#1
|
|||||||||
|
|||||||||
غصون رمضانية
هلالُ الفرح
غصون رمضانية (1) متى يهل حبيب القلوب من الآفاق؛ ليرسل إلى الأرواح أنوارَ السرور بدخول خير الشهور، وتنزل هدايا الرحمن التي تجلو العقول، وتهذب النفوس، وتطهر الجوارح؟ لقد طال انتظار المحبين على شواطئ الشوق، وهم يرقبون طلوع مؤذِنِ السعادة، وبشير موسم العبادة، فمتى تضيء السماء بطلعته، ويُهتك سترُ الظلام ببسمته، وتهبط الرحمات بميلاد شهره؟ الشوقُ بين ضلوعنا يتوقّدُ والعينُ في أفق السما تتردّدُ فمتى سيشرق شهرُنا ويهلّ مِن وسط الظلام هلالُه والمولِدُ؟ حتى إذا بدت من المطالع بشائرُ المنتظر الحبيب، وأطلّت على نواحي السماء إشراقة الحبور؛ استبشر المؤمنون، وعمهم الفرح، فأزهرت الوجوه، وانشرحت الصدور، وربما دمعت على الخدود العيون، فراحوا يفرشون طريق رمضان بالعزم الصادق على العمل الصالح، ويطلقون لجوارحهم العنانَ لتستبق في ميدان الصيام الصحيح، والقيام الخاشع، والتلاوة المتأملة، والأخلاق الحسنة، والكرم والجود، وغير ذلك من مجالات الخير والبر. فأهلاً بهلال تمتلئ به المساجد، ويمتد إلى المعوزين فيه سخاء الأماجد، ويغلب فيه على عموم المسلمين الإقبال إلى الخير المتنوع. وأهلاً بهلال تهل معه البركات، وتكثر فيه الخيرات، وتقضى فيه الحاجات، وينعم فيه ذوو الطاعات. وأهلاً بهلال يشير على المسلمين بجمع الكلمة، وتوحيد الصف، والانتصار على أمراض النفس، وصبغ المجتمع بصبغة الطهر. فيا من أدركه هلال رمضان حيًا صحيحًا اشكرِ الله على نعمة البقاء؛ لتدرك فضائله، وتنال نوائله، فكم من قريب أو بعيد أو صديق أو جار قد سبقوك إلى الآخرة فانقطعت أعمال جوارحهم، وربما يتمنى متمنيهم أن يرجع إلى الدنيا لينال بركة رمضان، فأنت الآن في مُنَاهم، وما أقرب أن يلحق آخر العباد بأولاهم. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لرجل وهو يعظه: (اغتنم خمسًا قبل خمس: شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك)[1]. وقال الشاعر: إذا هبّتْ رياحك فاغتنمها فعقبى كل خافقةٍ سكونُ ولا تغفلْ عن الإحسان فيها فلا تدري السكون متى يكونُ[2]. [1] رواه الحاكم والبيهقي، وهو صحيح. [2] البيتان لابن هندو، غرر الخصائص الواضحة، للوطواط (ص: 131). ساعد في نشر والارتقاء بنا عبر مشاركة رأيك في الفيس بوك |
06-19-2016, 11:43 AM | #2 |
|
غصون رمضانية (2)
منازلُ رمضان رمضان ضيف العام، ينزل على المسلمين أيامًا معدودة، فيختلف الناس في استقباله، ويتفاوتون في العيش معه أيام حلوله إلى وقت ارتحاله، فهو ضيف ينزل منازل شتى، فمن المنازل: منازل تظل مترقبة بحبٍّ وصولَه، وتعد الشهور والأيام والليالي شوقًا لاستقباله، فقد برح بها الانتظار، وكادت أن تذوب شوقًا؛ حرصًا على لقاء حبيب منتظر، ألفت في نزوله الراحةَ والسعادة تحت دوحة الطاعة الظليلة، حينما قضت حقَّ قِراه، وقامت بواجب الضيافة ومستحبه، فلسان حالها ومقالها لرمضان: فقلتُ له أهلاً وسهلاً ومرحبًا ♦♦♦ فهذا مبيتٌ صالح وصديق[1]. فهذه المنازل الكريمة تملك قلوبًا حية، وأرواحًا مشرقة، فرأت في نزول رمضان عليها غنيمة باردة، تتزود منها مغانم ليوم المغارم، وسحابة هتانة تهمي عليها بوابل من الطاعات، إلى ما لديها من طاعات فتكون: ï´؟ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ ï´¾ [البقرة: 265]؛ فلهذا تحيا منازلها مع هذا الضيف الكريم حياة طيبة، تغمرها البسمة واللذة، فإذا دنت ساعاتُ الرحيل رسمت ذكراها على القلوب الألم، وعلى الوجوه الحزن، وربما أرسلت على الخدود دموع الولَهِ، والحال كما قال ابن المعذل: إن السرور تصرّمتْ أيامُه منِّي وفارقني الحبيب المؤنسُ حالانِ لا أنفك من إحداهما مستعبراً أو باكيًا أتنفس ولمثله بكت العيون صبابةً ولمثله حزنتْ عليه الأنفس[2] ومن منازل رمضان: منازل قوم يستعدون لاستقبال ضيف العام بإعداد قائمة طويلة من مطعومات رمضان ومشروباته، فإذا اقترب الوعد الحق خرجوا إلى الأسواق، فآبوا بالأسواق إلى بيوتهم، فحملوا من الطعام والشراب ما اتفق واختلف في اللون والطعم والحجم، فمن أصنافه: صنوفٌ بيض وحمر مختلف ألوانها وغرابيب سود، ما إنّ جملة ذلك لتنوء بالعصبة أولي القوة، كأن رمضان هبط وحشًا كاسراً أُجيعَ سنة كاملة فجاء إليهم يذيب الشحم، ويأكل اللحم، وينقي العظم، فإذا نزل بهم مدّوا الموائد، وأوسعوا البطون، وأتعبوا النساء في المطابخ، وعانى عمّال النظافة بقايا أخوِنة[3] طعامهم وشرابهم؛ ولهذا يفرح تجار الأغذية بدخول رمضان فرحًا شديداً، لا بفضائله ونوائله، ولكن لأرباحهم المالية فيه؛ بسبب هذا الصنف من الناس. فأهل هذه المنازل يعدون رمضان للأجساد لا للأرواح، وللبطون لا للقلوب؛ ولهذا يُرَون بِطاءً في مسالك القربات، سِراعًا إلى طرق اللهو والملذات، فيثقل عليهم الصيام، وتطول عليهم الأيام، ويخرج رمضان ضيفًا ثقيلاً، ونازلاً مكروهًا، وراحلاً محبوب الرحيل، فكان الحال: ولما قضينا بالغِذا كلَّ حاجةٍ وأوسعَ في الإسراف من هو آكلُ فَتَرْنا عن الطاعات وامتدّ شهرنا وفاتت ذوي التبذيرَ تلك الفضائلُ ومن منازل رمضان: منازل قوم لا يأذنون لرمضان بدخولها، ولا يقبلون بنزوله عليهم؛ فهم ليسوا من أهل الطاعة، بل هم من هواة الخطيئة؛ ولذلك يفطرون رمضان معلنين بين الناس، أو غير معلنين، فرمضان عندهم كشعبان وشوال، فيمضي عنهم الشهر الكريم شاكيًا إلى ربه ما لقي من لؤمهم وتعديهم، أفلا يظن هؤلاء أنهم مبعوثون ليوم عظيم، يوم يقوم الناس لرب العالمين، فماذا سيقولون لله تعالى إذا قابلوه ولم يكرموا ضيفه، وقد جاءهم ليكرمهم؟!، وما موقفهم يوم القيامة وهم يرون كرمَ العطاء لمن نزل عليهم رمضان فأكرموه؟ قال الأَصمعي: أَنشَدَني رجل من أهل البصرة: فما لَك يوم الحشر شيءٌ سوى الذي تزوّدته قبل الحساب إلى الحشر إذا أنتَ لم تزرع وأبصرت حاصداً ندمتَ على التضييع في زمن البذر[4] [1] البيت لعمرو بن الاهتم، البيان والتبيين، للجاحظ (ص: 21). [2] ديوان عبد الصمد بن المعذل (ص: 76). [3] ( الخوان ): ما يؤكل عليه ( ج ) أخونة وخون وأخاوين، المعجم الوسيط (1/ 263). [4] أمالي ابن دريد (ص: 25). |
اقتباس |
06-19-2016, 11:44 AM | #3 |
|
رحلةٌ سعيدة غصون رمضانية (3) نزل الضيف الكريم فاهتز الكون فرحًا وطربًا، ومادت أغصانُ الإيمان نشوة وسروراً، وابتسمت أرض الطاعات استبشاراً وجذَلاً؛ فقد آن للكون أن يرى جموعَ المسلمين بين أعطافه يلبسون حلية الطاعة العامة؛ فتبرق جوانب الحياة صلاحًا وتقى، ويتثنون سعداء بين أكناف عبادة لا تزورهم إلا مرة واحدة في العام؛ فيعانقونها عناق الحبيب للحبيب. ولِدَ (الهلالُ فللحياةِ) ضياءُ وفم الزمان تبسّمٌ وثناء وتعطّر الكونُ الفسيح بنوره وتوالت الأنوار والأنداء[1] وحان للإيمان أن يعلو بنيانه، وتقوى أركانه، وتُجلا قسماته، وتمشي في المجتمع براهينه وآياته، فلعله في الشهور الأحد عشر الماضية قد أصيب بجروح المعاصي وصدوعها، ووهنِ المخالفات وقتَرها. ونزل برياض الطاعات موعدٌ تنبض فيه بالحياة الكاملة، فتورق أشجارها، وتمتد فروعها، وتشرق غصونها، وتفوح أطياب أزهارها، وتتهدل ثمراتها، فلعل أيامها السابقة قد جلبت لها الذبول والعبوس. فجاء رمضان لينطلق ركبُ الطاعة إلى مسالك العمل الصالح نشِطًا مكثِراً، مبيّتًا نية الصيام من الليل، قاصداً بالأعمال التي عزم عليها وجهَ الله تعالى وحده، غير مشركٍ لأحد فيها- سوى الله - توجهًا وتقربًا، متابعًا فيها رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، مقتديًا بقوله وفعله وحاله في رمضان. قال تعالى: ï´؟ قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا ï´¾ [الكهف: 110]. وقال تعالى: ï´؟ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا ï´¾ [الأحزاب: 21]. وقال رسول الله صلى الله عليه و سلم: (من لم يبيّت الصيام قبل الفجر فلا صيام له)[2]. فإذا هبّ على المسلم نسيمُ السحر فليشم أريجه وهو مبادرٌ إلى ثلاثة أعمال عظيمة، إلى صلاة - ولو ركعتين - يتلذذ بين قيامها وركوعها وسجودها، ï´؟ أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ ï´¾ [الزمر: 9]، وإلى دعاء يحمل على مدارجه الصاعدة رجاءَ آمال يبغيها، واستعاذةً من شرور يخشاها، مع استغفار يمسح به مدادَ خطايا صحيفته، ï´؟ كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ï´¾ [الذاريات: 17، 18]، والعمل الثالث تزوّده ليوم صيامه بلقيمات تشد بدنه، وتعينه على الاجتهاد في أعمال يومه الآتي، ولو تمراتٍ، أو جرعةَ ماء، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (تسحروا؛ فإن في السحور بركة)[3]، وقال صلى الله عليه وسلم: (السحور كله بركة، فلا تدعوه، ولو أن يجرع أحدكم جرعة من ماء؛ فإن الله عز وجل وملائكته يصلون على المتسحرين) [4]. إن هذه الرحلة السعيدة في جنان رمضان ستمتد شهراً كاملاً فلابد أن يأخذ المسلم أهبته، ويعد لها عدته، فقد قالت العرب: "قَبْلَ الرِّمَاءِ تُمْلأ الكَنَائِنُ" يعني: تؤخذ أُهبَةَ الأمر قبل وُقوعه[5]. فهي ليست يومًا ولا أسبوعًا فيفوته الخير إن دهمه التقصير والفتور، وليست عامًا فيملّها، أو يسوّف العمل فيها إلى قابل الأيام، بل هي شهر واحد فقط من عام كامل، وهبةٌ إلهية تستحق أن يستعد المسلم لها استعداداً خاصًا يقوم على ركنين: الأول: العزيمة الداخلية الصادقة التي تُعدّ المحركَ والوقود للعمل، فينبغي إذكاؤها وشحذها بالتأمل فيما أعده الله تعالى للمسابقين إلى الخيرات، المنتهزين فرصَ الباقيات الصالحات، والنظر في فجأة المنية، وورود قواطع العمل، وبلوغ الأمنية: اغتنمْ في الفراغ فضلَ ركوع فعسى أن يكون موتك بغته كم صحيحٍ رأيتَ من غير سقم ذهبتْ نفسه الصحيحة فلته[6] والركن الثاني: الجد في سَوْق الجوارح إلى الإكثار المتقن من العمل الصالح المتنوع-لازمًا ومتعديًا- ليلاً ونهاراً، سراً وجهاراً، ولو استطاع المسلم المسابق في مضمار القربات الانعتاقَ من أعمال الدنيا الصادة عن المسابقة من غير ضرر على ضرورة ليتفرغ لعبادة الله تعالى في رمضان فقد رزق خيراً كثيراً، وفي بقية الشهور تعويض ما فات من شؤون الدنيا في شهر رمضان، فإذا لقي الله تعالى وهو على مطية الجد فما أحسن وأعظم ما ينتظره عند الرب الكريم!: و(عِنْدَ الصَّبَاح يَحْمَدُ القَوْمُ السُّرَى ♦♦♦ وَتَنْجَلِي عَنهُمُ غَيَابَاتُ الْكَرَى)"[7]. [1] البيتان لشوقي دون ما بين القوسين. [2] رواه البيهقي والنسائي والدارقطني، وهو صحيح [3] متفق عليه. [4] رواه أحمد، وإسناده قوي. [5] مجمع الأمثال، للميداني (2/ 101). [6] بيتان منسوبان للإمام البخاري، مقدمة فتح الباري (ص: 482). [7] مثل يضرب للرجل يحتمل الَشَّقةَ رَجَاءَ الراحة، مجمع الأمثال، للميداني، للميداني (2/ 3). |
اقتباس |
06-19-2016, 11:45 AM | #4 |
|
رحلةٌ سعيدة غصون رمضانية (3) نزل الضيف الكريم فاهتز الكون فرحًا وطربًا، ومادت أغصانُ الإيمان نشوة وسروراً، وابتسمت أرض الطاعات استبشاراً وجذَلاً؛ فقد آن للكون أن يرى جموعَ المسلمين بين أعطافه يلبسون حلية الطاعة العامة؛ فتبرق جوانب الحياة صلاحًا وتقى، ويتثنون سعداء بين أكناف عبادة لا تزورهم إلا مرة واحدة في العام؛ فيعانقونها عناق الحبيب للحبيب. ولِدَ (الهلالُ فللحياةِ) ضياءُ وفم الزمان تبسّمٌ وثناء وتعطّر الكونُ الفسيح بنوره وتوالت الأنوار والأنداء[1] وحان للإيمان أن يعلو بنيانه، وتقوى أركانه، وتُجلا قسماته، وتمشي في المجتمع براهينه وآياته، فلعله في الشهور الأحد عشر الماضية قد أصيب بجروح المعاصي وصدوعها، ووهنِ المخالفات وقتَرها. ونزل برياض الطاعات موعدٌ تنبض فيه بالحياة الكاملة، فتورق أشجارها، وتمتد فروعها، وتشرق غصونها، وتفوح أطياب أزهارها، وتتهدل ثمراتها، فلعل أيامها السابقة قد جلبت لها الذبول والعبوس. فجاء رمضان لينطلق ركبُ الطاعة إلى مسالك العمل الصالح نشِطًا مكثِراً، مبيّتًا نية الصيام من الليل، قاصداً بالأعمال التي عزم عليها وجهَ الله تعالى وحده، غير مشركٍ لأحد فيها- سوى الله - توجهًا وتقربًا، متابعًا فيها رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، مقتديًا بقوله وفعله وحاله في رمضان. قال تعالى: ﴿ قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا ﴾ [الكهف: 110]. وقال تعالى: ﴿ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا ﴾ [الأحزاب: 21]. وقال رسول الله صلى الله عليه و سلم: (من لم يبيّت الصيام قبل الفجر فلا صيام له)[2]. فإذا هبّ على المسلم نسيمُ السحر فليشم أريجه وهو مبادرٌ إلى ثلاثة أعمال عظيمة، إلى صلاة - ولو ركعتين - يتلذذ بين قيامها وركوعها وسجودها، ﴿ أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ ﴾ [الزمر: 9]، وإلى دعاء يحمل على مدارجه الصاعدة رجاءَ آمال يبغيها، واستعاذةً من شرور يخشاها، مع استغفار يمسح به مدادَ خطايا صحيفته، ﴿ كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ﴾ [الذاريات: 17، 18]، والعمل الثالث تزوّده ليوم صيامه بلقيمات تشد بدنه، وتعينه على الاجتهاد في أعمال يومه الآتي، ولو تمراتٍ، أو جرعةَ ماء، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (تسحروا؛ فإن في السحور بركة)[3]، وقال صلى الله عليه وسلم: (السحور كله بركة، فلا تدعوه، ولو أن يجرع أحدكم جرعة من ماء؛ فإن الله عز وجل وملائكته يصلون على المتسحرين) [4]. إن هذه الرحلة السعيدة في جنان رمضان ستمتد شهراً كاملاً فلابد أن يأخذ المسلم أهبته، ويعد لها عدته، فقد قالت العرب: "قَبْلَ الرِّمَاءِ تُمْلأ الكَنَائِنُ" يعني: تؤخذ أُهبَةَ الأمر قبل وُقوعه[5]. فهي ليست يومًا ولا أسبوعًا فيفوته الخير إن دهمه التقصير والفتور، وليست عامًا فيملّها، أو يسوّف العمل فيها إلى قابل الأيام، بل هي شهر واحد فقط من عام كامل، وهبةٌ إلهية تستحق أن يستعد المسلم لها استعداداً خاصًا يقوم على ركنين: الأول: العزيمة الداخلية الصادقة التي تُعدّ المحركَ والوقود للعمل، فينبغي إذكاؤها وشحذها بالتأمل فيما أعده الله تعالى للمسابقين إلى الخيرات، المنتهزين فرصَ الباقيات الصالحات، والنظر في فجأة المنية، وورود قواطع العمل، وبلوغ الأمنية: اغتنمْ في الفراغ فضلَ ركوع فعسى أن يكون موتك بغته كم صحيحٍ رأيتَ من غير سقم ذهبتْ نفسه الصحيحة فلته[6] والركن الثاني: الجد في سَوْق الجوارح إلى الإكثار المتقن من العمل الصالح المتنوع-لازمًا ومتعديًا- ليلاً ونهاراً، سراً وجهاراً، ولو استطاع المسلم المسابق في مضمار القربات الانعتاقَ من أعمال الدنيا الصادة عن المسابقة من غير ضرر على ضرورة ليتفرغ لعبادة الله تعالى في رمضان فقد رزق خيراً كثيراً، وفي بقية الشهور تعويض ما فات من شؤون الدنيا في شهر رمضان، فإذا لقي الله تعالى وهو على مطية الجد فما أحسن وأعظم ما ينتظره عند الرب الكريم!: و(عِنْدَ الصَّبَاح يَحْمَدُ القَوْمُ السُّرَى ♦♦♦ وَتَنْجَلِي عَنهُمُ غَيَابَاتُ الْكَرَى)"[7]. [1] البيتان لشوقي دون ما بين القوسين. [2] رواه البيهقي والنسائي والدارقطني، وهو صحيح [3] متفق عليه. [4] رواه أحمد، وإسناده قوي. [5] مجمع الأمثال، للميداني (2/ 101). [6] بيتان منسوبان للإمام البخاري، مقدمة فتح الباري (ص: 482). [7] مثل يضرب للرجل يحتمل الَشَّقةَ رَجَاءَ الراحة، مجمع الأمثال، للميداني، للميداني (2/ 3). |
اقتباس |
06-19-2016, 11:45 AM | #5 |
|
ربان السفينة
غصون رمضانية (4) تنطلق الرحلة السعيدة بالله مجراها ومرساها تمخر عباب الزمن القصير، وعلى مقود سفينتها ربان القيادة الذي يزجيها إلى شطآن الأمان، ويلقي على رفقاء الركوب تعاليمَ السلامة، ومفرداتِ خطة الاستقامة. إن على كاهله مهمة عظيمة، وأمانة كبيرة؛ فهو النور الذي يشق سجوف الظلام ليعبِّد طريقًا منيراً للسائرين، وهو القبلة التي يتجه إليها الحيارى؛ ليعرفوا السبيل السالكة، والوجهة الصحيحة. إذا نحن أدلجنا وأنتَ إمامُنا كفى بالمطايا طِيبُ ذكراك حاديا وإن نحن أضللنا الطريقَ ولم نجد دليلاً كفانا نورُ وجهك هاديا[1]. وهو الذي يرقب أحوال رفقاء الطريق فيكون الطبيبَ لمدنَفهم، والواعظَ لمسيئهم، والمذكِّر لغافلهم، والمعلِّم لجاهلهم، والدليل لضالهم، والقدوة لهم في أقواله وأعماله، وهم يردون نهر أحواله يستعذبون ماء النجاة من قوله ومن فعله، وينظرون إليه نظرة إكبار وإجلال، ويسلمون له أسماعهم وقلوبهم، وينقلون ما رأوه عليه، وما سمعوه منه إلى الواقع العملي. فـ" كُلُّ الصَّيْدِ في جَوْفِ الفَرَا"[2]. فيا إمام المسجد، أنت ربان السفينة التي يفد إليها المصلون، وحادي القافلة الذي قدَّمه المتطهرون، وكبش الكتيبة الذي سوّده المتوضئون، والشامة التي يشرئب إليها الناظرون، وأنت في نعمة عظيمة، ووظيفة شريفة، إذا قمتَ بحقها، وأديت أمانة الله عليك فيها. قد رشحوك لأمر لو فطنتَ له ♦♦♦ فاربأ بنفسك أن ترعى مع الهمل[3]. فإذا جاء رمضان عظم الخَطب، وزادت التكاليف، وكثرت الحاجة إلى جهدك، والتفت الناس إلى بضاعتك، وانتظروا ما تقدمه لهم من عطايا الآخرة، فكنْ في أسنمة الثناء، ولا ترضَ لنفسك معرّةَ الهجاء. عليك بأرباب الصدور، فمن غدا مضافاً لأرباب الصدور تصدّراً وإياك أن ترضى (لنفسك سُبَّة) فتنحطَ قدراً من عُلاك وتُحقرا[4] فقُبيل مجيء رمضان أعدّ البرنامجَ الدعوي النافع المتنوع الذي تسير عليه في زمان الشهر الكريم، وليكن هذا البرنامج مما ترى أن الناس محتاجون إليه-فيمكن أن يكون فيه: مجالس تفسيرية وتدبرية للقرآن الكريم، وأحكام الصيام والزكاة، وشيء من رقائق، وسيرة وتاريخ إسلامي، وغير ذلك مما ينفع الناس. كما أنها نعمة عظيمة أن يأتي رمضان فيسوق جموعَ الناس إلى سفينتك التي تنجي الغرقى، وتصل بأهلها إلى بر السلامة، فبعض الذين تلاطمت بهم أمواج الغفلة واللهو أحد عشر شهراً لجأوا – راغبين - إلى مركبك، فأحسن استقبالهم، وأكرم قدومهم بحسن تعاملك، وبذوخ أخلاقك، وسعة صدرك، وقوة تحملك جهلَهم وضجيجهم ونقدهم واعتراضهم؛ فهم من مؤلفة رمضان؛ فابذل لهم زكاة رِفْقك، وصدقة صبرك. وحبّب إليهم المسجد وروَّاده بحسن تعليمك، وطيب تربيتك، ولين جانبك، وصدق نصحك، وحكمة معالجتك للأخطاء، وجمال ما تلقي عليهم من المعلومات والقالب الذي يوصلها إليهم. وهيّء الجوَّ المريح في أرجاء مسجدك، وأزلْ أسباب النفور عنه بقدر استطاعتك. وزيّن الصلاة بإتقانك للقرآن، وحسن صوتك، وهدوء قراءتك، وتخفيفك عن الناس إلى حد مقبول. ونحن نعلم وأنت تعلم أن الحِمل ثقيل، والعبء جليل، وقد تلقى من الناس مَن لا يقدرك حق قدرك، ولا يشكر لك فضلك وبَذْلك، بل قد تجد من يسيء إليك، ويلقي متواترَ اللوم عليك، وأنت سائر على الجادة، قائم بحق المهمة، فدع ذاك الجفاء والإساءة خلف ظهرك، ويمم نحوَ ثناء الله وثوابه، على بساط الإخلاص، غير ملتفت إلى مدح المادحين، وإعجاب المعجبين، ï´؟ فَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ï´¾ [الشورى: 36]. [1] الفوائد (ص: 41)، لابن القيم. [2] مثل يضرب لمن يُفَضَّلُ على أقرانه، مجمع الأمثال، للميداني (2/ 136). [3] البيت من لامية الطغرائي، الكشكول، للعاملي (1/ 303). [4] البيتان في نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب، للتلمساني (5/ 190)، دون ما بين القوسين. |
اقتباس |
06-19-2016, 11:46 AM | #6 |
|
ربان السفينة
غصون رمضانية (4) تنطلق الرحلة السعيدة بالله مجراها ومرساها تمخر عباب الزمن القصير، وعلى مقود سفينتها ربان القيادة الذي يزجيها إلى شطآن الأمان، ويلقي على رفقاء الركوب تعاليمَ السلامة، ومفرداتِ خطة الاستقامة. إن على كاهله مهمة عظيمة، وأمانة كبيرة؛ فهو النور الذي يشق سجوف الظلام ليعبِّد طريقًا منيراً للسائرين، وهو القبلة التي يتجه إليها الحيارى؛ ليعرفوا السبيل السالكة، والوجهة الصحيحة. إذا نحن أدلجنا وأنتَ إمامُنا كفى بالمطايا طِيبُ ذكراك حاديا وإن نحن أضللنا الطريقَ ولم نجد دليلاً كفانا نورُ وجهك هاديا[1]. وهو الذي يرقب أحوال رفقاء الطريق فيكون الطبيبَ لمدنَفهم، والواعظَ لمسيئهم، والمذكِّر لغافلهم، والمعلِّم لجاهلهم، والدليل لضالهم، والقدوة لهم في أقواله وأعماله، وهم يردون نهر أحواله يستعذبون ماء النجاة من قوله ومن فعله، وينظرون إليه نظرة إكبار وإجلال، ويسلمون له أسماعهم وقلوبهم، وينقلون ما رأوه عليه، وما سمعوه منه إلى الواقع العملي. فـ" كُلُّ الصَّيْدِ في جَوْفِ الفَرَا"[2]. فيا إمام المسجد، أنت ربان السفينة التي يفد إليها المصلون، وحادي القافلة الذي قدَّمه المتطهرون، وكبش الكتيبة الذي سوّده المتوضئون، والشامة التي يشرئب إليها الناظرون، وأنت في نعمة عظيمة، ووظيفة شريفة، إذا قمتَ بحقها، وأديت أمانة الله عليك فيها. قد رشحوك لأمر لو فطنتَ له ♦♦♦ فاربأ بنفسك أن ترعى مع الهمل[3]. فإذا جاء رمضان عظم الخَطب، وزادت التكاليف، وكثرت الحاجة إلى جهدك، والتفت الناس إلى بضاعتك، وانتظروا ما تقدمه لهم من عطايا الآخرة، فكنْ في أسنمة الثناء، ولا ترضَ لنفسك معرّةَ الهجاء. عليك بأرباب الصدور، فمن غدا مضافاً لأرباب الصدور تصدّراً وإياك أن ترضى (لنفسك سُبَّة) فتنحطَ قدراً من عُلاك وتُحقرا[4] فقُبيل مجيء رمضان أعدّ البرنامجَ الدعوي النافع المتنوع الذي تسير عليه في زمان الشهر الكريم، وليكن هذا البرنامج مما ترى أن الناس محتاجون إليه-فيمكن أن يكون فيه: مجالس تفسيرية وتدبرية للقرآن الكريم، وأحكام الصيام والزكاة، وشيء من رقائق، وسيرة وتاريخ إسلامي، وغير ذلك مما ينفع الناس. كما أنها نعمة عظيمة أن يأتي رمضان فيسوق جموعَ الناس إلى سفينتك التي تنجي الغرقى، وتصل بأهلها إلى بر السلامة، فبعض الذين تلاطمت بهم أمواج الغفلة واللهو أحد عشر شهراً لجأوا – راغبين - إلى مركبك، فأحسن استقبالهم، وأكرم قدومهم بحسن تعاملك، وبذوخ أخلاقك، وسعة صدرك، وقوة تحملك جهلَهم وضجيجهم ونقدهم واعتراضهم؛ فهم من مؤلفة رمضان؛ فابذل لهم زكاة رِفْقك، وصدقة صبرك. وحبّب إليهم المسجد وروَّاده بحسن تعليمك، وطيب تربيتك، ولين جانبك، وصدق نصحك، وحكمة معالجتك للأخطاء، وجمال ما تلقي عليهم من المعلومات والقالب الذي يوصلها إليهم. وهيّء الجوَّ المريح في أرجاء مسجدك، وأزلْ أسباب النفور عنه بقدر استطاعتك. وزيّن الصلاة بإتقانك للقرآن، وحسن صوتك، وهدوء قراءتك، وتخفيفك عن الناس إلى حد مقبول. ونحن نعلم وأنت تعلم أن الحِمل ثقيل، والعبء جليل، وقد تلقى من الناس مَن لا يقدرك حق قدرك، ولا يشكر لك فضلك وبَذْلك، بل قد تجد من يسيء إليك، ويلقي متواترَ اللوم عليك، وأنت سائر على الجادة، قائم بحق المهمة، فدع ذاك الجفاء والإساءة خلف ظهرك، ويمم نحوَ ثناء الله وثوابه، على بساط الإخلاص، غير ملتفت إلى مدح المادحين، وإعجاب المعجبين، ﴿ فَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ﴾ [الشورى: 36]. [1] الفوائد (ص: 41)، لابن القيم. [2] مثل يضرب لمن يُفَضَّلُ على أقرانه، مجمع الأمثال، للميداني (2/ 136). [3] البيت من لامية الطغرائي، الكشكول، للعاملي (1/ 303). [4] البيتان في نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب، للتلمساني (5/ 190)، دون ما بين القوسين. |
اقتباس |
06-19-2016, 11:49 AM | #7 |
|
جَنَّةُ التراويح غصون رمضانية (5) من دوحة رمضان الندية يمتد غصن مياد من أغصانها الناعمة ليصافح أهلَ المبادرة الذين يتتبعون شعف الأعمال، ومواقع قطر القربات؛ ليرووا روضة الإيمان؛ ليقوى عودها، وتورق فروعها، وتضحك أزاهيرها، ويفوح عبيرها. فتحتَ هذا الغصنِ الذي يتفيأ ظلاله وجماله عن اليمين والشمائل يلفي السبّاقون جنةً من جنات الدنيا يستحم فيها الفؤاد المفؤود، ويستجم فيها الصدر الجريح، وتغتسل العيون من قتام القسوة، ويلبس الوجه حلة نورانية مشعة، ويطلق الحِجا ليسبح في ملكوت الآيات، فيكسر مغالقَ الغفلة، ويفك قيود الفهم، وتنال الآذان نصيبها من سماع الجُمل العذبة التي تترقرق فيها ترقرق الجداول في الخمائل، وتأخذ الأقدام جظها من القيام الخاشع الذي تدخره ليوم قيامها لرب العالمين. تلك صلاة التراويح التي منَّ الله تعالى بها على أهل رمضان. تلك العبادة التي تعد من محرِقات الأوزار، قال رسول الله صلى الله عليه و سلم: (من قام رمضان إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه)[1] ومن صفات الأخيار الأبرار، الذين ï´؟ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ ï´¾ [النور:37]. تلك القربة التي يشتاق إليها المحسنون، وكلما اقترب نزول رمضان برّح بهم الحنين، وعظمت اللوعة: وأعظم ما يكون الشوق يوماً ♦♦♦ إذ أدّنت الخيام من الخيام[2]. فما أحسنَ تلك الجموع التي ظلت واقفة بين يدي ربها تسمع آيات كتابه تتلى عليها زمرة بعد زمرة، وهي لا تبرح مصلاها حتى يفرغ الإمام، طالبةً بصبرها ورباطها هذا ثوابَ الآخرة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الرجل إذا صلى مع الإمام حتى ينصرف حسب له قيام ليلة)[3]. لقد ترك هؤلاء القائمون أهلَ الغفلة وراءهم يحتسون كؤوس الخسارة، مثقلين بثقل بطونهم، أو مسلوبي النهى والعيون من وسائل إعلامهم، أو منصرفين إلى أعمال دنياهم، أو لاهين في أودية عبثهم، ومجالس قالهم وقيلهم، فالصالحون في شأن وسواهم في شؤون أخرى، فطوبى لأولئك القائمين، وحسرة على من لم يكن معهم. فيا من وفِّق لصيام رمضان لا تحرم نفسك من قيامه، ولا تنظر كثرة المعرضين عنه؛ فيصدك ذلك عن جنة التراويح؛ فإن أولئك اللاهين لن يحمدوا لهوهم، ولن يسلموا من توجع الندم حينما لا ينفع. فإذا رزقت ولوج نعيم هذه الجنة فتهيأ لها تهيؤاً صالحًا: فخفف حمولة الطعام والشراب؛ فالسباق إنما هو للخيل المضمرة، واهجر الروائح الكريهة؛ فإنها تنفر عنك صالحي السماء وصالحي الأرض؛ وسارع إلى الصفوف الأُول؛ فإنها تستحق المسابقة، وأرعِ للقراءة سمعك وقلبك؛ لتسمع فتتدبر فتعمل، فمتى وقعَ ذلك القول في القلبِ فرسخَ فيه نفعَ، فهذه طريق من طرق الفوز في رمضان: ومن طلب الوصولَ لدار ليلى ♦♦♦ بغير طريقها وقعَ الضلالُ[4]. [1] متفق عليه. [2] تزيين الأسواق في أخبار العشاق، للأنطاكي (1/ 58). [3] رواه أحمد وأبو داود والترمذي والنسائي وابن حبان، وهو صحيح. [4] نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب، للتلمساني (6/ 301). |
اقتباس |
06-19-2016, 11:51 AM | #8 |
|
حِليةُ الأخلاق غصون رمضانية (6) في حياتنا هذه يتباهى الناس بجمال الظاهر- الخَلْقي والمكتسب -، ويتفاخرون بحسن الشارات، وإشراق الهيئات، وانبلاج الصور، ولطافة البِزّة، وترقرق ماء الجمال في الوجوه. وينفقون على ظهور الكمال المستطاع في ذلك كثيراً من الحرص والنظر، والمال والوقت. ويأتي هذا الاعتناء بالتأنّق؛ لكون أكثر الناس المشاهدين يعنون[1] لدولة الحُسْن الذي تراه الأبصار، ولا يستهويهم الحسنُ الذي تراه البصائر والعقول. أما العقلاء والمؤمنون فيحبون الجمال الظاهر؛ لأن الله" جميل يحب الجمال"[2]، ولكون النفس مجبولة على الميل إليه، ولكنهم لا يقدمونه على الجمال الباطن، بل يرونه أدنى الجمالين لا أعلاهما. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم)[3]. لَيسَ الجَمالُ بمئزرٍ فاعلمْ وإِنْ رُدّيتَ بُرْدا إِنّ الجمالَ مآثرٌ وَمَناقِبٌ أَوْرَثْنَ مَجْدا[4] وينسب لعلي رضي الله عنه: ليس الجمالُ بأثواب تزيننا ♦♦♦ إن الجمال جمال العلم والأدبِ[5]. كمْ من جمال ظاهر يسبي العيون والأسماع، وفي داخله قبح فسيح يضيق القلوب والصدور، ï´؟ وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ ï´¾ [المنافقون: 4]. وكم من قبح ظاهر تقتحم صاحبَه الأنظار، ولكنْ في قاعه الدر كامن، وفي باطنه آفاق واسعة من الحسن البديع، الذي إذا ظهر عظمّت النفوس صاحبه، وتاهَ ذلك القبح البادي في متاهات ذلك الجمال المعنوي الرحب. فكم من جميل الصورة، قبيح السريرة، وكم من مبغوض المنظر، محبوب الجوهر. إن الجمال المعنوي للذوات هو نصيب القلوب الصافية، والعقول الواعية؛ لإدراكها أثرَ ذلك على الأفكار والسلوك، وأما الجمال الحسي فهو حظ العيون التي لا ترى إلا قشور الذوات، ولا تتجاوز ذلك إلى ألبابها التي قد تكون الدود عبثت بها نخراً وتفتيتًا حتى رمتْ وبليت، فما أكمل أن يجمع المرء بين جمال الباطن وجمال الظاهر، ويرضي القلوب والعيون معًا! وما أجمل قول حسان رضي الله عنه في رسول الله صلى الله عليه وسلم: وأَحسنُ منكَ لم ترَ قطُّ عيني وَأجْمَلُ مِنْكَ لَمْ تَلِدِ النّسَاءُ خُلقتَ مبرأً منْ كلّ عيبٍ كأنكَ قدْ خلقتَ كما تشاءُ[6]. إن الأخلاق الحميدة جمال معنوي يزين الإنسان ويطريه، ويحبّبه إلى الخلق ويُعليه؛ فهو حلية برّاقة، وكساء ساتر مشرق، ودوحة وارفة الظلال يجد الخلق تحت أوراقها الغضة، وأفنانها الميّادة طيبَ العيش، وحسن الجوار الذي يقيهم وهجَ كدر الأخلاق، وسوءَ لقاء أهلها. فالمتزين بهذه الحلية ينعم باله، ويحسن حاله، ويكثر خلاّنه، ويحتفّ به أخدانه، وتحلّ في داره السعادة، وإذا ابتغى بذلك وجه الله كان في عبادة. سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكثر ما يدخل الناس الجنة فقال: (تقوى الله، وحسن الخلق)[7]. إن الأخلاق الحسنة سرحةٌ عظيمة كثيرة الفروع تمتد إلى جميع الجهات، وليست فرعًا واحداً إلى جهة واحدة، فهي أخلاق مع الله تعالى: من الإخلاص له في عبادته، ومراقبته، وتقواه، وشكره وذكره وحسن عبادته، وغير ذلك. وهي أخلاق مع النفس: من صبر، وحلم، وقناعة، ومحاسبة، ومجاهدة، وغير ذلك. وهي أخلاق مع الخلق: من رحمة، وتعاون، ونصيحة، وحب، وسخاء، وحسن عشرة، وعفة، وحفظ للسان، والسمع، والعين، واليدين، والرجلين عن السوء، وغير ذلك. يأتي رمضان الإيمان ليسدل على المجتمع المسلم بساطَ الخلق الكريم بمعناه العام، فيعيش الرمضانيون في ظله حياة يعمرها الصيام والقيام، وصفاء الأحلام، وامتداد المحبة والوئام، وطهارة القلوب، وبشاشة الوجوه، وسلامة الجوارح من الإيذاء. ويأتي رمضان ليزداد خلق التقوى والمراقبة والخشية، ï´؟ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ï´¾ [البقرة: 183]. ويأتي رمضان ليساعد المسلم الصائم على تربية نفسه على الأخلاق الكريمة، فيصبر على ما تكره النفس، ويلجمها عن أهوائها، وانحرافِ ميولها. ويأتي رمضان ليعطي المسلم دروسًا في كسب القلوب، وجذب النفوس، فيحلم الصائم عند الاستغضاب، ويسخو ببشاته وابتسامته، كما يسخو بماله وعطفه. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (وإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب، فإن سابه أحد أو قاتله فليقل: إني امرؤ صائم)[8]. فما أجمل أن ترى الصائمين وهم يسعون صاعدين على مراقي حسن العبادة الخالصة، حتى يؤدوا حق الخُلق الحسن مع الله! وما أحسن أن ترى الصائمين وهم كالأزهار في روض الصفاء، كلهم ينشرون عبير الإخاء في الأرجاء، وتشرق البسمات الصادقة على قسمات وجوههم كما تشرق الشمس عند ميلادها على تلك الزهور المتعانقة، فيزدادون بريقًا وألقًا. وما أكمل أن تنبت هذه الأخلاق السامية في جنة الصوم، ثم تنمو وتشتد سوقها، وتصبح أشجاراً مثمرة بعد رمضان، فينال جناها الداني صاحبُها وغيره. إن الأخلاق ميزان الصيام، فمن حسن خلقه حسن صيامه، ومن ساء خلقه ساء صيامه. وما سوء الأخلاق التي قد تبدو على بعض الصائمين إلا برهان على وجود خلل في صيامهم فليراجعوا صومهم قبل أن تطوى الصحيفة، ويرتحل الضيف، ويذهب الشاهد، وتُقوّض السوق المعمورة بالخيرات. [1] عنا يعنو: خضع وذل. الصحاح للجوهري (7/ 290). [2] رواه مسلم. [3] رواه مسلم. [4] البيتان لعمرو بن معد يكرب. عيون الأخبار، لابن قتيبة (ص: 127). [5] ديوان علي بن أبي طالب (ص: 185). [6] ديوان حسان بن ثابت (ص: 2). [7] رواه الترمذي وابن حبان، وهو حسن. [8] رواه البخاري. |
اقتباس |
06-19-2016, 11:52 AM | #9 |
|
هُدًى للنَّاس
غصون رمضانية (7) في ليلة مباركة من رمضان سطع نورٌ عظيم في السماء، وهبطَ في سكون الليل البهيم إلى مكان ناءٍ ضمَّ بين جوانحه حاملَ هذا النور الموعود، الذي فرَّ من الدياجي القاتمة التي تحاصر بلدته "مكة"؛ ليجد في هذه البقعة القصية نورَ الأُنس بنور السماوات والأرض، وليرقب هذا اليومَ الأغرَّ الذي يعانق فيه نورَ الوحي، ويمضي به إلى الوجود؛ ليهديه من حيرته، وينجده من أمواج ظلمه وظلامه إلى ضفاف العدل والهدى. قال تعالى: ï´؟ شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ï´¾ [البقرة: 185]، وقال: ï´؟ حم * وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ * إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ * فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ * أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ * رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ï´¾ [الدخان: 1 - 6]. ففي غار حراء ائتلف نور القول، ونور الزمان، ونور المكان، فانسكب النور في أذن الهادي البشير صلى الله عليه وسلم فحمله فجراً إلى أهل الأرض الداجية؛ ليطوي به دهوراً حالكة جثمت على صدور الخلق، وليرسله إلى القلوب فيغسل عنها أدران الشرك والانحراف، فتشرق بالتوحيد والصفاء، وتبرق بالحياة والبهاء. بشرى من الغيب ألقتْ في فم الغارِ وحياً وأفضتْ إلى الدنيا بأسرارِ بشرى النبوة طافت كالشذا سحراً وأعلنت في الرُبى ميلادَ أنوار وشقّت الصمتَ والأنسامُ تحملُها تحت السكينة من دار إلى دار وهدهدتْ مكةُ الوسنى أناملَها وهزّت الفجرَ إيذانًا بإسفار فأقبل الفجرُ من خلف التِّلال وفي عينيه أسرارُ عُشّاق وسمّار كأن فيضَ السنا في كل رابية موجٌ وفي كل سفحٍ جدولٌ جاري تدافع الفجرُ في الدنيا يزفّ إلى تاريخها فجرَ أجيال وأدهار[1] هذا الكلام العظيم الذي أنزله الله تعالى على النبي الكريم نبعٌ عذب يتدفق على النفوس بالحياة الحقيقية التي تنتشلها من جفاف الموت، وعبوس الضلالة، وأغلال الأحزان؛ فتدب فيها الحياة كلّ الحياة، وتتشح بأثواب الهدى الضافية، وترسم على محياها مخايلَ السعادة الممتدة التي تحطّم قساوةَ الهموم والغموم. إن للقرآن في رمضان خصوصية وعلاقة متصلة؛ فرمضان شهر القرآن الذي أُنزل فيه، فالإكثار من قراءته في شهر بواكير نزوله تذكرٌّ لهذه النعمة التي لا تنقطع، وشكرٌ لمن أنزلها، واقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم الذي كان يدارس جبريل القرآن كلّ عام في رمضان، وفي رمضان تتضاعف الأجور، وقراءة القرآن من أعظم ما تُجتلب به الحسنات، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من قرأ حرفًا من كتاب الله فله به حسنة، والحسنة بعشر أمثالها، لا أقول: الم حرف، ولكن ألف حرف، ولام حرف، وميم حرف)[2]. وفي رمضان تخف البطن، وتضيق مجاري الشهوات، فيصفو العقل، ويرق القلب، وتقبل النفس، وتشرق الروح، فيعظم ميل المسلم إلى القراءة، وفي هذه الأحوال تؤتي تلك القراءة مع التدبر أكلَها كل حين بإذن ربها على الجوارح استقامةً وهداية. ولهذا كان الصالحون - وما زالوا - يُعنَون بالقرآن في شهر الصيام عناية خاصة، ويولونه اهتمامًا منقطع النظير، وكان العلماء منهم خاصة يدَعون كل شيء حتى مجالس الحديث والعلم؛ لينصرفوا عاكفين على قراءة كتاب الله تعالى،"؛ فلقد كان الزهري إذا دخل رمضان قال: فإنما هو تلاوة القرآن، وإطعام الطعام. وقال ابن عبد الحكم: كان مالك إذا دخل رمضان نفَرَ من قراءة الحديث، ومجالسة أهل العلم، وأقبل على تلاوة القرآن من المصحف. وقال عبد الرزاق: كان سفيان الثوري إذا دخل رمضان ترك جميع العبادة، وأقبل على تلاوة القرآن. وكانت عائشة رضي الله عنها تقرأ في المصحف أول النهار في شهر رمضان، فإذا طلعت الشمس نامت. وقال سفيان: كان زبيد اليامي إذا حضر رمضان أحضر المصاحف وجمع إليه أصحابه"[3]. فيا أيها المسلم، الباغي الخيرَ، الحريص على الأجر، دونك هذه الغنيمةَ الباردة، والنعمة المهداة، عبَّ من منهلها الثرِّ علالاً بعد نهل، والزمْ باب التلاوة ملازمة الدائن البخيل، وليكن القرآن في رمضان هِجِّيرك ليلك ونهارك؛ فالربح وفير، والعمر قصير، والأعمار تتصرم ببغتة الحِمام، والنجاة حاجتك، والثواب طِلبتك: وليس أخو الحَاجات مَنْ باتَ نَائماً ••• ولكنْ أَخُوها مَنْ يَبيتُ على وَجل[4]. ولكن لا تنسَ أن القراءة النافعة هي التي لازمها التدبرُ والحضور والتأمل، وباعدها الهذَّ والشرود والهذرمة، وأورثت رُقيَّ الروح، ونقاء القلب، وعملَ الجوارح، فمن نال ذلك فقد صار من أصحاب القرآن، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يقال لصاحب القرآن: اقرأ وارق ورتل كما كنت ترتل في دار الدنيا؛ فإن منزلتك عند آخر آية كنت تقرؤها)[5]. [1] ديوان البردوني (1 /331). [2] رواه الترمذي، وهو صحيح. [3] طلائع السلوان، لحمزة الفتحي (ص: 115). [4] البيت للطرماح، تفسير أبيات المعاني من شعر أبي الطيب المتنبي، لأبي المرشد المعري (ص: 91). [5] رواه الخمسة وغيرهم، وهو صحيح. |
اقتباس |
06-19-2016, 11:54 AM | #10 |
|
الكَنزُ الثَّمين
غصون رمضانية (8) هناك كنز ثمين يمتلكه كل إنسان، ولكنه لا يبقى عند كل أحد مصونًا من اللصوص الذين ينتهبونه، أو ينتهبون منه، فبعض الناس لا يشعرون أن لديهم هذا الكنز، وبعضهم يشعرون بذلك، غير أنه ليس ثمينًا عندهم؛ فلهذا لا يحرصون على حراسته، ولا يحزنون على سرقته منهم. أما العقلاء من الناس فيعدّون هذا الكنز من أثمن الكنوز، بل يعتقدون أن هذا الكنز لا يقوّم بثمن؛ لهذا فهم لا يهدرون منه شيئًا، ولا يدعون أحداً يستلب منه جزء، بل يقفون على خزائنه حراسًا يقظين، لا يصرفون من ذلك الكنز العظيم إلا فيما ينفع في العاجل والآجل. هذا الكنز الثمين هو الوقت، الذي يُعدّ راحلةَ الإنسان في سفر الحياة، وطريقه إلى التمتع بمتع الدنيا، ومجالَه الذي يصل به إلى الآخرة، وهو النعمة التي تجاهل قدرها كثير من الناس، فضيعوها، فضاع منهم خير كثير، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة والفراغ)[1]. أما الذين عرفوا عظمة الوقت فإنهم أكرموه بالحفظ والرعاية، فأكرمهم بثمر شهي من الأعمال الجبارة التي نتجت عن ذلك الاعتناء - كلٌّ على قدر ما اعتنى -، ونظرة متتبعة لعظماء الإنتاج الديني والدنيوي - في الماضي والحاضر - تدل على ما نقول. عرف الزمانَ ذوو العقول فأسرجوا هِممًا تتوق إلى العُلوِّ فطاروا فبدا الصباحُ على نواصي عزمهم بغنيمةٍ نِيلتْ بها الأوطارُ إن الوقت ليل ونهار يتسابقان دون توقف، ويسرعان من غير تريث، من استمهلهما لم يمهلاه، ومن استنظرهما لم يُنظِراه، والوقت للإنسان عمر واحد لا يقبل التثنية والجمع، فإذا ذهب واحده أتى الإنسانَ ما يوعَدُه، ï´؟ حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ï´¾ [المؤمنون: 99، 100]. والوقت حق شخصي صِرفٌ، لا يقبل البيع والشراء، ولا الهبة ولا العطية، ولا يستدينه أحد من أحد حقيقةً، والوقت غير مؤمن بالعودة، والرجوع إلى الوراء، فما ذهب منه فلن يعود. لقد أعطى الله تعالى الإنسان نعمةَ الزمن أرضًا خصبة يزرع فيها الشجر النافع الذي يطعم من ثمراته اليانعة - إذا زرع وتعهد زرعه بالري - راحةً في الدنيا، وفلاحًا في الآخرة. لهذا جاءت الشريعة الإسلامية بالحث على استثمار الوقت فيما يفيد الإنسان قبل فجأة الموانع من ذلك، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (بادروا بالأعمال؛ فتناً كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل مؤمناً، ويمسي كافراً، أو يمسي مؤمناً ويصبح كافراً يبيع دينه بعرض من الدنيا) [2]، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لرجل وهو يعظه: (اغتنم خمساً قبل خمس: شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك) [3]. إن الله تعالى قد كتب على المسلمين صيام رمضان لحكم عظيمة، لعل منها: تعليمهم المحافظة على الوقت، ونبذ ثقافة الفراغ من أذهانهم، ونزع لباس العبث والكسل والفوضى من أعمالهم. فرمضان دورة تدريبية تربي المسلم على معرفة شرف الزمان، وكيفية استثماره، فزمن صيام رمضان محدد في ابتدائه وانتهائه، والإفطار كذلك، فتناول الطعام والشراب وسائر المفطرات له وقت معلوم، والكف عنها له أيضًا زمن معين، والفراغ في رمضان - بعد أداء الواجبات - رُغِّب المسلم في ملئه بالنافع من القول والعمل ليلاً ونهاراً من صلاة نافلة، وتلاوة، وذكر، ودعاء، وجهاد، وإحسان، وغير ذلك من الأعمال الصالحة والنافعة، إضافة إلى الأعمال الدنيوية. كما أن الصيام المشروع يُبنى على التقليل من الفضول من طعام وشراب ونوم وكلام غير نافع وخلطة؛ لأن هذه الفضول تقتل جزء كبيراً من الوقت انشغالاً بها، وقطعًا عن غيرها من الأعمال المثمرة، وتركُها يعين على التوجه للأعمال المرغَّب فيها بقوة ونشاط. لهذا كله ينبغي للمسلم أن يدرك شرف زمان رمضان، فيملأ فراغه بالعمل المفيد الكثير، ويزيح عن باله وعن واقعه العملي وجودَ فَضلة وقت، فالوقت في حياة المسلم كلها - وخاصة في رمضان - كله عمدة. وما أجملَ أن يكون لدى المسلم في رمضان جدولٌ دقيق يسير عليه، فيجعل لعمل الدنيا وقتًا، ولقراءة القرآن وقتًا، وللأذكار والدعاء والتعلم والتعليم وبذل المعروف، وغير ذلك من الأعمال الصالحة أوقاتًا أخرى. وهذا التنوع المنظم الشامل لزمان رمضان يخفف على الصائم مشقة الصوم، بل ويجعل لشهر الصيام لذة وراحة، حتى تقضي الروح فيه وطرها في سعادة غامرة. وحينما لا يعرف المسلم شرف زمان رمضان، ونفاسة وقته تزداد مساحة الفراغ لديه فتحدث عنده مشكلات ومفاسد، وإن ملأ جزء من فراغه فقد يملأه بما لا يفيد، وأعداء الزمن الشريف قد أعدّوا للصائمين عبر وسائل الإعلام ما يشغلهم عن بركة رمضان، والمسابقة إلى خيراته. قيل لأبي العتاهية إسماعيل بن القاسم: " أي شيء قلته أحكم عندك وأعجب إليك؟ قال: قولي: علمتَ يا مجاشعُ بنَ مَسْعَدَهْ أنَّ الشبابَ والفراغَ والجِدَهْ مَفْسَدةٌ للمَرْءِ أيُّ مَفْسَدَهْ [4] فإذا انحدر المسلم إلى هذه الهوة السحيقة من معاناته مشكلةَ الفراغ، والانصراف إلى بذل الوقت النفيس في المحرمات أو التفاهات؛ فإنه تعظم خسارته البدنية والروحية، فالصيام سيثقل عليه حتى تطول عليه الأيام، ويجثم عليه ملال الطاعة، ويغدو يشكو من تخمة الفراغ المضني، ليستغيث من ذلك بالتخبط في الشوارع وأماكن اللهو خصوصًا بعد الظهر وبعد العصر، ملقيًا عن كاهله عبء الوقت وضيقه، فإذا جاء الليل نبض فيه عرق الحياة الغافلة، وانقدح في ذهنه زند اللهو المتقد، فصار عاكفًا في محاريب الغفلة، أمام قناة أو جوال، أو في مجلس للسمّار في غير طاعة، وهذا دأبه حتى يخرج رمضان فيكون في قائمة الخاسرين. ومن ترك الزمانَ بغير بذرٍ سيحصد عند يقظته الندامه وغرسُ السوء يثمر كلَّ سوء وغرس الخير يَبسُم بالسلامه [1] رواه البخاري. [2] رواه مسلم. [3] رواه البيهقي، وقال الحاكم: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي. [4] لباب الآداب، للثعالبي (ص: 172). |
اقتباس |
رد علي الموضوع |
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1) | |
|
|