفانا نورُ وجهك هاديا[1].

وهو الذي يرقب أحوال رفقاء الطريق فيكون الطبيبَ لمدنَفهم، والواعظَ لمسيئهم، والمذكِّر لغافلهم، والمعلِّم لجاهلهم، والدليل لضالهم، والقدوة لهم في أقواله وأعماله، وهم يردون نهر أحواله يستعذبون ماء النجاة من قوله ومن فعله، وينظرون إليه نظرة إكبار وإجلال، ويسلمون له أسماعهم وقلوبهم، وينقلون ما رأوه عليه، وما سمعوه منه إلى الواقع العملي. فـ" كُلُّ الصَّيْدِ في جَوْفِ الفَرَا"[2].

فيا إمام المسجد، أنت ربان السفينة التي يفد إليها المصلون، وحادي القافلة الذي قدَّمه المتطهرون، وكبش الكتيبة الذي سوّده المتوضئون، والشامة التي يشرئب إليها الناظرون، وأنت في نعمة عظيمة، ووظيفة شريفة، إذا قمتَ بحقها، وأديت أمانة الله عليك فيها.
قد رشحوك لأمر لو فطنتَ له ♦♦♦ فاربأ بنفسك أن ترعى مع الهمل[3].

فإذا جاء رمضان عظم الخَطب، وزادت التكاليف، وكثرت الحاجة إلى جهدك، والتفت الناس إلى بضاعتك، وانتظروا ما تقدمه لهم من عطايا الآخرة، فكنْ في أسنمة الثناء، ولا ترضَ لنفسك معرّةَ الهجاء.
عليك بأرباب الصدور، فمن غدا
مضافاً لأرباب الصدور تصدّراً
وإياك أن ترضى (لنفسك سُبَّة)
فتنحطَ قدراً من عُلاك وتُحقرا[4]

فقُبيل مجيء رمضان أعدّ البرنامجَ الدعوي النافع المتنوع الذي تسير عليه في زمان الشهر الكريم، وليكن هذا البرنامج مما ترى أن الناس محتاجون إليه-فيمكن أن يكون فيه: مجالس تفسيرية وتدبرية للقرآن الكريم، وأحكام الصيام والزكاة، وشيء من رقائق، وسيرة وتاريخ إسلامي، وغير ذلك مما ينفع الناس.

كما أنها نعمة عظيمة أن يأتي رمضان فيسوق جموعَ الناس إلى سفينتك التي تنجي الغرقى، وتصل بأهلها إلى بر السلامة، فبعض الذين تلاطمت بهم أمواج الغفلة واللهو أحد عشر شهراً لجأوا – راغبين - إلى مركبك، فأحسن استقبالهم، وأكرم قدومهم بحسن تعاملك، وبذوخ أخلاقك، وسعة صدرك، وقوة تحملك جهلَهم وضجيجهم ونقدهم واعتراضهم؛ فهم من مؤلفة رمضان؛ فابذل لهم زكاة رِفْقك، وصدقة صبرك.

وحبّب إليهم المسجد وروَّاده بحسن تعليمك، وطيب تربيتك، ولين جانبك، وصدق نصحك، وحكمة معالجتك للأخطاء، وجمال ما تلقي عليهم من المعلومات والقالب الذي يوصلها إليهم.
وهيّء الجوَّ المريح في أرجاء مسجدك، وأزلْ أسباب النفور عنه بقدر استطاعتك.
وزيّن الصلاة بإتقانك للقرآن، وحسن صوتك، وهدوء قراءتك، وتخفيفك عن الناس إلى حد مقبول.

ونحن نعلم وأنت تعلم أن الحِمل ثقيل، والعبء جليل، وقد تلقى من الناس مَن لا يقدرك حق قدرك، ولا يشكر لك فضلك وبَذْلك، بل قد تجد من يسيء إليك، ويلقي متواترَ اللوم عليك، وأنت سائر على الجادة، قائم بحق المهمة، فدع ذاك الجفاء والإساءة خلف ظهرك، ويمم نحوَ ثناء الله وثوابه، على بساط الإخلاص، غير ملتفت إلى مدح المادحين، وإعجاب المعجبين، ﴿ فَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ﴾ [الشورى: 36].

[1] الفوائد (ص: 41)، لابن القيم.
[2] مثل يضرب لمن يُفَضَّلُ على أقرانه، مجمع الأمثال، للميداني (2/ 136).
[3] البيت من لامية الطغرائي، الكشكول، للعاملي (1/ 303).
[4] البيتان في نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب، للتلمساني (5/ 190)، دون ما بين القوسين.

منتهى
06-19-2016, 11:49 AM
جَنَّةُ التراويح
غصون رمضانية (5)

من دوحة رمضان الندية يمتد غصن مياد من أغصانها الناعمة ليصافح أهلَ المبادرة الذين يتتبعون شعف الأعمال، ومواقع قطر القربات؛ ليرووا روضة الإيمان؛ ليقوى عودها، وتورق فروعها، وتضحك أزاهيرها، ويفوح عبيرها.

فتحتَ هذا الغصنِ الذي يتفيأ ظلاله وجماله عن اليمين والشمائل يلفي السبّاقون جنةً من جنات الدنيا يستحم فيها الفؤاد المفؤود، ويستجم فيها الصدر الجريح، وتغتسل العيون من قتام القسوة، ويلبس الوجه حلة نورانية مشعة، ويطلق الحِجا ليسبح في ملكوت الآيات، فيكسر مغالقَ الغفلة، ويفك قيود الفهم، وتنال الآذان نصيبها من سماع الجُمل العذبة التي تترقرق فيها ترقرق الجداول في الخمائل، وتأخذ الأقدام جظها من القيام الخاشع الذي تدخره ليوم قيامها لرب العالمين.
تلك صلاة التراويح التي منَّ الله تعالى بها على أهل رمضان.

تلك العبادة التي تعد من محرِقات الأوزار، قال رسول الله صلى الله عليه و سلم: (من قام رمضان إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه)[1] ومن صفات الأخيار الأبرار، الذين ï´؟ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ ï´¾ [النور:37].
تلك القربة التي يشتاق إليها المحسنون، وكلما اقترب نزول رمضان برّح بهم الحنين، وعظمت اللوعة:
وأعظم ما يكون الشوق يوماً ♦♦♦ إذ أدّنت الخيام من الخيام[2].

فما أحسنَ تلك الجموع التي ظلت واقفة بين يدي ربها تسمع آيات كتابه تتلى عليها زمرة بعد زمرة، وهي لا تبرح مصلاها حتى يفرغ الإمام، طالبةً بصبرها ورباطها هذا ثوابَ الآخرة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الرجل إذا صلى مع الإمام حتى ينصرف حسب له قيام ليلة)[3].

لقد ترك هؤلاء القائمون أهلَ الغفلة وراءهم يحتسون كؤوس الخسارة، مثقلين بثقل بطونهم، أو مسلوبي النهى والعيون من وسائل إعلامهم، أو منصرفين إلى أعمال دنياهم، أو لاهين في أودية عبثهم، ومجالس قالهم وقيلهم، فالصالحون في شأن وسواهم في شؤون أخرى، فطوبى لأولئك القائمين، وحسرة على من لم يكن معهم.

فيا من وفِّق لصيام رمضان لا تحرم نفسك من قيامه، ولا تنظر كثرة المعرضين عنه؛ فيصدك ذلك عن جنة التراويح؛ فإن أولئك اللاهين لن يحمدوا لهوهم، ولن يسلموا من توجع الندم حينما لا ينفع.

فإذا رزقت ولوج نعيم هذه الجنة فتهيأ لها تهيؤاً صالحًا: فخفف حمولة الطعام والشراب؛ فالسباق إنما هو للخيل المضمرة، واهجر الروائح الكريهة؛ فإنها تنفر عنك صالحي السماء وصالحي الأرض؛ وسارع إلى الصفوف الأُول؛ فإنها تستحق المسابقة، وأرعِ للقراءة سمعك وقلبك؛ لتسمع فتتدبر فتعمل، فمتى وقعَ ذلك القول في القلبِ فرسخَ فيه نفعَ، فهذه طريق من طرق الفوز في رمضان:
ومن طلب الوصولَ لدار ليلى ♦♦♦ بغير طريقها وقعَ الضلالُ[4].

[1] متفق عليه.
[2] تزيين الأسواق في أخبار العشاق، للأنطاكي (1/ 58).
[3] رواه أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي وابن حبان، وهو صحيح.
[4] نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب، للتلمساني (6/ 301).

منتهى
06-19-2016, 11:51 AM
حِليةُ الأخلاق
غصون رمضانية (6)

في حياتنا هذه يتباهى الناس بجمال الظاهر- الخَلْقي والمكتسب -، ويتفاخرون بحسن الشارات، وإشراق الهيئات، وانبلاج الصور، ولطافة البِزّة، وترقرق ماء الجمال في الوجوه. وينفقون على ظهور الكمال المستطاع في ذلك كثيراً من الحرص والنظر، والمال والوقت.

ويأتي هذا الاعتناء بالتأنّق؛ لكون أكثر الناس المشاهدين يعنون[1] لدولة الحُسْن الذي تراه الأبصار، ولا يستهويهم الحسنُ الذي تراه البصائر والعقول.

أما العقلاء والمؤمنون فيحبون الجمال الظاهر؛ لأن الله" جميل يحب الجمال"[2]، ولكون النفس مجبولة على الميل إليه، ولكنهم لا يقدمونه على الجمال الباطن، بل يرونه أدنى الجمالين لا أعلاهما.

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم)[3].
لَيسَ الجَمالُ بمئزرٍ
فاعلمْ وإِنْ رُدّيتَ بُرْدا
إِنّ الجمالَ مآثرٌ
وَمَناقِبٌ أَوْرَثْنَ مَجْدا[4]

وينسب لعلي رضي الله عنه:
ليس الجمالُ بأثواب تزيننا ♦♦♦ إن الجمال جمال العلم والأدبِ[5].

كمْ من جمال ظاهر يسبي العيون والأسماع، وفي داخله قبح فسيح يضيق القلوب والصدور، ï´؟ وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ ï´¾ [المنافقون: 4].

وكم من قبح ظاهر تقتحم صاحبَه الأنظار، ولكنْ في قاعه الدر كامن، وفي باطنه آفاق واسعة من الحسن البديع، الذي إذا ظهر عظمّت النفوس صاحبه، وتاهَ ذلك القبح البادي في متاهات ذلك الجمال المعنوي الرحب. فكم من جميل الصورة، قبيح السريرة، وكم من مبغوض المنظر، محبوب الجوهر.

إن الجمال المعنوي للذوات هو نصيب القلوب الصافية، والعقول الواعية؛ لإدراكها أثرَ ذلك على الأفكار والسلوك، وأما الجمال الحسي فهو حظ العيون التي لا ترى إلا قشور الذوات، ولا تتجاوز ذلك إلى ألبابها التي قد تكون الدود عبثت بها نخراً وتفتيتًا حتى رمتْ وبليت، فما أكمل أن يجمع المرء بين جمال الباطن وجمال الظاهر، ويرضي القلوب والعيون معًا!

وما أجمل قول حسان رضي الله عنه في رسول الله صلى الله عليه وسلم:
وأَحسنُ منكَ لم ترَ قطُّ عيني
وَأجْمَلُ مِنْكَ لَمْ تَلِدِ النّسَاءُ
خُلقتَ مبرأً منْ كلّ عيبٍ
كأنكَ قدْ خلقتَ كما تشاءُ[6].

إن الأخلاق الحميدة جمال معنوي يزين الإنسان ويطريه، ويحبّبه إلى الخلق ويُعليه؛ فهو حلية برّاقة، وكساء ساتر مشرق، ودوحة وارفة الظلال يجد الخلق تحت أوراقها الغضة، وأفنانها الميّادة طيبَ العيش، وحسن الجوار الذي يقيهم وهجَ كدر الأخلاق، وسوءَ لقاء أهلها.

فالمتزين بهذه الحلية ينعم باله، ويحسن حاله، ويكثر خلاّنه، ويحتفّ به أخدانه، وتحلّ في داره السعادة، وإذا ابتغى بذلك وجه الله كان في عبادة.
سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكثر ما يدخل الناس الجنة فقال: (تقوى الله، وحسن الخلق)[7].

إن الأخلاق الحسنة سرحةٌ عظيمة كثيرة الفروع تمتد إلى جميع الجهات، وليست فرعًا واحداً إلى جهة واحدة، فهي أخلاق مع الله تعالى: من الإخلاص له في عبادته، ومراقبته، وتقواه، وشكره وذكره وحسن عبادته، وغير ذلك.

وهي أخلاق مع النفس: من صبر، وحلم، وقناعة، ومحاسبة، ومجاهدة، وغير ذلك.
وهي أخلاق مع الخلق: من رحمة، وتعاون، ونصيحة، وحب، وسخاء، وحسن عشرة، وعفة، وحفظ للسان، والسمع، والعين، واليدين، والرجلين عن السوء، وغير ذلك.

يأتي رمضان الإيمان ليسدل على المجتمع المسلم بساطَ الخلق الكريم بمعناه العام، فيعيش الرمضانيون في ظله حياة يعمرها الصيام والقيام، وصفاء الأحلام، وامتداد المحبة والوئام، وطهارة القلوب، وبشاشة الوجوه، وسلامة الجوارح من الإيذاء.

ويأتي رمضان ليزداد خلق التقوى والمراقبة والخشية، ï´؟ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ï´¾ [البقرة: 183].

ويأتي رمضان ليساعد المسلم الصائم على تربية نفسه على الأخلاق الكريمة، فيصبر على ما تكره النفس، ويلجمها عن أهوائها، وانحرافِ ميولها.

ويأتي رمضان ليعطي المسلم دروسًا في كسب القلوب، وجذب النفوس، فيحلم الصائم عند الاستغضاب، ويسخو ببشاته وابتسامته، كما يسخو بماله وعطفه.

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (وإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب، فإن سابه أحد أو قاتله فليقل: إني امرؤ صائم)[8].

فما أجمل أن ترى الصائمين وهم يسعون صاعدين على مراقي حسن العبادة الخالصة، حتى يؤدوا حق الخُلق الحسن مع الله!

وما أحسن أن ترى الصائمين وهم كالأزهار في روض الصفاء، كلهم ينشرون عبير الإخاء في الأرجاء، وتشرق البسمات الصادقة على قسمات وجوههم كما تشرق الشمس عند ميلادها على تلك الزهور المتعانقة، فيزدادون بريقًا وألقًا.

وما أكمل أن تنبت هذه الأخلاق السامية في جنة الصوم، ثم تنمو وتشتد سوقها، وتصبح أشجاراً مثمرة بعد رمضان، فينال جناها الداني صاحبُها وغيره.

إن الأخلاق ميزان الصيام، فمن حسن خلقه حسن صيامه، ومن ساء خلقه ساء صيامه.
وما سوء الأخلاق التي قد تبدو على بعض الصائمين إلا برهان على وجود خلل في صيامهم فليراجعوا صومهم قبل أن تطوى الصحيفة، ويرتحل الضيف، ويذهب الشاهد، وتُقوّض السوق المعمورة بالخيرات.

[1] عنا يعنو: خضع وذل. الصحاح للجوهري (7/ 290).
[2] رواه مسلم.
[3] رواه مسلم.
[4] البيتان لعمرو بن معد يكرب. عيون الأخبار، لابن قتيبة (ص: 127).
[5] ديوان علي بن أبي طالب (ص: 185).
[6] ديوان حسان بن ثابت (ص: 2).
[7] رواه الترمذي وابن حبان، وهو حسن.
[8] رواه البخاري.

منتهى
06-19-2016, 11:52 AM
هُدًى للنَّاس
غصون رمضانية (7)

في ليلة مباركة من رمضان سطع نورٌ عظيم في السماء، وهبطَ في سكون الليل البهيم إلى مكان ناءٍ ضمَّ بين جوانحه حاملَ هذا النور الموعود، الذي فرَّ من الدياجي القاتمة التي تحاصر بلدته "مكة"؛ ليجد في هذه البقعة القصية نورَ الأُنس بنور السماوات والأرض، وليرقب هذا اليومَ الأغرَّ الذي يعانق فيه نورَ الوحي، ويمضي به إلى الوجود؛ ليهديه من حيرته، وينجده من أمواج ظلمه وظلامه إلى ضفاف العدل والهدى.

قال تعالى: ï´؟ شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ï´¾ [البقرة: 185]، وقال: ï´؟ حم * وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ * إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ * فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ * أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ * رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ï´¾ [الدخان: 1 - 6].

ففي غار حراء ائتلف نور القول، ونور الزمان، ونور المكان، فانسكب النور في أذن الهادي البشير صلى الله عليه وسلم فحمله فجراً إلى أهل الأرض الداجية؛ ليطوي به دهوراً حالكة جثمت على صدور الخلق، وليرسله إلى القلوب فيغسل عنها أدران الشرك والانحراف، فتشرق بالتوحيد والصفاء، وتبرق بالحياة والبهاء.
بشرى من الغيب ألقتْ في فم الغارِ
وحياً وأفضتْ إلى الدنيا بأسرارِ
بشرى النبوة طافت كالشذا سحراً
وأعلنت في الرُبى ميلادَ أنوار
وشقّت الصمتَ والأنسامُ تحملُها
تحت السكينة من دار إلى دار
وهدهدتْ مكةُ الوسنى أناملَها
وهزّت الفجرَ إيذانًا بإسفار
فأقبل الفجرُ من خلف التِّلال وفي
عينيه أسرارُ عُشّاق وسمّار
كأن فيضَ السنا في كل رابية
موجٌ وفي كل سفحٍ جدولٌ جاري
تدافع الفجرُ في الدنيا يزفّ إلى
تاريخها فجرَ أجيال وأدهار[1]

هذا الكلام العظيم الذي أنزله الله تعالى على النبي الكريم نبعٌ عذب يتدفق على النفوس بالحياة الحقيقية التي تنتشلها من جفاف الموت، وعبوس الضلالة، وأغلال الأحزان؛ فتدب فيها الحياة كلّ الحياة، وتتشح بأثواب الهدى الضافية، وترسم على محياها مخايلَ السعادة الممتدة التي تحطّم قساوةَ الهموم والغموم.

إن للقرآن في رمضان خصوصية وعلاقة متصلة؛ فرمضان شهر القرآن الذي أُنزل فيه، فالإكثار من قراءته في شهر بواكير نزوله تذكرٌّ لهذه النعمة التي لا تنقطع، وشكرٌ لمن أنزلها، واقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم الذي كان يدارس جبريل القرآن كلّ عام في رمضان، وفي رمضان تتضاعف الأجور، وقراءة القرآن من أعظم ما تُجتلب به الحسنات، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من قرأ حرفًا من كتاب الله فله به حسنة، والحسنة بعشر أمثالها، لا أقول: الم حرف، ولكن ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف)[2].

وفي رمضان تخف البطن، وتضيق مجاري الشهوات، فيصفو العقل، ويرق القلب، وتقبل النفس، وتشرق الروح، فيعظم ميل المسلم إلى القراءة، وفي هذه الأحوال تؤتي تلك القراءة مع التدبر أكلَها كل حين بإذن ربها على الجوارح استقامةً وهداية.

ولهذا كان الصالحون - وما زالوا - يُعنَون بالقرآن في شهر الصيام عناية خاصة، ويولونه اهتمامًا منقطع النظير، وكان العلماء منهم خاصة يدَعون كل شيء حتى مجالس الحديث والعلم؛ لينصرفوا عاكفين على قراءة كتاب الله تعالى،"؛ فلقد كان الزهري إذا دخل رمضان قال: فإنما هو تلاوة القرآن، وإطعام الطعام. وقال ابن عبد الحكم: كان مالك إذا دخل رمضان نفَرَ من قراءة الحديث، ومجالسة أهل العلم، وأقبل على تلاوة القرآن من المصحف. وقال عبد الرزاق: كان سفيان الثوري إذا دخل رمضان ترك جميع العبادة، وأقبل على تلاوة القرآن. وكانت عائشة رضي الله عنها تقرأ في المصحف أول النهار في شهر رمضان، فإذا طلعت الشمس نامت. وقال سفيان: كان زبيد اليامي إذا حضر رمضان أحضر المصاحف وجمع إليه أصحابه"[3].

فيا أيها المسلم، الباغي الخيرَ، الحريص على الأجر، دونك هذه الغنيمةَ الباردة، والنعمة المهداة، عبَّ من منهلها الثرِّ علالاً بعد نهل، والزمْ باب التلاوة ملازمة الدائن البخيل، وليكن القرآن في رمضان هِجِّيرك ليلك ونهارك؛ فالربح وفير، والعمر قصير، والأعمار تتصرم ببغتة الحِمام، والنجاة حاجتك، والثواب طِلبتك:
وليس أخو الحَاجات مَنْ باتَ نَائماً ••• ولكنْ أَخُوها مَنْ يَبيتُ على وَجل[4].

ولكن لا تنسَ أن القراءة النافعة هي التي لازمها التدبرُ والحضور والتأمل، وباعدها الهذَّ والشرود والهذرمة،

وأورثت رُقيَّ الروح، ونقاء القلب، وعملَ الجوارح، فمن نال ذلك فقد صار من أصحاب القرآن، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يقال لصاحب القرآن: اقرأ وارق ورتل كما كنت ترتل في دار الدنيا؛ فإن منزلتك عند آخر آية كنت تقرؤها)[5].

[1] ديوان البردوني (1 /331).
[2] رواه الترمذي، وهو صحيح.
[3] طلائع السلوان، لحمزة الفتحي (ص: 115).
[4] البيت للطرماح، تفسير أبيات المعاني من شعر أبي الطيب المتنبي، لأبي المرشد المعري (ص: 91).
[5] رواه الخمسة وغيرهم، وهو صحيح.

منتهى
06-19-2016, 11:54 AM
الكَنزُ الثَّمين
غصون رمضانية (8)

هناك كنز ثمين يمتلكه كل إنسان، ولكنه لا يبقى عند كل أحد مصونًا من اللصوص الذين ينتهبونه، أو ينتهبون منه، فبعض الناس لا يشعرون أن لديهم هذا الكنز، وبعضهم يشعرون بذلك، غير أنه ليس ثمينًا عندهم؛ فلهذا لا يحرصون على حراسته، ولا يحزنون على سرقته منهم. أما العقلاء من الناس فيعدّون هذا الكنز من أثمن الكنوز، بل يعتقدون أن هذا الكنز لا يقوّم بثمن؛ لهذا فهم لا يهدرون منه شيئًا، ولا يدعون أحداً يستلب منه جزء، بل يقفون على خزائنه حراسًا يقظين، لا يصرفون من ذلك الكنز العظيم إلا فيما ينفع في العاجل والآجل.

هذا الكنز الثمين هو الوقت، الذي يُعدّ راحلةَ الإنسان في سفر الحياة، وطريقه إلى التمتع بمتع الدنيا، ومجالَه الذي يصل به إلى الآخرة، وهو النعمة التي تجاهل قدرها كثير من الناس، فضيعوها، فضاع منهم خير كثير، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ)[1].

أما الذين عرفوا عظمة الوقت فإنهم أكرموه بالحفظ والرعاية، فأكرمهم بثمر شهي من الأعمال الجبارة التي نتجت عن ذلك الاعتناء - كلٌّ على قدر ما اعتنى -، ونظرة متتبعة لعظماء الإنتاج الديني والدنيوي - في الماضي والحاضر - تدل على ما نقول.
عرف الزمانَ ذوو العقول فأسرجوا
هِممًا تتوق إلى العُلوِّ فطاروا
فبدا الصباحُ على نواصي عزمهم
بغنيمةٍ نِيلتْ بها الأوطارُ

إن الوقت ليل ونهار يتسابقان دون توقف، ويسرعان من غير تريث، من استمهلهما لم يمهلاه، ومن استنظرهما لم يُنظِراه، والوقت للإنسان عمر واحد لا يقبل التثنية والجمع، فإذا ذهب واحده أتى الإنسانَ ما يوعَدُه، ï´؟ حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ï´¾ [المؤمنون: 99، 100]. والوقت حق شخصي صِرفٌ، لا يقبل البيع والشراء، ولا الهبة ولا العطية، ولا يستدينه أحد من أحد حقيقةً، والوقت غير مؤمن بالعودة، والرجوع إلى الوراء، فما ذهب منه فلن يعود.

لقد أعطى الله تعالى الإنسان نعمةَ الزمن أرضًا خصبة يزرع فيها الشجر النافع الذي يطعم من ثمراته اليانعة - إذا زرع وتعهد زرعه بالري - راحةً في الدنيا، وفلاحًا في الآخرة.

لهذا جاءت الشريعة الإسلامية بالحث على استثمار الوقت فيما يفيد الإنسان قبل فجأة الموانع من ذلك، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (بادروا بالأعمال؛ فتناً كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل مؤمناً، ويمسي كافراً، أو يمسي مؤمناً ويصبح كافراً يبيع دينه بعرض من الدنيا) [2]، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لرجل وهو يعظه: (اغتنم خمساً قبل خمس: شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك) [3].

إن الله تعالى قد كتب على المسلمين صيام رمضان لحكم عظيمة، لعل منها: تعليمهم المحافظة على الوقت، ونبذ ثقافة الفراغ من أذهانهم، ونزع لباس العبث والكسل والفوضى من أعمالهم.

فرمضان دورة تدريبية تربي المسلم على معرفة شرف الزمان، وكيفية استثماره، فزمن صيام رمضان محدد في ابتدائه وانتهائه، والإفطار كذلك، فتناول الطعام والشراب وسائر المفطرات له وقت معلوم، والكف عنها له أيضًا زمن معين، والفراغ في رمضان - بعد أداء الواجبات - رُغِّب المسلم في ملئه بالنافع من القول والعمل ليلاً ونهاراً من صلاة نافلة، وتلاوة، وذكر، ودعاء، وجهاد، وإحسان، وغير ذلك من الأعمال الصالحة والنافعة، إضافة إلى الأعمال الدنيوية.

كما أن الصيام المشروع يُبنى على التقليل من الفضول من طعام وشراب ونوم وكلام غير نافع وخلطة؛ لأن هذه الفضول تقتل جزء كبيراً من الوقت انشغالاً بها، وقطعًا عن غيرها من الأعمال المثمرة، وتركُها يعين على التوجه للأعمال المرغَّب فيها بقوة ونشاط.

لهذا كله ينبغي للمسلم أن يدرك شرف زمان رمضان، فيملأ فراغه بالعمل المفيد الكثير، ويزيح عن باله وعن واقعه العملي وجودَ فَضلة وقت، فالوقت في حياة المسلم كلها - وخاصة في رمضان - كله عمدة.

وما أجملَ أن يكون لدى المسلم في رمضان جدولٌ دقيق يسير عليه، فيجعل لعمل الدنيا وقتًا، ولقراءة القرآن وقتًا، وللأذكار والدعاء والتعلم والتعليم وبذل المعروف، وغير ذلك من الأعمال الصالحة أوقاتًا أخرى.

وهذا التنوع المنظم الشامل لزمان رمضان يخفف على الصائم مشقة الصوم، بل ويجعل لشهر الصيام لذة وراحة، حتى تقضي الروح فيه وطرها في سعادة غامرة.

وحينما لا يعرف المسلم شرف زمان رمضان، ونفاسة وقته تزداد مساحة الفراغ لديه فتحدث عنده مشكلات ومفاسد، وإن ملأ جزء من فراغه فقد يملأه بما لا يفيد، وأعداء الزمن الشريف قد أعدّوا للصائمين عبر وسائل الإعلام ما يشغلهم عن بركة رمضان، والمسابقة إلى خيراته.

قيل لأبي العتاهية إسماعيل بن القاسم: " أي شيء قلته أحكم عندك وأعجب إليك؟ قال: قولي:
علمتَ يا مجاشعُ بنَ مَسْعَدَهْ
أنَّ الشبابَ والفراغَ والجِدَهْ
مَفْسَدةٌ للمَرْءِ أيُّ مَفْسَدَهْ [4]

فإذا انحدر المسلم إلى هذه الهوة السحيقة من معاناته مشكلةَ الفراغ، والانصراف إلى بذل الوقت النفيس في المحرمات أو التفاهات؛ فإنه تعظم خسارته البدنية والروحية، فالصيام سيثقل عليه حتى تطول عليه الأيام، ويجثم عليه ملال الطاعة، ويغدو يشكو من تخمة الفراغ المضني، ليستغيث من ذلك بالتخبط في الشوارع وأماكن اللهو خصوصًا بعد الظهر وبعد العصر، ملقيًا عن كاهله عبء الوقت وضيقه، فإذا جاء الليل نبض فيه عرق الحياة الغافلة، وانقدح في ذهنه زند اللهو المتقد، فصار عاكفًا في محاريب الغفلة، أمام قناة أو جوال، أو في مجلس للسمّار في غير طاعة، وهذا دأبه حتى يخرج رمضان فيكون في قائمة الخاسرين.
ومن ترك الزمانَ بغير بذرٍ
سيحصد عند يقظته الندامه
وغرسُ السوء يثمر كلَّ سوء
وغرس الخير يَبسُم بالسلامه

[1] رواه البخاري.
[2] رواه مسلم.
[3] رواه البيهقي، وقال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي.
[4] لباب الآداب، للثعالبي (ص: 172).

منتهى
06-19-2016, 11:54 AM
الكَنزُ الثَّمين
غصون رمضانية (8)

هناك كنز ثمين يمتلكه كل إنسان، ولكنه لا يبقى عند كل أحد مصونًا من اللصوص الذين ينتهبونه، أو ينتهبون منه، فبعض الناس لا يشعرون أن لديهم هذا الكنز، وبعضهم يشعرون بذلك، غير أنه ليس ثمينًا عندهم؛ فلهذا لا يحرصون على حراسته، ولا يحزنون على سرقته منهم. أما العقلاء من الناس فيعدّون هذا الكنز من أثمن الكنوز، بل يعتقدون أن هذا الكنز لا يقوّم بثمن؛ لهذا فهم لا يهدرون منه شيئًا، ولا يدعون أحداً يستلب منه جزء، بل يقفون على خزائنه حراسًا يقظين، لا يصرفون من ذلك الكنز العظيم إلا فيما ينفع في العاجل والآجل.

هذا الكنز الثمين هو الوقت، الذي يُعدّ راحلةَ الإنسان في سفر الحياة، وطريقه إلى التمتع بمتع الدنيا، ومجالَه الذي يصل به إلى الآخرة، وهو النعمة التي تجاهل قدرها كثير من الناس، فضيعوها، فضاع منهم خير كثير، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ)[1].

أما الذين عرفوا عظمة الوقت فإنهم أكرموه بالحفظ والرعاية، فأكرمهم بثمر شهي من الأعمال الجبارة التي نتجت عن ذلك الاعتناء - كلٌّ على قدر ما اعتنى -، ونظرة متتبعة لعظماء الإنتاج الديني والدنيوي - في الماضي والحاضر - تدل على ما نقول.
عرف الزمانَ ذوو العقول فأسرجوا
هِممًا تتوق إلى العُلوِّ فطاروا
فبدا الصباحُ على نواصي عزمهم
بغنيمةٍ نِيلتْ بها الأوطارُ

إن الوقت ليل ونهار يتسابقان دون توقف، ويسرعان من غير تريث، من استمهلهما لم يمهلاه، ومن استنظرهما لم يُنظِراه، والوقت للإنسان عمر واحد لا يقبل التثنية والجمع، فإذا ذهب واحده أتى الإنسانَ ما يوعَدُه، ﴿ حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ﴾ [المؤمنون: 99، 100]. والوقت حق شخصي صِرفٌ، لا يقبل البيع والشراء، ولا الهبة ولا العطية، ولا يستدينه أحد من أحد حقيقةً، والوقت غير مؤمن بالعودة، والرجوع إلى الوراء، فما ذهب منه فلن يعود.

لقد أعطى الله تعالى الإنسان نعمةَ الزمن أرضًا خصبة يزرع فيها الشجر النافع الذي يطعم من ثمراته اليانعة - إذا زرع وتعهد زرعه بالري - راحةً في الدنيا، وفلاحًا في الآخرة.

لهذا جاءت الشريعة الإسلامية بالحث على استثمار الوقت فيما يفيد الإنسان قبل فجأة الموانع من ذلك، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (بادروا بالأعمال؛ فتناً كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل مؤمناً، ويمسي كافراً، أو يمسي مؤمناً ويصبح كافراً يبيع دينه بعرض من الدنيا) [2]، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لرجل وهو يعظه: (اغتنم خمساً قبل خمس: شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك) [3].

إن الله تعالى قد كتب على المسلمين صيام رمضان لحكم عظيمة، لعل منها: تعليمهم المحافظة على الوقت، ونبذ ثقافة الفراغ من أذهانهم، ونزع لباس العبث والكسل والفوضى من أعمالهم.

فرمضان دورة تدريبية تربي المسلم على معرفة شرف الزمان، وكيفية استثماره، فزمن صيام رمضان محدد في ابتدائه وانتهائه، والإفطار كذلك، فتناول الطعام والشراب وسائر المفطرات له وقت معلوم، والكف عنها له أيضًا زمن معين، والفراغ في رمضان - بعد أداء الواجبات - رُغِّب المسلم في ملئه بالنافع من القول والعمل ليلاً ونهاراً من صلاة نافلة، وتلاوة، وذكر، ودعاء، وجهاد، وإحسان، وغير ذلك من الأعمال الصالحة والنافعة، إضافة إلى الأعمال الدنيوية.

كما أن الصيام المشروع يُبنى على التقليل من الفضول من طعام وشراب ونوم وكلام غير نافع وخلطة؛ لأن هذه الفضول تقتل جزء كبيراً من الوقت انشغالاً بها، وقطعًا عن غيرها من الأعمال المثمرة، وتركُها يعين على التوجه للأعمال المرغَّب فيها بقوة ونشاط.

لهذا كله ينبغي للمسلم أن يدرك شرف زمان رمضان، فيملأ فراغه بالعمل المفيد الكثير، ويزيح عن باله وعن واقعه العملي وجودَ فَضلة وقت، فالوقت في حياة المسلم كلها - وخاصة في رمضان - كله عمدة.

وما أجملَ أن يكون لدى المسلم في رمضان جدولٌ دقيق يسير عليه، فيجعل لعمل الدنيا وقتًا، ولقراءة القرآن وقتًا، وللأذكار والدعاء والتعلم والتعليم وبذل المعروف، وغير ذلك من الأعمال الصالحة أوقاتًا أخرى.

وهذا التنوع المنظم الشامل لزمان رمضان يخفف على الصائم مشقة الصوم، بل ويجعل لشهر الصيام لذة وراحة، حتى تقضي الروح فيه وطرها في سعادة غامرة.

وحينما لا يعرف المسلم شرف زمان رمضان، ونفاسة وقته تزداد مساحة الفراغ لديه فتحدث عنده مشكلات ومفاسد، وإن ملأ جزء من فراغه فقد يملأه بما لا يفيد، وأعداء الزمن الشريف قد أعدّوا للصائمين عبر وسائل الإعلام ما يشغلهم عن بركة رمضان، والمسابقة إلى خيراته.

قيل لأبي العتاهية إسماعيل بن القاسم: " أي شيء قلته أحكم عندك وأعجب إليك؟ قال: قولي:
علمتَ يا مجاشعُ بنَ مَسْعَدَهْ
أنَّ الشبابَ والفراغَ والجِدَهْ
مَفْسَدةٌ للمَرْءِ أيُّ مَفْسَدَهْ [4]

فإذا انحدر المسلم إلى هذه الهوة السحيقة من معاناته مشكلةَ الفراغ، والانصراف إلى بذل الوقت النفيس في المحرمات أو التفاهات؛ فإنه تعظم خسارته البدنية والروحية، فالصيام سيثقل عليه حتى تطول عليه الأيام، ويجثم عليه ملال الطاعة، ويغدو يشكو من تخمة الفراغ المضني، ليستغيث من ذلك بالتخبط في الشوارع وأماكن اللهو خصوصًا بعد الظهر وبعد العصر، ملقيًا عن كاهله عبء الوقت وضيقه، فإذا جاء الليل نبض فيه عرق الحياة الغافلة، وانقدح في ذهنه زند اللهو المتقد، فصار عاكفًا في محاريب الغفلة، أمام قناة أو جوال، أو في مجلس للسمّار في غير طاعة، وهذا دأبه حتى يخرج رمضان فيكون في قائمة الخاسرين.
ومن ترك الزمانَ بغير بذرٍ
سيحصد عند يقظته الندامه
وغرسُ السوء يثمر كلَّ سوء
وغرس الخير يَبسُم بالسلامه

[1] رواه البخاري.
[2] رواه مسلم.
[3] رواه البيهقي، وقال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي.
[4] لباب الآداب، للثعالبي (ص: 172).

منتهى
06-19-2016, 11:55 AM
صَبْرُ الصائمين
غصون رمضانية (9)

تقفُ على طريق الحق أهوالٌ متنوعة تترصّد أهلَه لتفتك بهم، أو تؤخر مسيرهم عن الوصول إلى غايتهم، وتتبدى بصور مختلفة، وتعترض السبيل بأساليب متعددة، وكلما تجاوز أهل الحق هولاً منها بدا آخر، فمنهم من ينجو، ومنهم من يهلك، وتستمر الحال حتى بلوغ المسافر أرضَ وطنه.

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (وإن أمتكم هذه جعل عافيتها في أولها، وسيصيب آخرَها بلاء وأمور تنكرونها، وتجيء فتنة فيرقّق بعضها بعضًا، وتجيء الفتنة فيقول المؤمن: هذه مهلكتي ثم تنكشف، وتجيء الفتنة فيقول المؤمن: هذه هذه)[1].

والسالك هذه السبيلَ المحفوفة بالمكاره والفتن إذا لم تكن له درع حصينة تحميه فتكَ هؤلاء القُطاّعِ فإن كلاليبها ستتخطفه وتهوي به في مكان سحيق.

فمن الدروع السابغة التي متى ما تدرع بها المسلم جعلته يمضي في طريق الجنة حتى يصل إليها - بعد خوض الغمرات، ومصابرة المكروهات، وعصيان الإغراءات -: درعُ الصبر، الذي يعني: حبس النفس على لزوم الحق في أمر تفعله، أو أمر تنكف عنه.

والصبر خُلُق من الأخلاق الكريمة التي تشير إلى النفوس العظيمة، استطاعت باتشاح هذا الخلق النبيل أن تقارع الأخطار، وأن تنازل الأضرار، حتى تصل إلى محمود الأمر، وسنام الهدف، وانفراج الحال بعد الضيق، والراحة عقب العناء، وذلك لا يكون إلا على جناح هذه الشيمة النبيلة، قال نهشل بن حرّى بن ضمرة:
ويومٍ كأنّ المصطلين بحرّه
-وإن لم يكن نارٌ- قيامٌ على الجمرِ
صبرنا له حتّى تقضّى وإنّما
تُفرّج أيامُ الكريهة بالصّبر[2]

وقال الآخر:
بكى صاحبي لما رأى الموتَ فوقنا
مُطلاًّ كإطلال السحاب إذا اكفهرْ
فقلتُ له لا تبك عينُك إنما
يكون غداً حسنُ الثناء لمن صبر
فما أخرّ الإحجامُ يوماً معجّلاً
ولا عجّل الإقدامُ ما أخّر القدر[3]

وهو صفة حميدة تضبط النفس، وتقيمها على نهج المكارم، وتضيء لها فجر النجاة في حالك الظُلَم، قال عليه الصلاة والسلام: (والصبر ضياء)[4].

وهو عبادة من العبادات التي يحبها الله تعالى من عبده، ويجازيه عليها جزاء وافراً؛ لأنه يقود النفس إلى ركوب الآلام بغية الآمال، ويبني رسوخها على الحمد عند زلازل الأمور، ويكبح جماحها حين تريد السوم في حمى المحظورات؛ ولذلك تواترت الآيات القرآنية الكثيرة في الأمر به، والثناء على أهله، وبيان أهميته وفضله، والإخبار عن الثواب الجزيل لمن اتصف به، قال تعالى: ï´؟ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ï´¾ [آل عمران: 200]، وقال: ï´؟ ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ ï´¾ [النحل: 110]، وقال: ï´؟ قُلْ يَاعِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ ï´¾ [الزمر: 10].

والحياة الدنيا كلها معركة صبر لا يدخل أحد الجنة إلا بالانتصار فيها؛ ولذلك يأتي الملائكة في دار الفلاح مهنئين أهل الظفر في هذه المعركة قائلين لهم: ï´؟ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ ï´¾ [الرعد: 24].

وما شهر رمضان إلا صفحة من صفحات الصبر في كتاب الحياة، لكنها صفحة ليست ككل الصفحات، ففي رمضان تتجلى معاني الصبر في أبهى صورها، وأنصع سطورها؛ ولذلك سمي بشهر الصبر، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (صوم شهر الصبر وثلاثة أيام من كل شهر صوم الدهر)[5].

ففيه تجتمع أنواع الصبر الثلاثة: صبر على طاعة الله تعالى، وصبر عن معصيته، وصبر على أقداره المؤلمة.

فالتحلي بالصيام الصحيح، والمداومة على القيام والتراويح، وحبسُ النفْسِ الطويلُ على تلاوة القرآن وتدبره، والاجتهاد في العشر الأخيرة، وقيام ليلة القدر، والانتصار على النفس لتجود على المحتاجين، وأمرُ الأهل والأولاد بالفضائل، وتحذيرهم من الرذائل، وتعليم الناس ووعظهم، وغير ذلك من الطاعات؛ كل ذلك من الصبر على طاعة الله تعالى. قال تعالى: ï´؟ وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا ï´¾ [الكهف: 28]، وقال: ï´؟ وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى ï´¾ [طه: 132]. وهذا النوع من الصبر إذا قام به الصائم على تمامه يعظم حمله عليه حينما لا يرى صاحبُه قدوات كثيرة يستأنس بهم، فقد يشعر بالغربة في وسط مجتمع راغب عن المسارعة إلى هذه القربات، ولكن يستحثه إلى تصبير نفسه على تلك الفضائل ما يعلمه من الأجر العظيم، والنوال الكريم لمن سارع إليها، وزاد حظه منها.

وكفُّ النفس عن مفطِّرات الصيام، وحظرُ الجوارحِ عن الآثام، من عين وسمع ولسان، والبعدُ عن جميع المحرمات؛ هو صبر عن معصية الله تعالى.

والمعين على لزوم هذا الصبر: أن تقوى في قلب الصائم معاني الخوف والحياء من الله عز وجل، وأن يتذكر ما أعده الله لمن عصاه من الغضب والعقوبة، وما يلحق العاصي من الخزي والندامة؛ لكون المعاصي حلوةَ الأوائل مرّةَ العواقب، كما قال بعض الحكماء.

وغانيةٍ مثلِ الربّابة حسنُها
ينادي مُعنّى القلبِ هل لك في مثلي
فقلتُ فؤادُ الصَبِّ هاوٍ وخوفُه
من الله كفّ النفسَ عن زللِ الوصل
وفي الصبر سلوى عن وصالكِ والهوى
يُزَّمُ بأعلاق الديانة والعقل

والصائم إذا خطم نفسه عن ورود هذه المناهي عظُمَ شأنه عند الله وعند الناس، واستطاع أن يستريح راحة ممتدة في حاضره ومستقبله، وتحرر من تسلط النفس عليه، فكان سيدَها الذي يقودها، ولم يعد عبداً لها تقوده.

والنوع الأخير هو صبر الصائم على أقدار الله؛ فالصائم قد يفقد بعض المحبوبات، وتطوقّه المشقات، وتنزل بساحته المكروهات، سواء ما تعلق منها بالصيام أم ما كان خارجًا عنه، فالصائم يواجه في رمضان حرَّ الجوع وأُوامَ العطش، وما يتبع ذلك من ذبول الأعضاء، وفتور الحركة، ويشتد ذلك إذا كان صيامه في جوٍّ شديدٍ حره، فيجتمع على الصائم حرّ الباطن، وحر الظاهر.

ربّ يومٍ هواؤُه يتلظَّى
فيحاكي فؤادَ صَبٍّ متّيمْ
قلتُ إذ صاب حَرُّه حَرَّ وجهي
ربنا اصرفْ عنا عذابَ جهنمْ[6]

ويواجه الصائم ما يدعو إلى الكراهة، وبعثِ الغضب من مكامنه؛ كسوء أخلاق بعض الناس، ويلاقي مصائب أخرى تستثير منه الجزعَ وخِفة الحلم، ولكن الصائم العاقل يقابل كلَّ ذلك بحبس النفس عن السخط والتضجر، وتفجر الغضب والمبادرة إلى الانتقام، ويساعده على هذا النوع من الصبر: ما يرجوه من ثواب الله تعالى للصابرين المحتسبين، وما يعقبه هذا الصبر من المسارِّ العاجلة والآجلة، وما يجنيه الطيش والخروج عن هذا الحصن الحصين إلى الغضب والسخط من المضار نقداً أو نسيئة.

قال تعالى: ï´؟ وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ ï´¾ [البقرة: 155 - 157].

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أشد الناس بلاء الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل، يبتلى الرجل على حسب دينه، فإن كان في دينه صُلبًا اشتد بلاؤه، وإن كان في دينه رقة ابتلي على قدر دينه، فما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشي على الأرض وما عليه خطيئة)[7].

قال ابن حميدس:
صَبَرْنَا لهمْ صَبْرَ الكرام ولم يَسُغْ ♦♦♦ لنا الشهدُ إلاَّ بعدما ساغَ علقمُ[8].

وقال آخر:
وكم غمرةٍ هاجت بأمواج غمرة ♦♦♦ تلقّيتها بالصبر حتى تجلّتِ[9].

[1] رواه مسلم.
[2] بهجة المجالس وأنس المجالس، لابن عبد البر (ص: 102).
[3] عيون الأخبار، لابن قتيبة (ص: 53).
[4] رواه مسلم.
[5] رواه أحمد والنسائي، وهو صحيح.
[6] البيتان للثعالبي، نهاية الأرب في فنون الأدب، للنويري (1/ 162).
[7] رواه الترمذي وابن حبان والحاكم وغيرهم، وهو صحيح.
[8] ديوان عبد الجبار بن حمديس (ص: 569).
[9] الكشكول، للعاملي (2/ 52).

منتهى
06-19-2016, 11:56 AM
صَبْرُ الصائمين
غصون رمضانية (9)

تقفُ على طريق الحق أهوالٌ متنوعة تترصّد أهلَه لتفتك بهم، أو تؤخر مسيرهم عن الوصول إلى غايتهم، وتتبدى بصور مختلفة، وتعترض السبيل بأساليب متعددة، وكلما تجاوز أهل الحق هولاً منها بدا آخر، فمنهم من ينجو، ومنهم من يهلك، وتستمر الحال حتى بلوغ المسافر أرضَ وطنه.

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (وإن أمتكم هذه جعل عافيتها في أولها، وسيصيب آخرَها بلاء وأمور تنكرونها، وتجيء فتنة فيرقّق بعضها بعضًا، وتجيء الفتنة فيقول المؤمن: هذه مهلكتي ثم تنكشف، وتجيء الفتنة فيقول المؤمن: هذه هذه)[1].

والسالك هذه السبيلَ المحفوفة بالمكاره والفتن إذا لم تكن له درع حصينة تحميه فتكَ هؤلاء القُطاّعِ فإن كلاليبها ستتخطفه وتهوي به في مكان سحيق.

فمن الدروع السابغة التي متى ما تدرع بها المسلم جعلته يمضي في طريق الجنة حتى يصل إليها - بعد خوض الغمرات، ومصابرة المكروهات، وعصيان الإغراءات -: درعُ الصبر، الذي يعني: حبس النفس على لزوم الحق في أمر تفعله، أو أمر تنكف عنه.

والصبر خُلُق من الأخلاق الكريمة التي تشير إلى النفوس العظيمة، استطاعت باتشاح هذا الخلق النبيل أن تقارع الأخطار، وأن تنازل الأضرار، حتى تصل إلى محمود الأمر، وسنام الهدف، وانفراج الحال بعد الضيق، والراحة عقب العناء، وذلك لا يكون إلا على جناح هذه الشيمة النبيلة، قال نهشل بن حرّى بن ضمرة:
ويومٍ كأنّ المصطلين بحرّه
-وإن لم يكن نارٌ- قيامٌ على الجمرِ
صبرنا له حتّى تقضّى وإنّما
تُفرّج أيامُ الكريهة بالصّبر[2]

وقال الآخر:
بكى صاحبي لما رأى الموتَ فوقنا
مُطلاًّ كإطلال السحاب إذا اكفهرْ
فقلتُ له لا تبك عينُك إنما
يكون غداً حسنُ الثناء لمن صبر
فما أخرّ الإحجامُ يوماً معجّلاً
ولا عجّل الإقدامُ ما أخّر القدر[3]

وهو صفة حميدة تضبط النفس، وتقيمها على نهج المكارم، وتضيء لها فجر النجاة في حالك الظُلَم، قال عليه الصلاة والسلام: (والصبر ضياء)[4].

وهو عبادة من العبادات التي يحبها الله تعالى من عبده، ويجازيه عليها جزاء وافراً؛ لأنه يقود النفس إلى ركوب الآلام بغية الآمال، ويبني رسوخها على الحمد عند زلازل الأمور، ويكبح جماحها حين تريد السوم في حمى المحظورات؛ ولذلك تواترت الآيات القرآنية الكثيرة في الأمر به، والثناء على أهله، وبيان أهميته وفضله، والإخبار عن الثواب الجزيل لمن اتصف به، قال تعالى: ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ [آل عمران: 200]، وقال: ﴿ ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [النحل: 110]، وقال: ﴿ قُلْ يَاعِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴾ [الزمر: 10].

والحياة الدنيا كلها معركة صبر لا يدخل أحد الجنة إلا بالانتصار فيها؛ ولذلك يأتي الملائكة في دار الفلاح مهنئين أهل الظفر في هذه المعركة قائلين لهم: ﴿ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ ﴾ [الرعد: 24].

وما شهر رمضان إلا صفحة من صفحات الصبر في كتاب الحياة، لكنها صفحة ليست ككل الصفحات، ففي رمضان تتجلى معاني الصبر في أبهى صورها، وأنصع سطورها؛ ولذلك سمي بشهر الصبر، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (صوم شهر الصبر وثلاثة أيام من كل شهر صوم الدهر)[5].

ففيه تجتمع أنواع الصبر الثلاثة: صبر على طاعة الله تعالى، وصبر عن معصيته، وصبر على أقداره المؤلمة.

فالتحلي بالصيام الصحيح، والمداومة على القيام والتراويح، وحبسُ النفْسِ الطويلُ على تلاوة القرآن وتدبره، والاجتهاد في العشر الأخيرة، وقيام ليلة القدر، والانتصار على النفس لتجود على المحتاجين، وأمرُ الأهل والأولاد بالفضائل، وتحذيرهم من الرذائل، وتعليم الناس ووعظهم، وغير ذلك من الطاعات؛ كل ذلك من الصبر على طاعة الله تعالى. قال تعالى: ﴿ وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا ﴾ [الكهف: 28]، وقال: ﴿ وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى ﴾ [طه: 132]. وهذا النوع من الصبر إذا قام به الصائم على تمامه يعظم حمله عليه حينما لا يرى صاحبُه قدوات كثيرة يستأنس بهم، فقد يشعر بالغربة في وسط مجتمع راغب عن المسارعة إلى هذه القربات، ولكن يستحثه إلى تصبير نفسه على تلك الفضائل ما يعلمه من الأجر العظيم، والنوال الكريم لمن سارع إليها، وزاد حظه منها.

وكفُّ النفس عن مفطِّرات الصيام، وحظرُ الجوارحِ عن الآثام، من عين وسمع ولسان، والبعدُ عن جميع المحرمات؛ هو صبر عن معصية الله تعالى.

والمعين على لزوم هذا الصبر: أن تقوى في قلب الصائم معاني الخوف والحياء من الله عز وجل، وأن يتذكر ما أعده الله لمن عصاه من الغضب والعقوبة، وما يلحق العاصي من الخزي والندامة؛ لكون المعاصي حلوةَ الأوائل مرّةَ العواقب، كما قال بعض الحكماء.

وغانيةٍ مثلِ الربّابة حسنُها
ينادي مُعنّى القلبِ هل لك في مثلي
فقلتُ فؤادُ الصَبِّ هاوٍ وخوفُه
من الله كفّ النفسَ عن زللِ الوصل
وفي الصبر سلوى عن وصالكِ والهوى
يُزَّمُ بأعلاق الديانة والعقل

والصائم إذا خطم نفسه عن ورود هذه المناهي عظُمَ شأنه عند الله وعند الناس، واستطاع أن يستريح راحة ممتدة في حاضره ومستقبله، وتحرر من تسلط النفس عليه، فكان سيدَها الذي يقودها، ولم يعد عبداً لها تقوده.

والنوع الأخير هو صبر الصائم على أقدار الله؛ فالصائم قد يفقد بعض المحبوبات، وتطوقّه المشقات، وتنزل بساحته المكروهات، سواء ما تعلق منها بالصيام أم ما كان خارجًا عنه، فالصائم يواجه في رمضان حرَّ الجوع وأُوامَ العطش، وما يتبع ذلك من ذبول الأعضاء، وفتور الحركة، ويشتد ذلك إذا كان صيامه في جوٍّ شديدٍ حره، فيجتمع على الصائم حرّ الباطن، وحر الظاهر.

ربّ يومٍ هواؤُه يتلظَّى
فيحاكي فؤادَ صَبٍّ متّيمْ
قلتُ إذ صاب حَرُّه حَرَّ وجهي
ربنا اصرفْ عنا عذابَ جهنمْ[6]

ويواجه الصائم ما يدعو إلى الكراهة، وبعثِ الغضب من مكامنه؛ كسوء أخلاق بعض الناس، ويلاقي مصائب أخرى تستثير منه الجزعَ وخِفة الحلم، ولكن الصائم العاقل يقابل كلَّ ذلك بحبس النفس عن السخط والتضجر، وتفجر الغضب والمبادرة إلى الانتقام، ويساعده على هذا النوع من الصبر: ما يرجوه من ثواب الله تعالى للصابرين المحتسبين، وما يعقبه هذا الصبر من المسارِّ العاجلة والآجلة، وما يجنيه الطيش والخروج عن هذا الحصن الحصين إلى الغضب والسخط من المضار نقداً أو نسيئة.

قال تعالى: ﴿ وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ ﴾ [البقرة: 155 - 157].

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أشد الناس بلاء الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل، يبتلى الرجل على حسب دينه، فإن كان في دينه صُلبًا اشتد بلاؤه، وإن كان في دينه رقة ابتلي على قدر دينه، فما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشي على الأرض وما عليه خطيئة)[7].

قال ابن حميدس:
صَبَرْنَا لهمْ صَبْرَ الكرام ولم يَسُغْ ♦♦♦ لنا الشهدُ إلاَّ بعدما ساغَ علقمُ[8].

وقال آخر:
وكم غمرةٍ هاجت بأمواج غمرة ♦♦♦ تلقّيتها بالصبر حتى تجلّتِ[9].

[1] رواه مسلم.
[2] بهجة المجالس وأنس المجالس، لابن عبد البر (ص: 102).
[3] عيون الأخبار، لابن قتيبة (ص: 53).
[4] رواه مسلم.
[5] رواه أحمد والنسائي، وهو صحيح.
[6] البيتان للثعالبي، نهاية الأرب في فنون الأدب، للنويري (1/ 162).
[7] رواه الترمذي وابن حبان والحاكم وغيرهم، وهو صحيح.
[8] ديوان عبد الجبار بن حمديس (ص: 569).
[9] الكشكول، للعاملي (2/ 52).

منتهى
06-19-2016, 11:57 AM
صيام القلب
غصون رمضانية (10)

"الملِك" اسم يشد الأذهانَ إلى معاني القوة والعظمة، والقدرة والسلطة، ونفوذ الحكم الصادر عنه فيمن سواه. ويشير هذا الاسم الفخم إلى وجود آمر يصدر، ومأمور ينفذ، ومملكة يقوم على هرمها هذا الملك.

وهذه القِمّة الوظيفية السامقة ليست في الأمور العامة فقط، بل في الأمور الخاصة أيضًا؛ فجسد الإنسان يتكون من أعضاء مختلفة، ولها ملك تأتمر بأمره، وتنتهي بنهيه، فإن استقام استقامت، وإن اعوجّ اعوجّت، وإن صلح صلحت، وإن فسد فسدت. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ألا وإن في الجسد مضغة، إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب)[1].

وحينما كان قلب الإنسان هو ملك أعضائه، التي بصلاحها نجاته، وبفساده عطبه؛ كان محطَ نظرِ الله تعالى، فإن وجده سليمًا فيا سعادة صاحبه، وإن وجده مريضًا فيا ويله وشقوته! قال رسول الله صلى الله عليه و سلم: (إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم)[2].

لهذا تعين على الإنسان أن يولي ملك جوارحه عنايةً خاصة، فيحلّيه بحليه الصلاح، ويخليه من درن الفساد، ويحرسه من كل عدو يريد تكدير صفائه، أو سرقة ذحائره، فالشيطان وأعوانه يرابطون على تخومه ينتظرون ساعة غفلة من حرس الحدود حتى يهجموا فيعيثوا في القلب فساداً.
احرسْ فؤادَك من لصوصٍ لم تَزلْ
حول الحِمَى يترقّبون ترقّبا
فحراسةُ القلب السليم غدتْ له
أولى من الكنز الثمين وأوجبا

إن هذا الملك العظيم معرّض للضغوط الخارجية، والمؤامرات الداخلية؛ ففتن الشبهات، وفتن الشهوات تعرض عليه، فإن جنح لها، وعدل عن خوف ربه إليها فهي الكارثة المحققة على مملكته، وإذا وقف صامداً أمامها، ولم تلن له قناة عند عرضها فذلك عزّ له ولمملكته، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (تعرض الفتن على القلوب كالحصير عوداً عوداً، فأي قلب أشربها نكت فيه نكتة سوداء، وأي قلب أنكرها نكت فيه نكتة بيضاء حتى تصير على قلبين: على أبيض مثل الصفا، فلا تضره فتنة ما دامت السموات والأرض، والآخر أسود مرباداً كالكوز مجخيًا، لا يعرف معروفًا ولا ينكر منكراً إلا ما أُشرب من هواه) [3].

إن بعض القلوب - مع توارد الشبهات والشهوات عليها- تتبدل أحوالها، وبتبدلها إلى السوء تنحرف جوارح أصحابها، والقلوب من طبعها كثرة التقلب، فإذا لم يكن عون من الله للفتى يعصم قلبه، ويحول بينه وبين الزيغ، ولم يكن المسلم مراقبًا لقلبه، يقظًا على حصون حفظه، مالت بها الأهواء كلَّ مُميل؛ ولذلك شُرع لأهل الإيمان الدعاء بتثبيت القلوب، وعدم حصول زيغها.

قال رسول الله صلى الله عليه و سلم: (إن قلوب بني آدم كلها بين إصبعين من أصابع الرحمن كقلبٍ واحد يصرفه حيث يشاء، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهم مصرف القلوب صرف قلوبنا على طاعتك) [4]، وقال تعالى: ï´؟ رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ ï´¾ [آل عمران: 8]

يدخل شهر رمضان المبارك على المسلم ومعه أشفيةٌ حميدة تداوي القلب، وتبثّ فيه رونقَ الحياة، وتتوفر على إزالة أمراضه، وتجليته وصقله.

لهذا كان من المحتم على المسلم في رمضان أن يلتفت إلى قلبه لفتة عناية، مستغلاً الجو الإيماني الفسيح، فيقوم بعمليتي إصلاحه، وهاتان العمليتان هما: التخلية والتحلية، فيقف مع قلبه ناظراً إلى أدغاله إذا - وجدت - من شرك أو نفاق أو رياء، أو تعلق بغير الله، أو أحقاد وحسد، ونحو ذلك فيكرّ عليها ويبعدها عن فؤاده، ويقطع أسبابها إليه.

وبعد إجلاء ذلك الزغل يفرّ إلى تحليته بحلية الإيمان والتوحيد والإخلاص والتعظيم والمراقبة والخشية والتوكل على الله تعالى، ويُجري إلى أنوار تلك الروضة الغناء شآبيب نمائها وصفائها، ففي رمضان عوامل تحلية إيمانية تنفع القلب، وترفع مستوى حياته إلى درجات عالية، منها: الصيام الصحيح القائم على التخفيف من الفضول كفضول الطعام والشراب والمنام والنظر والمخالطة، وقراءة القرآن قراءة متدبرة، وقيام رمضان بحضور السكينة والخشوع، والإحسان إلى الناس بالقول والمال والحال؛ ابتغاء وجه الله، وغير ذلك.

ثم بعد هاتين العمليتين يبقى على حمى قلبه خفيراً يحوطه بوسائل الحماية التي تمنع عنه الاختراق الشيطاني الذي يميت قلبه أو يمرضه، أو يذبل بهجة ذلك القلب السليم.

[1] متفق عليه.
[2] رواه مسلم.
[3] رواه مسلم.
[4] متفق عليه.

منتهى
06-19-2016, 11:58 AM
صيامُ اللسان
غصون رمضانية (11)

اللسان عضو صغير ذو خطر كبير:
إن اللّسان صغيرٌ جِرمُهُ وله *** جُرمٌ كبيرٌ كما قد قيل في المثل[1]
فهو يُعلي صاحبه أو يُدنيه، ويحبّبه أو يقليه، ويعزه أو يذله، وينفعه أو يضره، ويبعده أو يقرّبه، ويربِحه أو يخسره. فبنطق اللسان يدخل الإنسان الإسلام أو يخرج منه، وبه يثقل ميزانه أو ينخفض، وبه يدخل الجنة أو يدخل النار. وبه تزيد حسناته أو تزيد سيئاته، وبه يزيد أصدقاؤه أو يزيد أعداؤه، وبه يزيد ماله أو تزيد خسارته.

وبنطق اللسان يُعرف عقلُ الإنسان من حمقه، وعلمه من جهله، وفصاحته من عيه، وصدقه من كذبه، وعفته من فحشه، وحلمه من طيشه؛ فاللسان مرآة العقول والقلوب، " إنَّ اللسانَ رسولُ القلبِ للبشرِ"[2].
يدل على جهل الفتى فضلُ نطقه
ونطقُ أخي العقل الرصين قليل
وإنّ لسان المرء ما لم يكن له
حصاة على عوراته لدليل[3]
إن النطق – الذي جُعل اللسان وسيلة له - مِنَّة سامقة، وهِبة باذخة، أُعطيها الإنسان ليصل به إلى منافعه، ويدفع به مضاره. فهو الحاسة التي اختص بها الإنسان عن سائر الحيوان فغدت الوسيلة التعبيرية العظمى التي يعبر بها الإنسان عما يجيش في نفسه، وينقل عبرها ما يريد أن يُفهمه غيره بكل سهولة، بخلاف الأبكم؛ فإنه متى أراد أن يفهم غيره مراده استخدم أصواتًا متنوعة، وحركات متعددة، مع صحبة المشقة في ذلك.

فلما كان اللسان في هذا المكان السامي صار محلاً للحسنات والسيئات، وغدا ما يفوه به من الخير والشر مدونًا في صحيفة الإنسان يحاسب عليها عند لقاء ربه، قال تعالى: ï´؟ مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ ï´¾ [ق: 18]، وقال: ï´؟ وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَامًا كَاتِبِينَ * يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ ï´¾ [الانفطار: 10 - 12].

فمن حسنات اللسان: " النطق بالشهادتين، وتلاوة القرآن، والدعاء والذكر، والصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتعلم العلم النافع وتعليمه، وغير ذلك.
ومن سيئات اللسان: النطق بكلمات الكفر والنفاق والزندقة، والإساءة إلى الناس من كذب وغيبة ونميمة واستهزاء وفحش، وغير ذلك.

إن الإنسان يواجه مشقة شديدة في زمّ لسانه، وتقويم عوجه، ومراقبة ما يتكلم به، ولكن مع قوة الإيمان وحصافة العقل والتعود يسهل الأمر.
عوّد لسانك قولَ الخير تحظ به
إن اللسان لما عوّدت معتادُ
موكل بتقاضي ما سننتَ له
في الخير والشر فانظر كيف ترتادُ[4]

فمن استطاع أن يكون سيدَ لسانه، وقائد بيانه فلم يفه لسانه إلا بصواب القول؛ سَلِم دينه، وارتاح ضميره، وكُفي عواقب القول غير المرضي، وأمِنَ حُرَقَ الندامات، فالعاقل يتذوق الكلام قبل إخراجه، كما يتذوق الطعام قبل ابتلاعه، ويرجّ عقله قبل الحديث كما يرج مشروبات الدواء، ومشروبات الغذاء قبل الاستعمال.

فإذا لم يجد المرء مجالاً لقول الخير فليلذْ بحصن الصمت، فالعي في الباطل فصاحة في ميزان الحق؛ لهذا دعت الشريعة الغراء كما نصح الحكماء بالفيئة إلى السكوت إلا في الحق، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت)[5].
سجنُ اللسان هو السلامة للفتى
من كلّ نازلةٍ لها استئصال
إنّ اللسان إذا حللت عقاله
ألقاك في شنعاء ليس تقال[6]

إن من رحمة الله وفضله على عباده المؤمنين أن وهبهم دورة تدريبية- لمن لم يَسِر عليها من قبل- يتدربون فيها على إمساك اللسان عن كل سوء، وذلك في رمضان المبارك فهو موسم للصيام الحسي والمعنوي للجوارح، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (من لم يدع قول الزور، والعمل به؛ فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه)[7].

وقال عليه الصلاة والسلام: (قال الله: كل عمل ابن آدم له، إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به، والصيام جُنّة، وإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث، ولا يصخب، فإن سابه أحد أو قاتله فليقل: إني امرؤ صائم)[8].

فالمسلم مأمور في رمضان أن يُصيم لسانه عن كل قول مشين في حق الله تعالى، أو حق الرسول عليه الصلاة والسلام، أو حق الدين، أو حق الخلق، ابتداء أو رداً.
إن من المشاهد المؤسفة أن يُرى بعض الصائمين في رمضان كثيرَ الذكر، كثير التلاوة، كثير الإحسان بالمال في رمضان، لكنه ذرِبُ اللسان على الناس الأقربين والأبعدين، تخرج كلماته إلى الناس شظايا تحرق الأسماع، وتجرح القلوب، حتى عُدّت جراحات اللسان عند الشرفاء أشد من جراحات السنان؛ ولذلك عبر الشعراء عن ذلك،
فقال أحدهم:
وَقَدْ يُرْجَى لِجُرْحِ السَّيْف بُرْءٌ *** وَجُرْحُ الَّدهْرِ مَا جَرَحَ اللَّسانُ [9]
وقال آخر:
جِرَاحَاتُ السِّنَانِ لَهَا التِئَامٌ *** وَلا يَلْتَامُ مَا جَرَحَ الِّلسَانُ[10]
وقال آخر:
وجرحُ اللسان كجرح اليد[11]
وقال آخر:
والقول ينفذ ما لا تنفذ الإبر[12].
وعلى المسلم كذلك أن يزين لسانه بكل قول حسن من العبادات والأخلاق القولية الحسنة التي يؤدي بها حق الخالق، وحق المخلوق.
احفظ لسانك واحتفظ من شرّه
إنّ اللسان هو العدوّ الكاشحُ
وزنِ الكلام إذا نطقتَ بمجلس
فيه يلوح لك الصواب اللائح
والصمتُ من سعد السعود بمطلع
تحيا به والنطق سعد الذابح[13]
فمن صام لسانه شهرَ رمضان كله كما صامت بطنه فقد ربح ربحًا جزيلاً، فذاق في الدنيا حلاوة الصيام، ويرجى له في الآخرة وافر الإكرام.

[1] البيت لابن المقري، جواهر الأدب، للهاشمي (2/ 34).
[2] شطر بيت لابن عربي، ديوان محيي الدين بن عربي (ص: 433).
[3] غرر الخصائص الواضحة، للوطواط (ص: 96).
[4] الجليس الصالح والأنيس الناصح، للمعافى بن زكريا (ص: 128).
[5] متفق عليه.
[6] نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب، للتلمساني (2/ 139).
[7] رواه البخاري.
[8] رواه البخاري.
[9] فصل المقال في شرح كتاب الأمثال، للبكري (ص: 24).
[10] فصل المقال في شرح كتاب الأمثال (ص: 24).
[11] شطر بيت لامرئ القيس، البيان والتبيين، للجاحظ (ص: 96).
[12] شطر بيت للأخطل، أدب الخواص، للوزير المغربي (ص: 5).
[13] غرر الخصائص الواضحة، للوطواط (ص: 95).

منتهى
06-19-2016, 11:59 AM
صيامُ السَّمع
غصون رمضانية (12)

أطلَّ الإنسان على هذه الحياة وعلى كَتَده جرابُ أمانات استُودِعها؛ ليحفظها، ويقوم بحقوقها، فإن نثرها متخففًا منها؛ هرعًا إلى شهواته ثقلَ عليه الحساب، وخسر عند السؤال يوم المآب.

ومن تلك الأمانات: أمانة السمع، قال تعالى: ï´؟ وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا ï´¾ [الإسراء: 36].

لقد أعطى الله الإنسان هبةَ السمع إنعامًا عليه؛ لتكون وسيلة إلى تحصيل العلوم، واستنارة الفهوم، قال تعالى: ï´؟ وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ï´¾ [النحل: 78].

يمشي الإنسان في أحضان هذه الحياة، ويتقلب بين أكنافها فتتوارد إلى سمعه أصوات مختلفة يهتز ببعضها، وينقبض من أخرى، فيسمع الأصوات المحبوبة فيصغي إليها، ويلتذ بسماعها، فينعم باله، وينشرح قلبه، وتنبسط نفسه.

وتصل إلى سمعه الأصوات المكروهة فيمجها، ويعرض عنها، ويتخذ الموقف المناسب إزاءها.

فيسمع آيات القرآن الكريم – ولا سيما إذا كانت بصوت عذب - تتحدر على أذنيه تحدّرَ الجمان فيجد لتلك الحروف الندية نغمة رائعة تتسلسل بها الحياة إلى القلب فيطرب لها فرحًا، فينشط إلى تلبية نداء تلك الحروف الهادية: ï´؟ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ ï´¾ [الزمر: 18].

ولسماع القرآن العظيم تأثير عظيم على النفوس؛ ولهذا كان الكفار يصفونه بالسحر؛ لقوة انجذاب السامعين إليه، حتى كانوا يتواصون بعدم سماعه، قال تعالى: ï´؟ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ ï´¾ [فصلت: 26]، فكم أسلم في القديم والحديث من الناس لسماع آيات هذا الكتاب العظيم.

وبهذه النعمة - نعمة السمع - تصل إلى الإنسان أحكام الدين، فيعرف الحلال فيتبعه، ويعلم الحرام فيجتنبه، وبه يتلذذ بوصول كلام والديه وأولاده ومن يحب.

وبهذه النعمة ينصرف إلى هذا الكتاب المفتوح - الكون - فيسمع تسبيحه في حفيف أشجاره، وتغريد أطياره، وخرير أنهاره، وانهلال أمطاره، وهزيز رياحه، وهزيم رعوده، ويسمع ناطق الكون وصامته، على اختلاف لغاته، وتعدد نغماته. فيقول:
فيَا عَجَبَاً كيفَ يُعصى الإلهُ
أمْ كيفَ يجحدهُ الجاحِدُ!
وللهِ فِي كلِّ تحرِيكَةٍ
وفي كلّ تَسكينَةٍ شاهِدُ
وفِي كلِّ شيءٍ لَهُ آيةٌ
تَدُلّ على أنّهُ الواحِدُ[1]
فما أعظم نعمة السمع التي يتقلب الإنسان في نعيمها وقد لا يشعر بعظمها، إلا إذا ضعُفت أو فُقِدت!.

بيد أن هناك سامعين لم يعرفوا قدر هذه الأمانة؛ فأعرضوا عن أداء حقها، فسخروها في سماع الباطل، وتتبع السوء: من جنوحٍ محبٍّ إلى استماع الانحرافات العقدية، والاعوجاجات الأخلاقية؛ بغية تشرّبها، ومن انصراف إلى استماع لهوٍ يدعو إلى الرذيلة، ويشغل عن الفضيلة، ومن ميل إلى متابعة أصوات النساء؛ تلذذاً بها، كما قال بشار الأعمى:
يا قومِ أذْنِي لِبْعضِ الحيِّ عاشقةٌ
والأُذْنُ تَعْشَقُ قبل العَين أَحْيانا
فقلتُ أحسنتِ أنتِ الشمسُ طالعةٌ
أَضرمتِ في القلب والأَحشاءِ نِيرانا
فأسمعينيَ صوتاً مطرباً هزجاً
يزيد صبًّا محبّاً فيكِ أشجانا[2]

وكما قالت أعرابية:
وما الحبُّ إلاَّ سمعُ أُذنٍ ونظرةٌ
ووجبةُ قلبٍ عن حديثٍ وعنْ ذكرِ
ولوْ كانَ شيءٌ غيرهُ فنيَ الهوَى
وأبلاهُ مَن يهوى ولوْ كانَ مِن صخرِ[3]

ومتى ما وصلت تلك الأصوات النابية إلى آذان واعية زرعتها في القلب المريض فأشرِب حبَّها، فأينع نباتها على الجوارح ثمراتٍ مرّة من الأعمال والأقوال السيئة.

إن رمضان إذا أشرق نجمُه في النفوس شعشعَ فيها أنوارَ المعرفة لنعم الله تعالى، فسخر العبد الموفق ما وهبه الله منها في مرضاته، فيلتفت إلى سمعه ليشاركه في الصوم، فيهدي إليه الأصوات النافعة، ويحول بينه وبين سماع الأصوات المضرة، فإذا جاءت أصوات الحق كان " أَسْمَع مِنْ سِمْعٍ"[4] لها، وإن وردت أصوات الباطل أعرض عنها، كما قال تعالى: ï´؟ وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ ï´¾ [القصص: 55].

ففي هذا الشهر الكريم يزين سمعه ويصغيه إلى سماع القرآن وقلبُه حاضر؛ ليثمر ذلك السماع الجامع لأركان الفائدة التدبرَ والخشية وزيادة الإيمان، والإقبال على العمل الصالح، قال تعالى: ï´؟ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ï´¾ [الأنفال: 2]، وقال: ï´؟ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ ï´¾ [ق: 37]. ويحليه بسماع الموعظة، وكلماتِ النور التي تهديه إلى الصراط المستقيم.

ويحليه بسماع الأخبار والعلوم الطيبة التي تزيده من الله تعالى قربة، وفي الحياة معرفة، فإذا ورد سمعَه الغثُ والسمين من المسموعات وأراد تفريغ ما سمع في آذان الناس انتقى من ذلك الصوابَ فحدّث به، ودفن مسموع الباطل في طي النسيان، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كفى بالمرء كذبًا أن يحدث بكل ما سمع) [5]. ولا يحدث بعد إلا بما يتأكد من سماعه؛ خشية أن يخطئ في الحديث؛ بسبب خطأ وصول المعلومات إلى أذنيه، كما قالت العرب: " أَسَاءَ سَمْعاً فأَساءَ جَابَةً" [6].

ويجعل بينه وبين سماع ما يجرح الصوم، ويصيب الديانة في مقتل، خندقًا من ورع وإعراض، كاستماع الحروف المظلمة التي تدعو إلى انحراف القلب والفكر عن الجادة المستقيمة، وكاستماع الغيبة والنميمة، والفحش والبذاء، والطعن في الأعراض، والكذب والبهتان، والغناء والخنا، والدعوة إلى الرذيلة.

قال مسكين الدارمي:
أعمى إذا ما جارتي خرجت
حتى يواري جارتي الخِدرُ
ويُصمّ عما كان بينهما
سمعي وما بي غيرُه وقر[7]

وقال معن بن أوس:
لعمرك ما أهويتُ كفّي لريبةٍ
ولا حملتني نحو فاحشةٍ رجلي
ولا قادني سمعي ولا بصري لها
ولا دلّني رأيي عليها ولا عقلي [8]

وقال الآخر:
توخَّ من الطُّرق أوساطها
وعَدِّ عن الجانبِ المشتبَه
وسمعَكَ صُنْ عن سماع القبي
ح كصون اللّسان عن اللّفظ به
فإنَّكَ عند استماع القبيح
شريك لقائله فانتبه[9]

[1] ديوان أبي العتاهية (ص: 45).
[2] ديوان بشار بن برد (ص: 1057).
[3] الزهرة، لابن داود الأصبهاني (ص: 1).
[4] مثل عربي، ومعناه ينظر في مجمع الأمثال، للميداني (1/ 352).
[5] رواه مسلم.
[6] قصة المثل في مجمع الأمثال، للميداني (1/ 330).
[7] التذكرة الحمدونية، لابن حمدون (1/ 190).
[8] أمالي القالي (ص: 241).
[9] الكشكول، للعاملي (1/ 174).

منتهى
06-19-2016, 12:00 PM
رسولُ القلب
غصون رمضانية (13)

البصر نورٌ وهبه الله تعالى للإنسان ينير له دروبَ الحياة، فيرى به مصالح دنياه وأخراه، يشاهد بهذه النعمة السابغة صفحات هذا الكون المفتوح وعليه شواهد إبداع الخالق، ودلائل عظمة تصويره وقدرته، تلك المشاهد الآسرة للأبصار المتأملة تنطق بصمتها، وتعظ بسكونها، وتهدي إلى بارئها بروعة تكوينها، ودقة تلوينها، ï´؟ أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ ï´¾ [الأعراف: 185]. إذا فتح الإنسان عينيه فنظر أمامه فسيقابل ذكرى ظاهرة، وإلى خلفه فسيُلفي آية باهرة، وعن يمينه فسيجد براهين قاطعة، وعن شماله فسيرى حجة دامغة، وإلى فوقه فسيسمو إلى عبرة كاملة، وإلى تحت قدميه فسيلحظ أدّلة دامغة.

قال تعالى: ï´؟ أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ * وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ * تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ ï´¾ [ق: 6 - 8]، وقال: ï´؟ وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ * وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ * وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ ï´¾ [الغاشية: 18 - 20].

يتنقل البصر في جوانب الحياة فيرى مصارع أهل العناد، ومكارم الصالحين من العباد، فيعرف أيَّ الطريقين يسلك، ï´؟ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ ï´¾ [آل عمران: 137].

ويرجع إلى نفسه فيتأمل بعينيه المبصرتين كيف خلقه الله وسواه وعدله، وينظر إلى والديه فيتنعم بالنظر إليهما، وإلى زوجه فيتمتع بمشاهدة روضة فؤاده التي جعل الله بينه وبينها مودة ورحمة، ويلتفت إلى أولاده ثمرات قلبه فيملأ عينيه بالنظر إليهم، ويجلس مع أحبابه وأُلاّفه فتجتمع له معهم نِعم الجلوس والسماع والمشاهدة.

يحمل المصحف بين يديه فيغسل عينيه بنوره سورةً سورة وآية آية وكلمة كلمة، ثم ينطلق إلى أعمال دنياه ونورُ بصره يفسح له الطريق ليقضي مآربه. ï´؟ أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ ï´¾ [البلد: 8].

فلله ما أعظم هاتين الحبيبتين! وما أقلَّ شكرنا لهما!؛ لهذا عظم أجر من فقدهما فاحتسبهما، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله قال: إذا ابتليت عبدي بحبيبتيه فصبر عوضته منهما الجنة)[1]. يريد عينيه.

ولكن هذه النعمة العظيمة صرفها كثير من أهلها إلى مساخط المنعم بها!!، فنظر بها بعض الناس إلى معالم الشرك والإلحاد وأدبياتهما فأشركوا بالله وألحدوا، وتتبع بها آخرون عورات المسلمين، وسرحها آخرون في صور المردان والنسوان، وقرأ بها آخرون الحروف المظلمة للدين والدنيا.

ومن هنا انطلقت السهام إلى القلب فغدا مأوى للفساد، ومهيعًا للخراب، فسكنت فيه الشياطين فأسدلت فيه حجبَ الظلمات، وهجّرت منه أنوار الهداية، حتى عششت فيه غربان الظلام وهاماتُه.

والسبب في هذا المآل المردي أن بين القلب والعين ارتباطًا وثيقًا، وسببًا متصلاً؛ فالقلب هو الملك خلف أسوار الظاهر، ومبعوثُه إلى خارج قصره هو العين التي ائتمنها على منقولاتها إليه، فما جاءه منها تقبله فأثر فيه صلاحًا وفساداً.
رمى اللهُ في عينيْ بثينةَ بالقذَى
وفي الغرّ مِن أنيابِها بالقوادحِ
رمتْني بسهمٍ ريشهُ الكحلُ لمْ يضرْ
ظواهرَ جلدي فهوَ في القلبِ جارِحي[2].

إن العين إذا فسدت جرّت على القلب الويلات، وساقت إليه الحسرات؛ لأنها إذا انطلقت إلى الحرام ارتدّت سهمًا مسمومًا يمرض القلب أو يقتله، وحينها يزفر القلب الآهات، ويتأوه من شده الوجع، وعجزِ الوصول إلى المبتغى!
وكنتَ متى أرسلت طرفك رائداً
لقلبك يوماً أتعبتك المناظر
رأيت الذي لا كلّه أنت قادرٌ
عليه ولا عن بعضه أنت صابر[3].

وقد كان أمرُ السلامة إليه لو قيّد رسوله عن مستنقعات الحرام، وقصره على رياض الحلال!
وأنا الذي اجتلب المنيةَ طرفُه ♦♦♦ فَمَنِ المُطالَبُ والقَتيلُ القاتِلُ؟![4].

إذا دخل رمضان الذي يراد منه صلاحُ القلب واستقامته كان من المتعين على المسلم أن يحجب بصره بجفون الغض له عن مواطن الحرام؛ فإن ذلك سيساعد على حياة القلب وإشراقه ورفده بجنى السعادة والراحة.

قال تعالى: ï´؟ قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ * وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ï´¾ [النور: 30، 31].

من أطلق الطَّرْفَ اجتنى شَهْوَةً
وحارسُ الشَّهوةِ غضُّ البَصَرْ
والطّرْفُ للقلبِ لسانٌ فإنْ
أرادَ نطقاً فليكرَّ النَّظَرْ[5].

أما إذا أطلق الصائم بصره من حصون العفة، وأخرجه من جفون النزاهة فأرسله من علياء الحذر إلى وهادِ الخطر فأصبح يسرح في مناجع الفساد الفكري قارئًا في كتاب أو مجلة أو صحيفة، أو مشاهداً في قناة أو صفحة الكترونية، أو أضحى يتنقل بين مفاتن النساء جامعًا حطب الفتنة، أو أمسى يتابع أحوال المسلمين الصالحين متجسسًا عليهم لإيقاعهم في حبائل الشر؛ فإن صومه سيصاب بجروح بليغة، فلا يجد معها لذة الصيام، ولا نعمة رمضان، والسبب أن قلبه اشتعل بسعير الشبهة، وتأجج بسعار الشهوة.

لا تكثرنَّ تأمُّلاً
وامْلِكْ عَلَيْك عنانَ طَرْفِكْ
فَلرُبَّما أرسلتَه
فَرَمَاكَ في ميدانِ حَتْفِكْ[6].

فمن كان وافرَ العقل في رمضان فليجعل أمام عينيه سياجًا من الورع دون الحرمات، وليبعد نفسه عن سوق الشبهات والشهوات الواردة إلى القلب عبر قناة العين، فمن زنت عيناه، فليسارع إلى العفاف والكف، وليخلع لباس الذنب، وليغسل جنابة النظر الحرام بدمع الندم الغزير الذي يغسل مجاري الشيطان، ويطفئ وهج النيران الذي قدحت زنادَهما العينان، وليلبس كساء التوبة لينال الغفران.

قال النبي صلى الله عليه وسلم: (كتب على ابن آدم نصيبه من الزنى مدرك ذلك لا محالة: فالعينان زناهما النظر، والأذنان زناهما الاستماع، واللسان زناه الكلام، واليد زناها البطش، والرجل زناها الخطا، والقلب يهوى ويتمنى، ويصدق ذلك الفرج ويكذبه)[7].

منتهى
06-19-2016, 12:01 PM
رسولُ القلب
غصون رمضانية (13)

البصر نورٌ وهبه الله تعالى للإنسان ينير له دروبَ الحياة، فيرى به مصالح دنياه وأخراه، يشاهد بهذه النعمة السابغة صفحات هذا الكون المفتوح وعليه شواهد إبداع الخالق، ودلائل عظمة تصويره وقدرته، تلك المشاهد الآسرة للأبصار المتأملة تنطق بصمتها، وتعظ بسكونها، وتهدي إلى بارئها بروعة تكوينها، ودقة تلوينها، ﴿ أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ ﴾ [الأعراف: 185]. إذا فتح الإنسان عينيه فنظر أمامه فسيقابل ذكرى ظاهرة، وإلى خلفه فسيُلفي آية باهرة، وعن يمينه فسيجد براهين قاطعة، وعن شماله فسيرى حجة دامغة، وإلى فوقه فسيسمو إلى عبرة كاملة، وإلى تحت قدميه فسيلحظ أدّلة دامغة.

قال تعالى: ﴿ أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ * وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ * تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ ﴾ [ق: 6 - 8]، وقال: ﴿ وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ * وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ * وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ ﴾ [الغاشية: 18 - 20].

يتنقل البصر في جوانب الحياة فيرى مصارع أهل العناد، ومكارم الصالحين من العباد، فيعرف أيَّ الطريقين يسلك، ﴿ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ ﴾ [آل عمران: 137].

ويرجع إلى نفسه فيتأمل بعينيه المبصرتين كيف خلقه الله وسواه وعدله، وينظر إلى والديه فيتنعم بالنظر إليهما، وإلى زوجه فيتمتع بمشاهدة روضة فؤاده التي جعل الله بينه وبينها مودة ورحمة، ويلتفت إلى أولاده ثمرات قلبه فيملأ عينيه بالنظر إليهم، ويجلس مع أحبابه وأُلاّفه فتجتمع له معهم نِعم الجلوس والسماع والمشاهدة.

يحمل المصحف بين يديه فيغسل عينيه بنوره سورةً سورة وآية آية وكلمة كلمة، ثم ينطلق إلى أعمال دنياه ونورُ بصره يفسح له الطريق ليقضي مآربه. ﴿ أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ ﴾ [البلد: 8].

فلله ما أعظم هاتين الحبيبتين! وما أقلَّ شكرنا لهما!؛ لهذا عظم أجر من فقدهما فاحتسبهما، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الله قال: إذا ابتليت عبدي بحبيبتيه فصبر عوضته منهما الجنة)[1]. يريد عينيه.

ولكن هذه النعمة العظيمة صرفها كثير من أهلها إلى مساخط المنعم بها!!، فنظر بها بعض الناس إلى معالم الشرك والإلحاد وأدبياتهما فأشركوا بالله وألحدوا، وتتبع بها آخرون عورات المسلمين، وسرحها آخرون في صور المردان والنسوان، وقرأ بها آخرون الحروف المظلمة للدين والدنيا.

ومن هنا انطلقت السهام إلى القلب فغدا مأوى للفساد، ومهيعًا للخراب، فسكنت فيه الشياطين فأسدلت فيه حجبَ الظلمات، وهجّرت منه أنوار الهداية، حتى عششت فيه غربان الظلام وهاماتُه.

والسبب في هذا المآل المردي أن بين القلب والعين ارتباطًا وثيقًا، وسببًا متصلاً؛ فالقلب هو الملك خلف أسوار الظاهر، ومبعوثُه إلى خارج قصره هو العين التي ائتمنها على منقولاتها إليه، فما جاءه منها تقبله فأثر فيه صلاحًا وفساداً.
رمى اللهُ في عينيْ بثينةَ بالقذَى
وفي الغرّ مِن أنيابِها بالقوادحِ
رمتْني بسهمٍ ريشهُ الكحلُ لمْ يضرْ
ظواهرَ جلدي فهوَ في القلبِ جارِحي[2].

إن العين إذا فسدت جرّت على القلب الويلات، وساقت إليه الحسرات؛ لأنها إذا انطلقت إلى الحرام ارتدّت سهمًا مسمومًا يمرض القلب أو يقتله، وحينها يزفر القلب الآهات، ويتأوه من شده الوجع، وعجزِ الوصول إلى المبتغى!
وكنتَ متى أرسلت طرفك رائداً
لقلبك يوماً أتعبتك المناظر
رأيت الذي لا كلّه أنت قادرٌ
عليه ولا عن بعضه أنت صابر[3].

وقد كان أمرُ السلامة إليه لو قيّد رسوله عن مستنقعات الحرام، وقصره على رياض الحلال!
وأنا الذي اجتلب المنيةَ طرفُه ♦♦♦ فَمَنِ المُطالَبُ والقَتيلُ القاتِلُ؟![4].

إذا دخل رمضان الذي يراد منه صلاحُ القلب واستقامته كان من المتعين على المسلم أن يحجب بصره بجفون الغض له عن مواطن الحرام؛ فإن ذلك سيساعد على حياة القلب وإشراقه ورفده بجنى السعادة والراحة.

قال تعالى: ﴿ قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ * وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ [النور: 30، 31].

من أطلق الطَّرْفَ اجتنى شَهْوَةً
وحارسُ الشَّهوةِ غضُّ البَصَرْ
والطّرْفُ للقلبِ لسانٌ فإنْ
أرادَ نطقاً فليكرَّ النَّظَرْ[5].

أما إذا أطلق الصائم بصره من حصون العفة، وأخرجه من جفون النزاهة فأرسله من علياء الحذر إلى وهادِ الخطر فأصبح يسرح في مناجع الفساد الفكري قارئًا في كتاب أو مجلة أو صحيفة، أو مشاهداً في قناة أو صفحة الكترونية، أو أضحى يتنقل بين مفاتن النساء جامعًا حطب الفتنة، أو أمسى يتابع أحوال المسلمين الصالحين متجسسًا عليهم لإيقاعهم في حبائل الشر؛ فإن صومه سيصاب بجروح بليغة، فلا يجد معها لذة الصيام، ولا نعمة رمضان، والسبب أن قلبه اشتعل بسعير الشبهة، وتأجج بسعار الشهوة.

لا تكثرنَّ تأمُّلاً
وامْلِكْ عَلَيْك عنانَ طَرْفِكْ
فَلرُبَّما أرسلتَه
فَرَمَاكَ في ميدانِ حَتْفِكْ[6].

فمن كان وافرَ العقل في رمضان فليجعل أمام عينيه سياجًا من الورع دون الحرمات، وليبعد نفسه عن سوق الشبهات والشهوات الواردة إلى القلب عبر قناة العين، فمن زنت عيناه، فليسارع إلى العفاف والكف، وليخلع لباس الذنب، وليغسل جنابة النظر الحرام بدمع الندم الغزير الذي يغسل مجاري الشيطان، ويطفئ وهج النيران الذي قدحت زنادَهما العينان، وليلبس كساء التوبة لينال الغفران.

قال النبي صلى الله عليه وسلم: (كتب على ابن آدم نصيبه من الزنى مدرك ذلك لا محالة: فالعينان زناهما النظر، والأذنان زناهما الاستماع، واللسان زناه الكلام، واليد زناها البطش، والرجل زناها الخطا، والقلب يهوى ويتمنى، ويصدق ذلك الفرج ويكذبه)[7].

منتهى
06-19-2016, 12:04 PM
سِلاحُ المؤمن
غصون رمضانية (14)

تتقاطر على الإنسان في هذه الحياة جيوشُ المكاره جيشًا تلو جيش، فمنها ما يقيم ويأبى المغادرة، ولا تنجع معه وفود الوساطات، ولا عوامل التهدئة، ولا الحلول البشرية. ومنها ما يلم به، وينزل به ضيفًا غير مقيم، ولكن تختلف مُدد إقامته طولاً وقصراً.

فكم يعاني الإنسان في ليله ونهاره من الأوجاع والآلام، وكم يبقى في أيدي الهموم والأحزان، حتى يطول ليله، ويظلم نهاره:
وليلٍ كموج البحر أرخى سدولهُ
عليَّ بأنواع الهموم ليبتلي
فَقُلْتُ لَهُ لما تَمَطّى بصُلْبِهِ
وأردفَ أعجازاً وناء بكلكل
ألا أيّها اللّيلُ الطّويلُ ألا انْجَلي
بصُبْحٍ وما الإصْباحَ مِنك بأمثَلِ[1]

ويجافي النوم عينيه، ويستضيفه السهاد لديه:
نام الخَليُّ من الهُمومِ وبات لِي ♦♦♦ ليلٌ أُكَابِدُه وهَمٌّ مُضْلِعُ [2]
♦♦♦

مَن تستضفْه الهمومُ لم يَنَمِ
إلاَّ كَنومِ المريض ذي السّقم
ولا يزَلْ قلبُه يكابِد ما
تُولد فيه الهمومُ من ألم[3]

وكم تلجّ به الأشواق والحنين لشيء يروم وصاله، ودون لقائه خرط القتاد:
تمادى البعدُ دونهمُ فأمستْ
دموعُ العين لجّ بها التّمادي
لقد مُنع الرقادُ فبتُّ ليلي
تجافيني الهمومُ عن الوِساد[4]
وكم يطوّق مسارَّ الإنسان الخوفُ والاضطراب، فيظل مِقلاقًا يترنّح على قارب صغير في بحر هائج كبير.

وكم من أمانٍ تُرجى وطال طريق بلوغها، وكم من مخاوف مازالت أنياب بؤسها مكشرة لم يولد المخلِّص منها. وبين رجاء الفرج ونيل المنى يظل الإنسان أعزل محتاجًا إلى سلاح ماضٍ يدفع به ما يكره، ويصل به إلى ما يبغي.
إنَّ القلوبَ رواجفٌ
من أن يمسَّكَ شوكُ حاطبْ
ولكَ السلامةُ والسَّلا
مُ من المخاوفِ والمعاطبْ
كم دعوةٍ أسديتها
والليلُ مرتكمُ الغياهبْ
فجعلتها سوراً عليـ
ـكَ من الحوادثِ والنوائبْ[5]

فكان دعاء الإنسان ربه تعالى دون غيره هو ذاك السلاح الذي لا ينبو، والسهم الذي لا يطيش، والعدة الحربية التي لا يستطاع حظرها، ولا يمكن تحديد مداها، ولا يثقل حملها، ولا تقف أمام إصابتها -إذا قبلها الله- كلّ الدفاعات البشرية، فهو عابر الحدود، وهادم السدود، وممزق الحصون الجائرة، ومعجز الموانع البشرية القادرة.

لكن هذا السلاح الفتاك لا يحسن استعماله كل إنسان؛ " فإن السيف بضاربه:
إن السيوف مع الذين قلوبهم
كقلوبهن إذا التقى الجمعان
تلقى الحسامَ على جراءة حدّه
مثل الجبان بكف كل جبان[6]

فالدعاء يفتقر إلى شروط وآداب تحمله على معارج القبول حتى يتحقق المأمول، فالداعي المخلص، الحاضر القلب، الآكل من الطيبات، المختار للأوقات والأحوال المناسبة، الصابر على دوام الطلب يوشك أن يصل إلى هدفه:
لا تَيْأَسَنَّ وإنْ طالَتْ مُطالبَةٌ
إذا استعنَت بصبر أن ترى فَرَجا
إنَّ الأمور إذا انْسَدَّتْ مسالِكُها
فالصبرُ يفتح منها كلَّ ما ارْتَتَجا
أَخْلِقْ بذي الصبرِ أن يحظَى بحاجته
ومُدْمِنِ القَرْعِ للأبواب أن يَلِجَا[7]

إن للدعاء في رمضان الصيامِ خصوصيةً تجعل المسلم يسارع إلى بسط طلباته بين يدي ربه الكريم فيه، فالنفس في هذا الشهر منكسرة، والروح إلى القُرَب شفافة، والعبد الصالح على باب الله منيب مخبت، والزمان شريف، ورحمات الله فيه منهمرة؛ لذلك كانت الدعوة قريبة الإجابة ليلاً ونهاراً، فينبغي للعبد أن يغتنم هذه الأحوال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ثلاثة لا ترد دعوتهم: الإمام العادل، والصائم حين يفطر، ودعوة المظلوم)[8].

وروي عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: (إن لله تبارك وتعالى عتقاء في كل يوم وليلة – يعني: في رمضان - وإن لكل مسلم في كل يوم وليلة دعوة مستجابة) [9].

فيا من انبسطت في ساحته البلايا، وضيقت عليه سعةَ الدنيا، وأدمع عيونه وأسهرها مرُّ الشكوى، ولم يجد لها من دون الله كاشفة، ويامن طال زمن حَمل آماله، وأمضّه انتظار ميلادها السعيد، ويامن لجأ إلى الخلق لحاجته فلم تقضَ على أيديهم حاجته، هذا باب الدعاء يفتح مصراعيه في وجه المتوجعين والراجين والمردودين، فاطرقوا الباب طرقَ موقن موحد، وألحوا ولا تستحسروا فأنتم تطرقون باب غني كريم، قدير رحيم، سميع قريب ï´؟ وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ ï´¾ [البقرة: 186].

هيام
06-19-2016, 05:35 PM
جزاك الله خيراً وبارك في جهودك

علي علي
06-22-2016, 04:49 AM
بارك الله بك وجزاك كل خير

مها يوسف
06-22-2016, 01:03 PM
غاليتي الحبيبة منتهى
شكرا لك على المشاركة القيمة
بارك الله بك ورمضان مبارك
الف شكر

عبدالله احمد
06-22-2016, 01:15 PM
بارك الله بك وجزاك كل خير