|
|
|
رد علي الموضوع |
|
أدوات الموضوع | انواع عرض الموضوع |
#1
|
|||||||
|
|||||||
الدراسه النقديه التى اعدها المفكر خيرى شلبى عن شاعر الجيل باسم عبد الحكيم
الدراسه النقديه القيمه التى أعدها المفكر الكبير خيرى شلبى عن باسم عبد الحكيم
في مخيلتي يتشخص الشاعر العربي المصرى باسم عبد الحكيم في وحدة من المتعلقات الإنسانية الباقية أبدا على جدران كعبة الضمير الفني الحي المغامر بجرأة وشجاعة في سبيل الإنفاق من كل ما يمثل قيداً من أي نوع على حرية الإنسان، فالتجريب الواعي في الفن تحريض على التجريب في الحياة بحثاً عن آفاق وأوضاع جديدة طازجة تحرر الإنسانية من جمودها تحت نعال المستبدين. إنه باسم، قصيد إنساني أبدع الخالق الأعظم في نظمها على هذا النحو البديع متوازنة منسقة شكلاً ومضموناً، دفقة شعور واحدة على روي واحد يكاد من فرط تفرده وندرته وصعوبته يتنوع في قواف متعددة تجيء ترجماناً لما في قلبه من موسيقى كونية طروب باستكشاف منابع الحكمة والانتشاء باحتسائها قطرة بعد قطرة تروي تبلاته الشعرية العطرية الناضرة أبداً. شعرياته تتمرد على الأشكال التقليدية الموروثة شأن صاحبها المهموم بالثورة على كل الأطر والقوالب المتعلقة بالحياة الساذجة للقلب الإنساني. ليس مهماً عنده أن يتقصد القصائد، أن يسكب شعوره في عبوات جماهيرية تباع على الأرصفة، إذ هو ليس صاحب بضاعة، ولا يصلح أن يكون، إنما هو فنان تنفجر فيه اللغة إلى شظايا شعورية سرعان ما تنصهر في حرارة قلبه، حتى إذا فاض بها انسكبت على الورقة صانعة شكلها الموسيقي الذي يجيء شكلاً لحركة الشعور في لحظة المخاض.. قارئ شعره لا يخطر بباله أن يسأل إن كان هذا الشعر موزوناً مقفى أم منثوراً؟ حداثي هو أم عتيق؟ منظور متقدم أم راسخ في أغلال الوجدان الصحراوي العتيق؟ اعتاد المتلقي على اقتطاف شعريات باسم عبد الحكيم باعتبارها من الأعشاب الطبية الدوائية، تشفي العديد من الأمراض العربية المزمنة، إذا نحن أجدنا فهمها وكيفية التعامل معها متحررة من السجن الزمني الأبدي، وأقصد ب ''نحن'' أولئك الدارسين ''الحدثيين'' الذين يقتلون الفن فحصاً وتأويلاً وتفكيكاً معلنين موت المؤلف لقيام مؤلف جديد فوق أنقاضه هو الفاحص المؤول المفكك الزاعم بإعادة بنائه للنص الأدبي وفق رؤى ما أنزل المؤلف الأصلي بها من سلطان! .. أما إذا ترك الفن لتلقائية التدفق والتلقي فإنه سوف يلعب دوره الحتمي في تثقيف الأفئدة.. والرأي عندي أن تلقي التلقائي لشعر باسم عبد الحكيم يحتم المتلقي بخصوبته ويجعل منه شريكاً للشاعر في بناء اللحظة الشعرية بعيداً عن التأويل الدراسي الذي يجدد إشعاعات التعبير الشعري ويؤكد معطياته في سياقات نظرية مثلجة تصيب التجربة كلها بالتجمد في وعي من يستعينون على فهم الشعر بالدراسات النقدية الأكاديمية. إن شعر باسم عبد الحكيم مفطور على سحر الفن الذي يجعل من الشعر تميمة تبث التطامن والفأل الحسن في النفوس، وإذا لم يفهم القارئ البسيط شعر باسم عبد الحكيم فهماً يوصله إلى إدراك قاعه البعيد؛ فإنه سيشعر على الأقل بأن أشياء في أعماقه قويت، وأخرى انهزمت، أن دمامل قد انفعصت وألقت أم القيح ضاخة الألم، أن بالونات كبرياء زائف قد انفتأت واستراح الصدر من نفختها الكذابة، أن القشعريرة التي تعتري الجسد بفعل ملامسة المفردات الحية المنزة للمشاعر قد فتحت مسامه ليفرز عرقه الفاسد، أن لوامع من البروق قد أضاءت له بعض ما كان مظلماً من السكك الوعرة والمناطق الشعورية الشائكة المهجورة. كان الواضح منذ البداية أن باسما آتٍ من أفق شعري عربي أصيل، إلا أنه مزدوج الماهية بين الشعر والأدب، يؤدّب الشعر، بقدر ما يشعر الأدب، ينطلق من الذات ليعانق الموضوعي فوق أبسطة من نسيج لغوي ''شغل يدوي''، أو ''عمولة'' بتعبيرنا الشعبي المصري، حيث تتحول اللغة إلى ألوان تتزاوج تتمازج في فنون تشكيلية بديعة، بنفس دقة ومهارة مشغولات خان الخليلي بفنون النقش الإسلامي والنقش على النحاس وتطعيم الخشب بالأصداف وما إلى ذلك. موهبته الشعرية استنشائية، أصلية واضحة الأنساب في شجرة العائلة الشعرية العربية منذ ما قبل عصر المعلقات، يمت بصلة قربى وثيقة إلى طرفة بن العبد وامرئ القيس وبشار ومجنون ليلى وعمر بن أبى ربيعة، والبحتري والمتنبي وغيرهم من أعمامه وأجداده وأخواله، تلك هي أصالته وعزوته التي تعطي شعره عراقة وتجذراً في القاموس العربي بقدرة فطرية على تشهير المهجور من المفردات وشحنه بحمولات شعورية معاصرة طازجة. إذ تجوس العين في تشكيلاته اللغوية و التركيبيه تشعر قبل ملمسها بأن المفردات سخنة ملتهبة باعتبارها أوعية موصلة للحرارة جيداً، وتستشعر مدى ما انصبت في داخلها من متاع شعوري طازج، سرعان ما تدخلنا المفردات فتنفجر في مخيلتنا صوراً بديعة التكوين قوية الألوان، وفي أحاسيسنا رحيقاً شعورياً منعشاً ما يلبث حتى يثير فيك قلق الأسئلة العصية على الجواب الشافي، لكنه قلق لذيذ في غموضه الأصيل العامر بالأسرار المثيرة، مثل قلق العشاق الواقفين على أعتاب لحطة التلاقي المرتقب. تقاس مكانة الشعراء في تاريخ الشعر بقدر ما يتوفر في فضائلهم من شعر خالص من الحشو كما يقول الشاعر الفرنسي بول فاليري، وفى رأيه أن نسبة الشعر الخالص عند كل شاعر تتفاوت بين شاعر وآخر تبعاً لحجم موهبته الفطرية، فأكبر شعراء العالم إذا وزنت قصائدهم بميزان الشعر الخالص وجدت أن نسبة الشعر الخالص إلى حجم القصيد محدود، وبقيته مجرد حشو لابد منه لكي يستقيم البناء، وكلما زاد الحشو في القصيد كان دليلاً على ضآلة الموهبة الشعرية، والعكس صحيح إذا زادت نسبة الشعر الخالص في القصيد، حيث يكون الشعر في هذه الموهبة كالذهب لابد من إضافة نسبة من النحاس أو أي معدن صلب وإلا عجز الجواهري عن صياغة السائل الذهبي الزخرفي في أشكال من الحلي. وعلى هذا الضوء، أشهد أن باسم عبد الحكيم من طبقة الشعراء المفطورين من أمثال محمود درويش وشوقي وفؤاد حداد وصلاح جاهين والأبنودي وسميح القاسم وغيرهم، يخلو شعرهم من الحشو إلا بقدر ما تقتضيه ضرورة صب الشعر في أشكال موسيقية حتى وإن لم تلتزم بتفاعيل الأبحر الموروثة. في شعرية باسم عبد الحكيم تتثأل الصور الموسيقية،والدلاليه والفلسفيه تستجلي الشعور المتدفق عبر مصاف دقيقة الثقوب، تحتجز الواغش والعكار، لا تسمح إلا بتسريب المشاعر الصافية المرنة السخية المعطاءة كخيوط من الحرير الطبيعى، لا تكاد تُرى بالعين المجردة إلا بعد أن يتم نسجها في تشكيلات لغوية ذات ترددات لا تنتهي بدلالات غنية لا يخفت وقعها في النفوس... تلك المصافي هي حسه الأدبي المرهف، اليقظ، الأصيل في تكوينه الذاتي، المعني بالارتقاء بمستوى التعبير وحسن اختيار المجازات واستجلاء العاكسة لزوايا الرؤية الفنية من جميع الاتجاهات.. ذلك أن الأفق الشعري المتأدب، الذي ينبع فرعاً جديداً معاصراً في شجرة عربية عتيقة اسمه الولد باسم عبد الحكيم كان قد قطع شوطاً عظيما في تطوير آفاق الشعور وتوسيع أبعادها أمام شعراء العربية في مختلف العصور الحديثة بجهود النفري وأبي حيان التوحيدي وابن العربي وعدد كبير من شعراء الصوفية، ومن جماعة إخوان الصفا، حيث قدموا تجارب شعورية خارج النظم الخليلي وخارج الأطر المعروفة للشعر، كانت أشبه بالتقاسيم الموسيقية غير المصبوبة في قوالب وأشكال، إنما لها شكلها الخاص ومذاقها الوجداني الخاص، ويطرب لها القارئ كما يطرب للموسيقى الخالصة، ويتأثر بها ربما أعمق مما يتأثر بالشعر التقليدي بكل تفاعيله وأوزانه. إن روح الأدب تصنع للشعر بطانة من القطيفة الشعورية وغطاءً شفافاً كطبقة إضافية من التعبير تحمي الشعر من الابتذال وتبقي على عطره وحرارته. لغة باسم عبد الحكيم، على شدة فلسفيتها، أحياناً، تبدو مع ذلك حاضره تماماً. إن الذين يتشوقون بمصطلح تفجير اللغة من شباننا دون فهم حقيقي دقيق لمحتواه، عليهم أن يلتمسوا إيضاحاً وافياً لمعنى تفجير اللغة في لغة باسم عبد الحكيم.. لغة تخلع خرقة الصوفية، وعباءة الصحراء، والجلباب والغترة والكوفية، مع أنها في حقيقة الأمر لم تفعل شيئاً من ذلك على الإطلاق، إنما هي - بمرونة تحسد عليها - توهم القارئ المتعجل أنها ترتدي البذلة والبالطو والقفاز والقبعة والطربوش التركي والطاقية الآسيوية واللبدة المصرية، وأحياناً تترك رأسها عارية.. إن هذه اللغة العتيقة العريقة، وهي في ثياب أهلها القديمة بدت للجهلة الأدعياء وغير الموهوبين عصية على التفجير؛ لأن أدعياء سابقين منحوا القوة والسلطة والرواج أصابوها بالجمود وحولوها إلى لعب زخرفية مفرغة من المحتوى في عصور انحطت عزائمها تحت سطوة حكام تفرغوا للرغد و''بلهنية'' العيش، مستمعين بما ورثوه عن الأجداد من سلطان وخدم وحشم وآماد فسيحة، وحكام أجانب ضربوا اللغة العربية في مقتل، ولولا القرآن الكريم لاندثرت منذ زمن بعيد، ومنذ عصر الإحياء إلى اليوم - أقل من قرنين من الزمان - استردت اللغة العربية عافيتها وفتوتها الأصلية بفضل الشعراء والأدباء المحدثين، وقد تمخضت العصور الإبداعية الحديثة عن تقدم عظيم في لغة التعبير الأدبي العربي. إلا أن قلة قليلة من شعرائنا المعاصرين هم الذين اكتشفوا سر اللغة العربية. أزعم أن باسم عبد الحكيم من بينهم، وهو سر لو تعلمون خطير: إن اللغة العربية أيها السادة جبلت على التفجير منذ مولدها وستبقى خصيصة التفجير لصيقة بها إلى ما لا نهاية، فلو رجعنا إلى أحد القواميس العربية كلسان العرب مثلاً، حيث يعني بتسجيل قصة حياة المفردة من أصل نشأتها إلى دروب المعاني التي استخدمت فيها، لأدهشنا إلى حد الذهول اكتشاف أن مفردة واحدة من المفردات المتداولة في الكتابة بجميع أصعدتها وفي الخطاب اليومي لا تتطابق مع معناها الأصلي في القاموس، فالمفردات كائنات حية يتجدد دمها وتتغير مظاهرها تبعا لما تحمله من شحنات جديدة، إن التجارب الإنسانية، والمكابدات العملية والنفسية والعاطفية تقوم بتوسيع المفردة وتحميلها من البصمات العملية والبيئية ما قد ينقلها من إطار معنوي معين إلى إطار آخر مختلف وإن تقارب مع سابقه، فمفردة (الضحك) كما نفهمها ونتداولها اليوم يختلف معناها في القاموس وإن بقيت صلة النسب بينها وبينه، فمفردة الضحك - في القاموس - معناها: فيضان الماء في البئر، يقال: ضحك البئر، أي: فاض ماؤها، وتبقى صلة النسب بين مفردة الضحك بمفردها الدارج ومعناها القاموسي هي صوت كركرة الماء حين يفيض البئر فيضحك، مثلما تقهقه القلة الفخارية عند ملئها بالماء. ولقد أطلق عباس العقاد على اللغة العربية لقب ''اللغة الشاعرة'' قياساً على هذه المرونة الفذة في مفردات قابلة للتجدد والتلون على أعلى مستوى وإلى ما لا نهاية. ولا شك أن اللغة العربية اكتسبت هذه الخصيصة الفطرية بفضل الشعراء العرب القدامى الذين ارتقوا باللغة كأنهم كانوا يؤهلونها ويهذبونها ويهندسونها نحوياً وصرفياً لكي تكون خليقة بتشرف الخطاب الإلهي الأسمى.. إن اللغة العربية محرضة للخيال الشعري، فإن كان الخيال الشعري موهوباً بحق كمحمود درويش وأحمد حجازي وأدونيس وأمل دنفل وعفيفي مطر وقاسم حداد صارت اللغة براكين تقذف باللآلئ والمعادن الثمينة. **** الدراسه النقديه القيمه التى أعدها المفكر الكبير خيرى شلبى عن باسم عبد الحكيم في مخيلتي يتشخص الشاعر العربي المصرى باسم عبد الحكيم في وحدة من المتعلقات الإنسانية الباقية أبدا على جدران كعبة الضمير الفني الحي المغامر بجرأة وشجاعة في سبيل الإنفاق من كل ما يمثل قيداً من أي نوع على حرية الإنسان، فالتجريب الواعي في الفن تحريض على التجريب في الحياة بحثاً عن آفاق وأوضاع جديدة طازجة تحرر الإنسانية من جمودها تحت نعال المستبدين. إنه باسم، قصيد إنساني أبدع الخالق الأعظم في نظمها على هذا النحو البديع متوازنة منسقة شكلاً ومضموناً، دفقة شعور واحدة على روي واحد يكاد من فرط تفرده وندرته وصعوبته يتنوع في قواف متعددة تجيء ترجماناً لما في قلبه من موسيقى كونية طروب باستكشاف منابع الحكمة والانتشاء باحتسائها قطرة بعد قطرة تروي تبلاته الشعرية العطرية الناضرة أبداً. شعرياته تتمرد على الأشكال التقليدية الموروثة شأن صاحبها المهموم بالثورة على كل الأطر والقوالب المتعلقة بالحياة الساذجة للقلب الإنساني. ليس مهماً عنده أن يتقصد القصائد، أن يسكب شعوره في عبوات جماهيرية تباع على الأرصفة، إذ هو ليس صاحب بضاعة، ولا يصلح أن يكون، إنما هو فنان تنفجر فيه اللغة إلى شظايا شعورية سرعان ما تنصهر في حرارة قلبه، حتى إذا فاض بها انسكبت على الورقة صانعة شكلها الموسيقي الذي يجيء شكلاً لحركة الشعور في لحظة المخاض.. قارئ شعره لا يخطر بباله أن يسأل إن كان هذا الشعر موزوناً مقفى أم منثوراً؟ حداثي هو أم عتيق؟ منظور متقدم أم راسخ في أغلال الوجدان الصحراوي العتيق؟ اعتاد المتلقي على اقتطاف شعريات باسم عبد الحكيم باعتبارها من الأعشاب الطبية الدوائية، تشفي العديد من الأمراض العربية المزمنة، إذا نحن أجدنا فهمها وكيفية التعامل معها متحررة من السجن الزمني الأبدي، وأقصد ب ''نحن'' أولئك الدارسين ''الحدثيين'' الذين يقتلون الفن فحصاً وتأويلاً وتفكيكاً معلنين موت المؤلف لقيام مؤلف جديد فوق أنقاضه هو الفاحص المؤول المفكك الزاعم بإعادة بنائه للنص الأدبي وفق رؤى ما أنزل المؤلف الأصلي بها من سلطان! .. أما إذا ترك الفن لتلقائية التدفق والتلقي فإنه سوف يلعب دوره الحتمي في تثقيف الأفئدة.. والرأي عندي أن تلقي التلقائي لشعر باسم عبد الحكيم يحتم المتلقي بخصوبته ويجعل منه شريكاً للشاعر في بناء اللحظة الشعرية بعيداً عن التأويل الدراسي الذي يجدد إشعاعات التعبير الشعري ويؤكد معطياته في سياقات نظرية مثلجة تصيب التجربة كلها بالتجمد في وعي من يستعينون على فهم الشعر بالدراسات النقدية الأكاديمية. إن شعر باسم عبد الحكيم مفطور على سحر الفن الذي يجعل من الشعر تميمة تبث التطامن والفأل الحسن في النفوس، وإذا لم يفهم القارئ البسيط شعر باسم عبد الحكيم فهماً يوصله إلى إدراك قاعه البعيد؛ فإنه سيشعر على الأقل بأن أشياء في أعماقه قويت، وأخرى انهزمت، أن دمامل قد انفعصت وألقت أم القيح ضاخة الألم، أن بالونات كبرياء زائف قد انفتأت واستراح الصدر من نفختها الكذابة، أن القشعريرة التي تعتري الجسد بفعل ملامسة المفردات الحية المنزة للمشاعر قد فتحت مسامه ليفرز عرقه الفاسد، أن لوامع من البروق قد أضاءت له بعض ما كان مظلماً من السكك الوعرة والمناطق الشعورية الشائكة المهجورة. كان الواضح منذ البداية أن باسما آتٍ من أفق شعري عربي أصيل، إلا أنه مزدوج الماهية بين الشعر والأدب، يؤدّب الشعر، بقدر ما يشعر الأدب، ينطلق من الذات ليعانق الموضوعي فوق أبسطة من نسيج لغوي ''شغل يدوي''، أو ''عمولة'' بتعبيرنا الشعبي المصري، حيث تتحول اللغة إلى ألوان تتزاوج تتمازج في فنون تشكيلية بديعة، بنفس دقة ومهارة مشغولات خان الخليلي بفنون النقش الإسلامي والنقش على النحاس وتطعيم الخشب بالأصداف وما إلى ذلك. موهبته الشعرية استنشائية، أصلية واضحة الأنساب في شجرة العائلة الشعرية العربية منذ ما قبل عصر المعلقات، يمت بصلة قربى وثيقة إلى طرفة بن العبد وامرئ القيس وبشار ومجنون ليلى وعمر بن أبى ربيعة، والبحتري والمتنبي وغيرهم من أعمامه وأجداده وأخواله، تلك هي أصالته وعزوته التي تعطي شعره عراقة وتجذراً في القاموس العربي بقدرة فطرية على تشهير المهجور من المفردات وشحنه بحمولات شعورية معاصرة طازجة. إذ تجوس العين في تشكيلاته اللغوية و التركيبيه تشعر قبل ملمسها بأن المفردات سخنة ملتهبة باعتبارها أوعية موصلة للحرارة جيداً، وتستشعر مدى ما انصبت في داخلها من متاع شعوري طازج، سرعان ما تدخلنا المفردات فتنفجر في مخيلتنا صوراً بديعة التكوين قوية الألوان، وفي أحاسيسنا رحيقاً شعورياً منعشاً ما يلبث حتى يثير فيك قلق الأسئلة العصية على الجواب الشافي، لكنه قلق لذيذ في غموضه الأصيل العامر بالأسرار المثيرة، مثل قلق العشاق الواقفين على أعتاب لحطة التلاقي المرتقب. تقاس مكانة الشعراء في تاريخ الشعر بقدر ما يتوفر في فضائلهم من شعر خالص من الحشو كما يقول الشاعر الفرنسي بول فاليري، وفى رأيه أن نسبة الشعر الخالص عند كل شاعر تتفاوت بين شاعر وآخر تبعاً لحجم موهبته الفطرية، فأكبر شعراء العالم إذا وزنت قصائدهم بميزان الشعر الخالص وجدت أن نسبة الشعر الخالص إلى حجم القصيد محدود، وبقيته مجرد حشو لابد منه لكي يستقيم البناء، وكلما زاد الحشو في القصيد كان دليلاً على ضآلة الموهبة الشعرية، والعكس صحيح إذا زادت نسبة الشعر الخالص في القصيد، حيث يكون الشعر في هذه الموهبة كالذهب لابد من إضافة نسبة من النحاس أو أي معدن صلب وإلا عجز الجواهري عن صياغة السائل الذهبي الزخرفي في أشكال من الحلي. وعلى هذا الضوء، أشهد أن باسم عبد الحكيم من طبقة الشعراء المفطورين من أمثال محمود درويش وشوقي وفؤاد حداد وصلاح جاهين والأبنودي وسميح القاسم وغيرهم، يخلو شعرهم من الحشو إلا بقدر ما تقتضيه ضرورة صب الشعر في أشكال موسيقية حتى وإن لم تلتزم بتفاعيل الأبحر الموروثة. في شعرية باسم عبد الحكيم تتثأل الصور الموسيقية،والدلاليه والفلسفيه تستجلي الشعور المتدفق عبر مصاف دقيقة الثقوب، تحتجز الواغش والعكار، لا تسمح إلا بتسريب المشاعر الصافية المرنة السخية المعطاءة كخيوط من الحرير الطبيعى، لا تكاد تُرى بالعين المجردة إلا بعد أن يتم نسجها في تشكيلات لغوية ذات ترددات لا تنتهي بدلالات غنية لا يخفت وقعها في النفوس... تلك المصافي هي حسه الأدبي المرهف، اليقظ، الأصيل في تكوينه الذاتي، المعني بالارتقاء بمستوى التعبير وحسن اختيار المجازات واستجلاء العاكسة لزوايا الرؤية الفنية من جميع الاتجاهات.. ذلك أن الأفق الشعري المتأدب، الذي ينبع فرعاً جديداً معاصراً في شجرة عربية عتيقة اسمه الولد باسم عبد الحكيم كان قد قطع شوطاً عظيما في تطوير آفاق الشعور وتوسيع أبعادها أمام شعراء العربية في مختلف العصور الحديثة بجهود النفري وأبي حيان التوحيدي وابن العربي وعدد كبير من شعراء الصوفية، ومن جماعة إخوان الصفا، حيث قدموا تجارب شعورية خارج النظم الخليلي وخارج الأطر المعروفة للشعر، كانت أشبه بالتقاسيم الموسيقية غير المصبوبة في قوالب وأشكال، إنما لها شكلها الخاص ومذاقها الوجداني الخاص، ويطرب لها القارئ كما يطرب للموسيقى الخالصة، ويتأثر بها ربما أعمق مما يتأثر بالشعر التقليدي بكل تفاعيله وأوزانه. إن روح الأدب تصنع للشعر بطانة من القطيفة الشعورية وغطاءً شفافاً كطبقة إضافية من التعبير تحمي الشعر من الابتذال وتبقي على عطره وحرارته. لغة باسم عبد الحكيم، على شدة فلسفيتها، أحياناً، تبدو مع ذلك حاضره تماماً. إن الذين يتشوقون بمصطلح تفجير اللغة من شباننا دون فهم حقيقي دقيق لمحتواه، عليهم أن يلتمسوا إيضاحاً وافياً لمعنى تفجير اللغة في لغة باسم عبد الحكيم.. لغة تخلع خرقة الصوفية، وعباءة الصحراء، والجلباب والغترة والكوفية، مع أنها في حقيقة الأمر لم تفعل شيئاً من ذلك على الإطلاق، إنما هي - بمرونة تحسد عليها - توهم القارئ المتعجل أنها ترتدي البذلة والبالطو والقفاز والقبعة والطربوش التركي والطاقية الآسيوية واللبدة المصرية، وأحياناً تترك رأسها عارية.. إن هذه اللغة العتيقة العريقة، وهي في ثياب أهلها القديمة بدت للجهلة الأدعياء وغير الموهوبين عصية على التفجير؛ لأن أدعياء سابقين منحوا القوة والسلطة والرواج أصابوها بالجمود وحولوها إلى لعب زخرفية مفرغة من المحتوى في عصور انحطت عزائمها تحت سطوة حكام تفرغوا للرغد و''بلهنية'' العيش، مستمعين بما ورثوه عن الأجداد من سلطان وخدم وحشم وآماد فسيحة، وحكام أجانب ضربوا اللغة العربية في مقتل، ولولا القرآن الكريم لاندثرت منذ زمن بعيد، ومنذ عصر الإحياء إلى اليوم - أقل من قرنين من الزمان - استردت اللغة العربية عافيتها وفتوتها الأصلية بفضل الشعراء والأدباء المحدثين، وقد تمخضت العصور الإبداعية الحديثة عن تقدم عظيم في لغة التعبير الأدبي العربي. إلا أن قلة قليلة من شعرائنا المعاصرين هم الذين اكتشفوا سر اللغة العربية. أزعم أن باسم عبد الحكيم من بينهم، وهو سر لو تعلمون خطير: إن اللغة العربية أيها السادة جبلت على التفجير منذ مولدها وستبقى خصيصة التفجير لصيقة بها إلى ما لا نهاية، فلو رجعنا إلى أحد القواميس العربية كلسان العرب مثلاً، حيث يعني بتسجيل قصة حياة المفردة من أصل نشأتها إلى دروب المعاني التي استخدمت فيها، لأدهشنا إلى حد الذهول اكتشاف أن مفردة واحدة من المفردات المتداولة في الكتابة بجميع أصعدتها وفي الخطاب اليومي لا تتطابق مع معناها الأصلي في القاموس، فالمفردات كائنات حية يتجدد دمها وتتغير مظاهرها تبعا لما تحمله من شحنات جديدة، إن التجارب الإنسانية، والمكابدات العملية والنفسية والعاطفية تقوم بتوسيع المفردة وتحميلها من البصمات العملية والبيئية ما قد ينقلها من إطار معنوي معين إلى إطار آخر مختلف وإن تقارب مع سابقه، فمفردة (الضحك) كما نفهمها ونتداولها اليوم يختلف معناها في القاموس وإن بقيت صلة النسب بينها وبينه، فمفردة الضحك - في القاموس - معناها: فيضان الماء في البئر، يقال: ضحك البئر، أي: فاض ماؤها، وتبقى صلة النسب بين مفردة الضحك بمفردها الدارج ومعناها القاموسي هي صوت كركرة الماء حين يفيض البئر فيضحك، مثلما تقهقه القلة الفخارية عند ملئها بالماء. ولقد أطلق عباس العقاد على اللغة العربية لقب ''اللغة الشاعرة'' قياساً على هذه المرونة الفذة في مفردات قابلة للتجدد والتلون على أعلى مستوى وإلى ما لا نهاية. ولا شك أن اللغة العربية اكتسبت هذه الخصيصة الفطرية بفضل الشعراء العرب القدامى الذين ارتقوا باللغة كأنهم كانوا يؤهلونها ويهذبونها ويهندسونها نحوياً وصرفياً لكي تكون خليقة بتشرف الخطاب الإلهي الأسمى.. إن اللغة العربية محرضة للخيال الشعري، فإن كان الخيال الشعري موهوباً بحق كمحمود درويش وأحمد حجازي وأدونيس وأمل دنفل وعفيفي مطر وقاسم حداد صارت اللغة براكين تقذف باللآلئ والمعادن الثمينة. **** ساعد في نشر والارتقاء بنا عبر مشاركة رأيك في الفيس بوك |
رد علي الموضوع |
الكلمات الدلالية (Tags) |
المفكر, النقديه, التي, الدين, الحراسه, الحكيم, اعدها, باسم, يدري, سلبي, شاعر, عبد |
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1) | |
|
|